دمشق… صخرة الحرية وحكاية رائحة

في ليلة خريفية باردة وفي شارع السلام المكتظ بالمارة أغوتني حركة الناس الدافئة وسط ملابسهم الشتوية، فركنت ورفيق لي إلى عتبة دكان مغلق، تطارحنا الأحاديث ولم تكن حول سوريا. كنت متدثرا بـ»جلابتي» الوبرية، منتشيا بالنسيم اللاسع لديسمبر/كانون الأول، تحلو لي هذه الليالي من السنة لأنها تحمل دفء الناس، دفئا ينسجونه بمواقدهم وأسمارهم في البيوت، أو حتى عبورهم في الشوارع ملتفين في ما حاكته أيديهم من غزل الوبر والصوف. مرّ علينا صديق لقضاء بعض حوائجه، ولما أقفل راجعا صوب سيارته استدار برأسه وقال مازحا: لا تكتب عني شيئا، وكان قد التحق بنا صديق آخر أغوته جلستنا فقرفص، ويبدو أنه لم يستسغ عبارة الصديق العابر، فتحدث وكنت أرى سعادة استثنائية شكلتها تقاسيم وجهه: السوريون في كلامهم حلاوة، يعرفون كيف ينظمون اللغة فتتقاطر عسلا في قلوب ووجدان سامعيهم، صدقوني لقد زرت سوريا كثيرا.
صخرة المأساة صخرة الحرية:
يقول الأكاديمي والقاص السعيد بوطاجين: «إن أرصفة دمشق حْنِينَة (حنونة)»، تلك صياغة الإنسان الجمالية للمكان بوجدان جزائري عفوي، فحلاوة السوري وحنان أرصفة دمشق عادا يتوثبان أمام ناظري في تلك الأمسية الباردة في مناخها الدافئة بخطوات الناسِ، المختلفة الاتجاهات الرائية بشغفِ العودة إلى البيت، ذلك شغف السوري وهو يستقبل الأحداث متسارعة فيسارع بكل ما أوتي من حياة ليغالب بُعْدَ المسافة، وغربة قسرية ليرسم مسارا نحو بيته ومكانه الذي غادره متيقنا رجعته، وهذا ما سجلته غادة السمان في إهداء روايتها «يا دمشق وداعا»: «إلى مدينتي الأم دمشق.. التي غادرتها ولم تغادرني..»، وفي الفصل الأول تترك للقارئ اختيار أحد العنوانين الفرعيين، واخترت دون تفكير «أنا صخرة في قاسيون»، لكن الرواية تبدأ بهذه الجملة الهامسة في سكون المكان: «يجب أن أنسل من السرير من دون أن يشعر بذلك»، هل تستطيع الصخرة التي تمتد جذورها في عمق الجبل أن تنسل منه؟ يُحيل هذا الهمس القارئ المعني بخطاب الراوي إلى ما قبل التسلل، حيث الفضاء العائلي المفعم بالدفء والتكتل والسمر والليل، والاستعداد للارتماء في جناح الحلم، أي في أتون الحرية المتعالقة وتلاشي الجسد في ارتخاءات المنام. تقدم الصخرة رمزيا مأساة سيزيف، ويعتبر التسلل محاولة للانفكاك من الشقاء الأبدي والاندراج في معنى قابل للتحقق الإنساني في الحرية. في نهاية الرواية يصبح الهمس اعترافا بقيمة مثلى، تتحقق بالمواجهة وليس الهروب، «قررت ألا أقفز إلى الهاوية ثانية، بل أن أكتشف أجنحتي لأطير.. لأطير..»، الاعتراف الصارخ في النهاية يؤكد مناخ الحرية في همس البداية.
دمشق أو حكاية اسمها رائحة:
في مقاله في «القدس العربي» أهدى الكاتب السوري صبحي حديدي «ثلاث جوريات.. باللون الأحمر ومن طراز الوردة الدمشقية» إلى ثلاثة أشخاص تمددوا في الغياب، رحلوا دون أن يرَوْا ثمرة نضالهم، تلك الثمرة التي تعتبر اللحظة الفاصلة في، إما الوقوف على رأس الجبل والتحديق عاليا، أو التدحرج ثانية إلى القاع مع استمرار الحمل العبثي لعبء الهمس الحالم مع جمود المبادرة.
ثلاث جوريات باللون الأحمر المعشق بحب دمشق تلك التي كتبت لها غادة السمان «رسائل الحنين إلى الياسمين»، ووثقت لحظة اللقاء معها كتابة، «حينما أكتب عن دمشق، تتحول ورقتي إلى شراع أبيض، ويصير القلم في يدي سنبلة وأصابعي قوس قزح». الكتابة دوما وسيلة سفر واقتراب من المعنى كما الأمكنة والناس، ولا أشد تعبير عن ذلك الوجدان المشتاق كالرائحة، ولهذا وجد يعقوب «ريح» يوسف عليهما السلام، والرائحة هي المعادل الموضوعي للورد الذي يتضمن عنصري اللقاء والابتهاج، وكلا الأشخاص والأمكنة يختزنان البعد التمييزي بالرائحة، وبذلك تتحدد العلاقات الخاصة بهما في إطار الفرح المؤطر باللون والشكل والحضور (الرائحة)، فحضور أصدقاء صبحي حديدي ودمشق غادة السمان منتصرٌ في الغياب بالرائحة التي يستحيل موتها، لأنها لصيقة بالكيان الحاضر الذي توهج فيه الغياب مفعما باللون والشكل، وهما أهم ما يميز الورد، والذي يحيل إلى دمشق عند صبحي وغادة، «تخطيط أولي لوجه المدينة « بتعبير جواد الأسدي. تسترجع الذاكرة غياب الذوات والأمكنة بحضورها في ما ترسب من أثرها في الوعي، سوف تكون المدينة بلا معنى إذا لم تستصحب في تضاريسها ما يميزها ويجعلها علامة دالة على الحضور الدائم في متخيل عاشقيها، هي مسرحية تمتلك لذة التاريخ الطويل لحركة الجسد على خشبة الواقع، التواءاته المكثفة بالتأويل والدلالة بعيدا عن الرقص الماجن.
المدينة هي الحركة الواعية في العقل والنفس والوجدان والمتخيل، هي تماما كما رأى جواد الأسدي في معنى المسرح عند سعد الله ونوس، «تحريك وإعادة تكوين ما ضاع أو لملمة المكسور»، لهذا فالعودة إلى دمشق، أو كما يسميها السوريون  «شام» هي عودة حنينية بالأساس محمومة بالحنين وروائح الزمن الذي أخذته من عاشقيها، لكنهم ما عادوا ليستردوا شيئا منها، جاءت عودتهم لتستعيد فقط مع المدينة تاريخ المسافات والانفصال القهري عنها، حتى تُسَد الفراغات في وجدانيهما وتُلَمْلم جراحات الماضي وتتفجر الروائح من جديد، تلك التي ملأت أخاديد المنفى فما غابت المدينة وما اندثرت حكايتها.
يروي دريد لحام حكاية طريفة لما كانوا في كندا لعرض مسرحي، لما أنهوا مهمتهم حلوا ضيوفا على رئيس البلدية فقال كلمة على شرفهم، ثم قام دريد لحام ليرد المجاملة فقال: إن مونتريال مدينة نظيفة لذلك يهتم رئيس بلديتها بالثقافة، فنُقلت الكلمة وشايةً على إنه قال إن شام وِسْخَة، وهذه هي دمشق حتى وهي مادة للوشاية تكون برائحتها التي ليست في الأخير سوى ياسمين الشرفات في الحارات والأحياء والأماكن وRosa Damascena مهداة للقلوب الحاضرة في الغياب.
الحزن رافعة الحنين إلى الوطن:
في مسارات العثور على الحلقات السرية في المنفى في الذات أو الوطن أو الغربة، تلتقي المدن كعناوين للهوية الأولى التي تُعرف بها مسافات العودة الجريحة إليها بالفقد والحنين، لهذا لا يمكن أن تتكرس الأمكنة في الذات المتعبة بالرحيل والالتفات المرهق نحو الأثر المكاني الذي كلما سرنا قدما إلى الأمام في طريق المغادرة، تضاءلت تضاريسه، لكنها تزداد اتساعا في المخيال وفي الكيان، وكان سعدي يوسف مغالبا لهذا الإحساس بغياب المكان بأن جعل الحنين عدوا، «أي هذا الحنين /أي هذا العدو الذي يطردني/ويطاردني»، بعد هذا يقول سعدي: «أعتقد منذ اعتبرت الحنين عدوا استقام ظهري»، وهكذا كانت كل المدن التي زارها، أعتقد، تتأثث له ببقايا الذاكرة الناشئة في البصرة وبالتحديد في حمدان.
إن الأمكنة هي حركة البشر، الناس هم العلامة الأبرز والأقوى دلالة على وجودها واستمرارها، لهذا لما زارت جواد الأسدي أمه في دمشق أخذها إلى «بيت سعد الله ونوس قبل السيدة زينب». دمشق هي المدينة، المسرح المفتوح على عبق التاريخ، هذا الأخير ينبثق بكل ثقله وما جرى فوق الأرض هناك، وأصبحت له رائحة نجدها في كل بقعة تضيئها الأنفاس الحلوة لكلام السوريين، والحزن الجميل الذي لف الماغوط بفراق زوجته وتجاهَلَه دريد لحام في مسرحية «ضيعة تشرين» 1974، وكان السبب في فراقهما، وقال إن لحام حولها إلى اسكتشات راقصة، ولم يعبر عن الحزن الذي في داخلي، أنثى الماغوط هي دمشق التي عاشها وعاشته، راقصا معها وعلى ركحها في كل حلمٍ بنص، وحزنه على زوجته هو حزن دمشق العابر لعيون عاشقيها. كان السوريون بحاجة إلى التفكير في حزن الماغوط كي يعرفوا الحنين إلى دمشق، لأن الحزن هو الرافعة الأبدية للحنين، وهنا لا يمكن أن نساير سعدي في عداوته مع الحنين إبداعيا، فهو ذاته يقول: «تصير المسافات لي راية/إن أهلي بعيدون/لا تحمل الطير أخبارهم لي»، في الكلام الشعري نبرة حزن يكشفها ويغذيها البعاد، وعلى عكس سعدي يقاوم جواد الأسدي موت الحنين ويراه «مقاومة للسلطة التي تنفي الفنان لا من أجل تحطيم جسده! بل لتهميش ذاكرته ولدفن يومياته، وإلغاء حميمياته!».
كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عمران:

    نعم، دمشق صخرة الحرية، لكن يبدو أن هذه الصخرة تحولت إلى تمثال من الارتباك والإيديولوجيا المتناقضة، وقد تصبح عبئًا على السوريين أكثر من تحولها إلى رمز للتحرر. فبعد سنوات من حكم بشار الأسد، الذي خنق البلاد بإيديولوجيته القمعية، يواجه السوريون اليوم تحوّلًا جديدًا، حيث ظهر زعيم هيئة تحرير الشام الذي جاء من بعيد، كما جاء تشي غيفارا في زمنه، فوق دبابة، مرتديًا نفس اللباس العسكري ونفس اللحية، وربما ما ينقصه فقط، سيجار كوبي و قبعة تشي الشهيرة ليكتمل المشهد الثوري. ولكن، كما كان حال تشي في أمريكا اللاتينية، فإن وسامة هذا الزعيم لن تحل المشاكل التي يعاني منها الشعب السوري. فحتى لو جاء مُرتديًا زي البطل الثوري، فإن إيديولوجيته المتزمتة لن تكون أكثر من عبء ثقيل على شعبٍ يطمح إلى التغيير الحقيقي، لا إلى مزيد من الأصفاد الإيديولوجية، مهما كانت جذابة في المظهر.

  2. يقول On:

    نعم، دمشق صخرة الحرية، لكن يبدو أن هذه الصخرة تحولت إلى تمثال من الارتباك والإيديولوجيا المتناقضة، وقد تصبح عبئًا على السوريين أكثر من تحولها إلى رمز للتحرر. فبعد سنوات من حكم بشار الأسد، الذي خنق البلاد بإيديولوجيته القمعية، يواجه السوريون اليوم تحوّلًا جديدًا، حيث ظهر زعيم هيئة تحرير الشام الذي جاء من بعيد، كما جاء تشي غيفارا في زمنه، فوق دبابة، مرتديًا نفس اللباس العسكري ونفس اللحية، وربما ما ينقصه فقط، سيجار كوبي و قبعة تشي الشهيرة ليكتمل المشهد الثوري. ولكن، كما كان حال تشي في أمريكا اللاتينية، فإن وسامة هذا الزعيم لن تحل المشاكل التي يعاني منها الشعب السوري. فحتى لو جاء مُرتديًا زي البطل الثوري، فإن إيديولوجيته المتزمتة لن تكون أكثر من عبء ثقيل على شعبٍ يطمح إلى التغيير الحقيقي، لا إلى مزيد من الأصفاد الإيديولوجية، مهما كانت جذابة في المظهر.

اشترك في قائمتنا البريدية