دعم الديكتاتوريات.. أم العمل نحو التعددية؟

حالة دعم الديكتاتوريات في الوطن العربي ظاهرة قديمة، خاصة من الشعوب التي تقطن خارج البلدان السلطوية البطشية. أسباب عديدة أدت إلى ذلك في منطقتنا العربية، فالعديد من الناس في البلدان التي لم تكتو بنار الديكتاتوريات انبهرت في الماضي، إما بمحاربة هذه الديكتاتوريات للإسلام السياسي، أو لادعائها بحماية الأقليات، أو لمعارضتها اللفظية لإسرائيل، حتى لو لم تترجم هذه المعارضة لأية أفعال حقيقية تقاوم الاحتلال والغطرسة الإسرائيلية. النظام السوري المخلوع ما هو إلا آخر مثال لأنظمةٍ ما إن سقطت حتى تبين للجميع مدى البطش الذي مارسته ضد شعوبها، وعشرات، بل مئات الألوف من مواطنيها الذين قتلتهم، ويتبين دائما أن الأقليات التي تدعي هذه الأنظمة حمايتها هي الأخرى عانت من التنكيل والبطش ما عانته كل مكونات المجتمع. وها هي سجون النظام السوري المخلوع شاهدة على حجم معاناة الشعب السوري العظيم، عبر العقود الخمسة الماضية.
وها هي الاحتفالات العفوية التي عمت مختلف المدن والمحافظات السورية، تعبر عن حقيقة مشاعر الناس الذين عانوا من النظام، مقارنة بمشاعر البعض ممن يعيشون خارج سوريا وممن دعموا النظام السابق لأسباب يجدون اليوم من الصعب تبريرها.

إسقاط أنظمة بطشية خطوة ضرورية لمستقبل أفضل، ولكنها ليست خطوة كافية، حان الوقت لإعادة الاعتبار للتعددية وللتشاركية وللديمقراطية

كيف نفسر هذه الظاهرة التي تكررت مرات عديدة في العالم العربي منذ الاستقلال في العصر الحديث؟ هل تنبهر الشعوب العربية بالحاكم القوي، حتى حين يمارس هذه القوة ضد شعبه؟ ولماذا يتم تجاهل ذلك؟ هل تنخدع هذه الشعوب بالوقوف اللفظي لهذه الأنظمة ضد إسرائيل بينما لم تطلق رصاصة واحدة من النظام السوري ضد الاحتلال الإسرائيلي للجولان مثلا؟ هل تتجاهل هذه الشعوب استعمال الأسلحة الكيماوية في العراق ضد الأكراد والبراميل المتفجرة ضد المدنيين في سوريا والسجون البشعة في كلا البلدين؟
يبدو لي إننا أقدر على التبرير السلبي لدعم الأنظمة البطشية من الدعم الإيجابي. أعني بهذا أن العديد منا يدعم أنظمة لوقوفها ضد فكرة أو تيار معين، كالإسلام السياسي أو إسرائيل مثلا، أكثر من دعمنا لما تقدم هذه الأنظمة من مشاريع إيجابية لدفع بلدانها نحو التقدم والازدهار. لم يكن الدعم السلبي يوما كافيا لبلورة مشاريع تحاكي احتياجات الناس وتؤدي لدعمها لأنظمتها السياسية. لقد وحدت المعارضة للوجود السوري في لبنان، على سبيل المثال، الكثير من مكونات المجتمع اللبناني، ولكن حين فشلت هذه المكونات في تقديم مشروع لبناني إيجابي لمستقبل البلاد، فقدت هذه المعارضة الكثير من زخمها. حان الوقت في نظري للانتقال من حالة الدعم السلبي لأنظمة سلطوية بطشية، إلى العمل نحو، بل الإصرار على، أنظمة تحترم تعددية مجتمعاتنا الجندرية والدينية والثقافية والإثنية. لقد سفه العديد منا مثل هذه الأفكار التي رأوا فيها تهديدا لمجتمعاتهم، حتى أصبحت الديمقراطية والتعددية لديهم قيمة سلبية. وبشر العديد منهم بانتهاء الربيع العربي الذي رأوا فيه عامل هدم وخراب، ولكنهم في المقابل، لم يتقدموا بمشروع إيجابي لمعالجة المشاكل التي أدت للاحتجاجات العربية، بل اكتفوا بالتخويف من الإسلام السياسي، أي مرة أخرى بالدعم السلبي، من دون تقديم حلول إيجابية. والنتيجة أتت واضحة. لن تبقى الشعوب ساكنة إلى الأبد بينما لا تعالج مشاكلها، ولن ينجح البطش والقبضة الأمنية في حمل الناس على الخنوع اللامتناهي. لعل ذلك من أكبر الدروس التي تعلمنا إياها الحالة السورية، كما حاول أن يعلمنا إياها العديد من حالات انهيار الأنظمة في الكثير من الدول العربية، مثل ليبيا واليمن وغيرهما. أن إسقاط أنظمة بطشية خطوة ضرورية لمستقبل أفضل، ولكنها ليست خطوة كافية، حان الوقت لإعادة الاعتبار للتعددية وللتشاركية وللديمقراطية. إعادة الاعتبار هذه تعني إعادة تركيز البوصلة نحو الإصرار على نظم تعددية تحترم مكونات المجتمع كافة. لقد وقفت شخصيا ضد ممارسات النظام السوري طيلة حياتي السياسية، وفي الوقت نفسه فإن حكمي على النظام الجديد مرتبط ارتباطا وثيقا بمدى التزامه الفعلي، لا اللفظي، بالتعددية، أي نظام جديد لا ينظر إلى النساء أو العلويين أو الأكراد أو الدروز أو المسيحيين، أو أي مكون آخر من مكونات المجتمع السوري، نظرة متساوية، نظام لا يستحق الدعم.
في زمننا هذا، لا يجوز أن يدعي أحد احتكار الحقيقة، أو يحاول أي كان فرض نظام حياته على باقي المجتمع. من حق المسيحيين، بل من واجبهم، التظاهر إن أحرقت شجرة عيد الميلاد، ومن حق العلويين، بل واجبهم، الوقوف ضد أي محاولة للانتقام الجماعي منهم لمجرد أن بشار الأسد علوي. كما آن الأوان للاعتراف بالأكراد كمواطنين ومواطنات سوريين لهم كامل حقوق المواطنة كما عليهم كامل واجباتها.
هكذا يبنى المجتمع السوري الجديد، ليس بالبطش، ولكن بالتشاركية. على المجتمع السوري، والمجتمعات العربية كافة، واجب اليوم بعدم الاكتفاء بالانتظار ريثما تتضح معالم النظام السوري الجديد، ولكن بإعلاء الصوت والوقوف الواضح مع الالتزام بالتعددية، بل واحترامها والاحتفاء بها، ومعارضة كل من لا يقوم بذلك في المستقبل. لنعطي التعددية والديمقراطية ما تستحقان من احترام.
وزير أردني سابق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. رامي:

    تعيش المجتمعات في العالم العربي بطيفها الشعبي والرسمي حالة من الفراغ والإرباك الفكري والنفسي والسياسي نتيجة غياب خطاب جديد يعبر للمستقبل ليس فيه ذلك الخلط المعهود بين ما هو مفهوم وما هو معقول… دائرة مفرغة من القلق والتوتر وتراجع الثقة الذي يولده الشعور بالعجز عن فهم الكثير من الأمور!… وتستمر العلاقة المتوترة…
    تحياتي

  2. يقول عامر عريم:

    ادعو الله سبحانه وتعالى أن يمكن ألشعب السوري من عبور هذه المرحلة الصعبة بسلام وأن يحقق الاستقرار والسلام والنظام الديموقراطي وذلك بتطبيق الاهداف التالية
    اولا ً اشراك كافة مكونات الشعب السوري وخاصة اولئك الذين لم يرتكبوا جرائم اثناء الحكم السابق في المناقشات بشأن نظام الحكم الجديد
    ثانياً اجراء الانتخابات تحت اشراف الامم المتحدة. اعتقد ان اربعة سنوات للإعداد للانتخابات في سوريا طويلة وقد تساعد الامم المتحدة في اختصار تلك الفترة.
    ثالثاً يجب على الحكومة السورية الحالية الطلب إلى مجلس الامن للامم المتحدة لوقف الاعتداءات الاسرائيلية على سوريا
    يجب على الدول العربية والاسلامية وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي العمل مع الامم المتحدة والمنظمات الدولية لوقف التدخل الأجنبي في القضية الكردية السورية خاصة وان الحكومة السورية الجديدة قد دخلت في مفاوضات مع القيادات الكردية السورية.وكذلك وقف الاعتداءات الاسرائيلية على سوريا.

  3. يقول Ahmad:

    جميل دكتور..

  4. يقول العلمي:

    نعم لتعددية من أجل البناء و التنمية و من أجل الوحدة و القوة. أما التعددية على الطائفية و المحاصصة كما في لبنان فلا. من الأوجب الإنتظار مع حكومة متماسكة و قوية حتى تنضج البيئة الثقافية على التسرع و المجازفة بوجود الوطن

  5. يقول د. رجب السقيري / سفير متقاعد:

    ‎أتفق مع معالي الوزير د. مروان المعشر أن الديمقراطية والتشاركية يفترض أن تكون الخيار الأفضل بعد القضاء على استبداد وبطش الأنظمة ، ولكن الطريق إلى الديمقراطية الحقيقية لا يتم تحت شعار إنصاف ذوي الهويات الفرعية الأمر الذي يقود إلى المحاصصة البغيضة والتي تبقي الديمقراطية في حالة مؤقتة وتجعلها تسير على حبل مشدود لا تلبث أن تسقط منه وتقع في براثن النزاعات الطائفية والإقليمية التي قد تؤدي إما إلى تفكك الدولة وتقسيمها إلى دويلات صغيرة أو إلى حرب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر ، والمثال اللبناني حاضر أمامنا ويدعونا إلى استبعاد الديمقراطية القائمة على أساس المحاصصة تحت ذريعة إنصاف الأقليات . ولعل أمام النظام السوري الانتقالي الآن فرصة للبقاء كدولة موحدة إذا استطاع بناء دولة مواطنة مدنية لا تقوم على المحاصصة وتعدد الهويات الإقليمية والطائفية والعرقية ، بل تقوم على المساواة بين مواطنيها وعلى سيادة القانون الذي ينطبق على الجميع من حيث الحقوق والواجبات . هذا من الناحية النظرية ، ولكن السؤال الأهم هنا هل تسمح العوامل الخارجية لنظام الحكم الإنتقالي الحالي في سوريا أن يقيم دولة مواطنة ديمقراطية تسودها المساواة والعدالة القائمة على أساس سيادة القانون ؟ سننتظر ونرى .

اشترك في قائمتنا البريدية