من أجمل ما عرض على شاشة التلفزيون المغربي حتى الآن في الموسم الرمضاني 2025، الفيلم التلفزيوني الجديد «دمليج زهيرو»، الذي يشتبك بالخيال مع قصيدة رائعة من قصائد الملحون المغربي، قصيدة دمليج زهيرو الباقية بفنيتها الرفيعة، وأثرها الجمالي الذي لا يزول، حيث تتناقلها الأصوات المغربية وحناجر كبار مطربي الملحون وأساطينه في المغرب، وتتلقاها أسماع المغاربة وقلوبهم كجزء عميق من تراثهم الخاص وثقافتهم المتفردة. وكذلك تمتد هذه القصيدة بأشعتها الجمالية إلى خارج المغرب، ليسمعها غير المغاربة ويتذوقوا جمالها، سواء من المغاربيين من أهل شمال افريقيا أو المشارقة، من أهل المشرق العربي، أو من مصر التي هي في المركز والمنتصف.
في هذا الشهر الكريم كان المغاربة على موعد جديد مع قصيدتهم الأثيرة، عندما عرض فيلم «دمليج زهيرو» على شاشة القناة الثانية المغربية، ليخوضوا معها تجربة فنية أخرى تختلف عن السماع البحت، كأنهم أمام تردد معين من ترددات خيال هذه القصيدة وظل من ظلال جمالها. على مدى ساعة ونصف الساعة تقريباً، يعيش المشاهد مع الدمليج والملحون وقصة الحب، ومدينة فاس العريقة، التي تعد من أقدم مراكز العلم والحضارة في العالم، مع شوارعها التاريخية وأزقتها ذات التصميم العبقري المعقد النابع من العقلية المغربية، وجنان سبيلها البديع، وسقاياتها الأثرية، بما تحمله من قيم دينية إسلامية ومعان إنسانية مليئة بالخير، وكذلك بما تقدمه من فن ومتعة بصرية لا مثيل لهما عبر الزليج الآسر للنظر، والمبهر للعقل بجودة إتقانه، فالزليج صنعة الفنان المغربي على مر الزمان وأعظم أسرار حرفته.
من خلال الفيلم يسير المشاهد في أسواق فاس القديمة ويناظر حوانيتها التقليدية الزاخرة بلباس المغاربة المحفور باسمهم في ذاكرة التاريخ وعلى أوراق الزمن، الذي لا يزال حاضراً في حياتهم اليومية في القرن الحادي والعشرين، كممارسة عادية واستخدام مستمر دون اصطناع أو تعمد ودون أن يتحول الأمر إلى احتفال فولكلوري، فملابس المغاربة بأنواعها المختلفة وقطعها الفريدة المتميزة، هي تراثهم الحي المستمر، الذي لم ينفصل عنهم ولم ينقطعوا عنه في يوم من الأيام. ولأن الزليج هو بصمة إصبع المغربي، ولأن من يذهب إلى المغرب يراه في كل مكان، ففي الفيلم نرى الزليج في كل مكان أيضاً، على الجدران والأرضيات والأعمدة ودرجات السلالم في البيوت من كبيرها إلى بسيطها. ونرى كذلك القفطان درة الإبداع المغربي، في مجال الأزياء وأجمل ما صمم لترتديه المغربيات، ولا يقتصر حضور القفطان في الفيلم على المناسبات الاجتماعية أو الأفراح، بل هو في الفيلم كما هو في الواقع رداء المرأة المغربية حتى في بيتها، ويكون في هذه الحالة ذا مظهر أكثر بساطة وأقل تعقيداً، يمكّن المرأة من أن تمارس مهامها المنزلية وهي ترتديه.
ينقل الفيلم صورة طبيعية عن المغرب تمتلئ بالتفاصيل الجميلة، كما يقدم جرعة ثقافية معتبرة يحتملها دائماً هذا النوع الفني المسمى بالفيلم التلفزيوني، حيث يمكن من خلاله تقديم الكثير من الأمور، التي قد يصعب تقديمها من خلال الفيلم السينمائي على سبيل المثال، ويعد فيلم «دمليج زهيرو» دليلاً على أهمية إنتاج الفيلم التلفزيوني وضرورة الحرص على وجوده.
قصيدة من ديوان المغاربة
الفيلم من إخراج حسن بنجلون، واجتمع على كتابة السيناريو والحوار أربعة مؤلفين من بينهم المخرج نفسه أيضاً، والجميل في الأمر، أن المشاهد لا يشعر بوجود أكثر من مؤلف لهذا العمل، فلا فوضى في الأفكار ولا شتات في الخيال. يسير الفيلم في إيقاع سريع ويعتمد على مشاهد مختصرة صنعت بناءً موحداً في النهاية، كما يستمد الفيلم من القصيدة روح التشويق ويقدم قصة الدمليج في إطار الملهاة إذا أمكن القول، حيث النهاية السعيدة وقصة الحب الخالية من التقلبات الدرامية، والمكر اللطيف، وربما التنكر والتلاعب المقبول ببعض الحقائق، أو بالعاشق نفسه أحياناً من أجل هدف مشروع، يتلقاه العاشق بفرح وابتسام بعد أن يكتشف الأمر ويهنأ الجميع ويعم الاحتفال. شارك في الفيلم كل من المسرحي عبد الحق الزروالي والفنان عز العرب الكغاط الذي شاهدناه في رمضان الماضي في مسلسل «حرير الصابرة»، بالإضافة إلى مجموعة من الممثلين والممثلات كل في دوره الملائم له.
«دمليج زهيرو» قصيدة من أروع قصائد الملحون، نظمها الشيخ العيساوي الفلوس، وغناها الكثير من مطربي الملحون في المغرب، من أبرزهم الحسين التولالي بأدائه الجميل وأسلوبه الرائع. القصيدة طويلة يستغرق غناؤها أكثر من عشرين دقيقة، فيها الحكاية والخيال والسرد الرائع والعقدة والحل والوصف الجميل، وفيها ثراء لغوي لافت ومدهش، سواء على مستوى التعبيرات أو الاشتقاقات، فالملحون ديوان المغاربة المكتوب بلهجتهم المغربية العامية، لكن هذه اللهجة العامية تتسع للفصحى أو للكلمات، التي قد تبدو فصيحة، وتستطيع هذه العامية أن تقف شامخة إلى جوار الفصحى في ميدان الشعر، الذي يعد أصعب مقياس لقدرة اللغات واللهجات. تروي قصيدة الدمليج حكاية عاشق كان في صحبة معشوقته، وعندما حان وقت الفراق أعطته الحبيبة سوارها الذهبي المرصع بالأحجار والجواهر الثمينة، ليحفظه ويصونه كتذكار منها على أن يعيده إليها في اللقاء المقبل، لكن الدمليج يضيع من العاشق ويبدأ رحلة البحث عنه. ويكون القسم الأكبر من القصيدة مخصصاً لوصف الدمليج، ومدى جماله وندرته وانعدام مثيله، وعملية البحث والتفتيش والإحساس بالندم والحسرة الذي يسيطر على العاشق، والأماكن التي يجول فيها باحثاً عن الدمليج، وهي شوارع ومناطق في فاس والمغرب. يظل العاشق يحكي ما جرى له خلال رحلة البحث عن الدمليج، ومن التقى بهم من أشخاص إلى أن يعود ويلتقي بحبيبته مرة أخرى. وهكذا تصطحب هذه القصيدة سامعها في رحلة جمالية مدهشة، وتدخله في خيال آسر وسرد محبوك يجذبه ويجعله متشوقاً في كل مرة، كما لو كانت المرة الأولى التي يستمع فيها إلى القصيدة.
الاحتفاء بالملحون
يحتفي فيلم «دمليج زهيرو» بالملحون الذي تم تسجيله كتراث غير مادي باسم المملكة المغربية في اليونسكو عام 2023، ونستمع من أصحاب هذا الفن في الفيلم إلى معلومات قيمة للغاية عن الملحون وألوانه وطرقه وقواعده، ولا يقتصر الأمر على دمليج زهيرو الذي هو بطل الفيلم، فهناك حضور لقصائد أخرى من أجمل قصائد الملحون، كقصيدة الشمعة والغزال فاطمة ولالة غيتة وغيرها من القصائد التي نستمع إلى شذرات خاطفة منها، تغنى سريعاً على لسان الممثلين. لم يعالج الفيلم قصيدة دمليج زهيرو بطريقة تقليدية، بأن يقدم السرد القصصي كما ورد فيها، خصوصاً أنه يحتوي على العناصر اللازمة كافة، إلا أن كتاب الفيلم صنعوا خيالاً آخر مستوحى من خيال القصيدة ويتقاطع معه ويلتقي به في كثير من النقاط، لكنه يدور في مجاله طوال الوقت، يقترب منه أحياناً ويبتعد عنه أحياناً، وعند لحظة معينة يلتحم به أشد الالتحام، على الرغم من اختلاف الفترات الزمنية، فالعاشق الذي نراه في الفيلم حائراً ملتاعاً يبحث عن الدمليج يبدو كأنه هو العاشق القديم ذاته في زمن آخر. والعاشق في الفيلم هو عبد الوهاب، الشاب الوسيم المتفوق الذي يستعد للسفر إلى مصر من أجل الدراسة والحصول على الدكتوراه، والمحبوبة هي زهرة أو زهيرو الفتاة الجميلة الرقيقة، التي يصعب عليها فراق عبد الوهاب وسفره إلى مصر، فتهديه دمليجها الثمين المتوارث عبر نساء عائلتها، ليظل يذكره بها ولا ينشغل عنها أثناء وجوده في مصر. وبينما يسعى عبد الوهاب لإتمام خطبة زهرة قبل السفر، ومع ما يحتاجه الأب للتأكد من أخلاق هذا الخاطب واختباره في بعض الأمور، يضيع الدمليج وتتعقد الأمور وتتوالى الأحداث المشوقة حتى الوصول إلى الحل المفرح. ولا شك في أن المشاهد المصري على وجه الخصوص يسعده أن يصغي إلى بضع كلمات باللهجة المصرية في موقف مرح لطيف، وأن يجد مقارنة سريعة بين الفول المدمس المصري والبيصارة والمعقودة المغربيتين، وأن يستمع إلى أغنية أهواك تؤدى على غرار الملحون.
كاتبة مصرية
إستمتعنا بالمقال يادكتوره .. ” دمليج زهيرو ” الذي هو من أروع قصائد الملحون لكاتبها الشيخ العيساوي الفلوس .. و تمنيت لو أعيد تناولها بآداء مصري …
و دعيني يا دكتوره أستأذن أستاذنا الجليل السيد : هيثم .. الذي أكن لشخصه الكريم كامل تقديري وبالغ إحترامي و أطيب تمنياتي .. أستأذنه في مشاركته رفع القبعة عالياً لكِ دكتوره مروه .. فقد أضحيتِ – بعد الدكتوره عائشه عبد الرحمن ” بنت الشاطئ ” إبنة مدينة دمياط التي أقيم بها .. أطال الله عمرك – أضحيتِ يا دكتوره نافذتنا علي مختلف مظاهر الحياة الإجتماعية في المغرب ..
سلم يراعك يا دكتوره .. و لا إنقطع مدادك ..
شكرا من القلب ❤