دولة الآداب العامة وصياغة «ثقافة المجتمع»

تتكرر بشكل كبير، في العالم العربي، قضايا محاكمة وتجريم ممارسات وتعبيرات اجتماعية وثقافية، باعتبارها مخالفة لـ»الآداب العامة»، وربما كانت الحالة المصرية الأكثر دلالة في هذا السياق، فإلى جانب قضايا «ازدراء الأديان» و»إهانة رموز الدولة»، تصبح صيانة السلوك الاجتماعي القويم مهمة أساسية لدول لا تنقصها المشاكل والأزمات على كل الصعد. لا يتعلق الأمر بملاحقة مجموعة من الناشطين المنفصلين عن المجتمع، الذين «يستوردون» سلوكيات تتعارض مع الحساسية الاجتماعية، فالمحاكمات تطال نساءً ورجالاً من مختلف الفئات، بما فيها الفئات الأكثر شعبية وفقراً، بسبب ممارسات لا يمكن أن تهدد الأمن العام للدولة، مثل الرقص والغناء أو ارتداء نوع معيّن من الملابس.
السؤال البديهي هنا: إذا كان الثقافة والعادات الاجتماعية مترسّخة وثابتة للدرجة التي يتصورها كثيرون، فما الداعي لتدخّل جهاز دولة، شديد التضخّم والبيروقراطية، لضمان «الآداب العامة»؟ الآداب تبدو جزءاً من ترميز ثقافي- اجتماعي أكبر، يحدد العقيدة الدينية القويمة؛ الشكل السليم للعلاقات الجنسية؛ التعامل مع الرموز التاريخية، وكل هذا يُربط بنمط من الوطنية الصحيحة. وإذا كانت معظم دول العالم، بما فيها الأكثر ديمقراطية، تمتلك بدورها تصورات وطنية وقيميّة معينة، تفرضها بشكل من الأشكال على مواطنيها، ما يجعلها مجالاً متعالياً من الناحية السياسية والاجتماعية، فإن الضمان الدستوري للحريات الفردية، ومبادئ حرية الضمير والعقيدة، تخفّف لدرجة كبيرة من هذا التعالي، وتؤمن الحد الأدنى من حياد الدولة تجاه خيارات مواطنيها وأساليب تعبيرهم. لا يوجد في الدول التي تتبع مبدأ الحياد «دين أشرف» يُعتبر، بنص الدستور، مصدر التشريع، ولا يتم منع أديان معينة بوصفها «غير سماوية»، كما أن حرية تغيير الدين مضمونة. ما مكّن كثيراً من الأقليات والأفراد من المطالبة بالمساواة، وجعل الآداب العامة تنكمش لحد كبير.
ما يميّز الدولة العربية إذن ليس صياغتها لمجال قانوني، مستند جزئياً إلى أساس إعادة إنتاج عناصر قومية معينة، مثل الدين والتراث الثقافي للأغلبية السكانية، مثل كل الدول القومية – العلمانية الحديثة، بل امتناعها عن اتباع مبدأ الحياد، ما يوقعها دستورياً بتناقض لا يمكن حلّه، فهي من جهة تدّعي احترام الحقوق والحريات الأساسية، والمساواة بين المواطنين، ومن جهة أخرى تنفي الحقوق والمساواة لعدم حيادها الديني والقانوني، وتجعل حياة أقليات وأفراد معينين غير ممكنة أساساً. فهل هنالك خصوصية عربية تجبر الدولة على تجنّب الحياد؟ وهل ثقافة المجتمع تنتج وحدها السلوك القويم؟

محاربة البدع

الحديث عن ثقافة المجتمع، مرتبط دوماً بالدين، هنالك، حسب هذا المنظور، تقليد إسلامي راسخ هو الأساس الثقافي لمختلف مناحي الحياة، والاعتداء عليه، أو عدم مراعاته، سيؤدي إلى اضطرابات اجتماعية كبرى. الدولة نفسها مضطرة للالتزام بهذا التقليد، كي تضمن شيئاً من قبول رعاياها، وبالتالي فإن قيام الدولة بملاحقة الأفراد والمجموعات المخالفة للآداب العامة، مفروضٌ عليها نتيجة خصائص مترسّخة في المجتمعات التي تحكمها.
لا يتمتع هذا المنظور بوجاهة كبيرة، فالثقافة الاجتماعية والممارسات الدينية في السياق العربي والإسلامي، تعرّضت على الدوام لاعتداءات بالغة العنف، أدت فعلياً لتغيير التقليد، بشكل شبه كامل. فبعد قرون طويلة سادت فيها عقائد القربان وزيارة الأضرحة، وهي عقائد عابرة للطوائف، وممارسات مثل السحر والدروشة الصوفية والمثلية الجنسية، اعتبرت الدولة الحديثة منذ نشأتها، وكذلك الحركات الدينية الإصلاحية، التي كثيراً ما تحولت لدول، إن هذا التقليد متخلّف أو قائم على «البدع» أو غير طبيعي، وسعت، عن طريق أجهزة الدولة العنفيّة والأيديولوجية، إلى القضاء عليه، ونشر التقاليد والعقيدة الصحيحة. الهجوم الدموي على التقاليد الاجتماعية عادة متكررة في تاريخ المنطقة، يمكن رصدها على الأقل منذ القرن الثاني عشر الميلادي، مع قيام المهدي بن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية في المغرب والأندلس، بغزو القبائل المغاربية لتقويم سلوكياتها؛ مروراً بالدعوة الوهابية، واعتداءاتها على مقامات دينية شديدة القداسة؛ وصولاً لممارسات الدول الحديثة في ضبط السلوك الديني لمواطنيها.

تحاول معظم الدول العربية حالياً صياغة وسطية ما، بين التطرف من جهة، والظواهر المنفلتة من جهة أخرى، مثل المثلية والإلحاد ونقد الدين. ربما لن تكون هذه المحاولة ناجحة للغاية، بسبب عدم وجود وسط اجتماعي قادر على تبني هذه الوسطية بشكل فعّال.

انتصار النسخة المعاصرة من إسلام الشريعة، لم يحدث إلا مع الدول «العلمانية»، وبفضل الطباعة والتعليم ووزارات الأوقاف وأجهزة الشرطة، وهذه النسخة مرتبطة دوماً بمركز سلطوي قادر على التدخل الفوقي بحياة المجتمعات. أما عن الآداب العامة، فيمكن رصد الطريقة التي غيّرت فيها الدول قيم مواطنيها، وأسست لأخلاق تُنسب اليوم للطبقة الوسطى، المرتبطة دوماً بجهاز الدولة، أما الأخلاقيات «الشاذة» فدُفعت دوماً إلى هوامش مُحتقرة ثقافياً وطبقياً، وُسمت دوماً بالتخلف أو الانحلال.
موجات التطرف الديني الأكثر شدة، التي انطلقت مع ما يعرف بـ»الصحوة الإسلامية»، التي غيّرت الكثير في الحياة اليومية للدول الإسلامية، لا يمكن فصلها أيضاً عن فعل جهاز الدولة وسياساته الحيوية، وكانت مسبوقة على الدوام بانقلابات عسكرية أو أنظمة حكم ديكتاتورية، نفّذت عمليات الأسلمة بشكل دموي غالباً. بهذا المعنى فإن ما يُعتبر الآن «ثقافة المجتمع» كان غالباً اعتداءً على المجتمع نفسه، في سياق هندسة اجتماعية لم تنقطع الدول عن ممارستها. إصرار السلطات اليوم على حماية الآداب العامة، قد لا يكون أكثر من محاولة لتدجين حيوية اجتماعية تفجّرت بقوة بعد انحلال المتن الاجتماعي وأخلاقه، مع انحلال أجهزة الدولة العربية نفسها.

الثورة المحافظة

لا يمكن الحديث عن تماسك ما في البنى الاجتماعية القائمة، بدون غطاء تشريعي وسياسي وأيديولوجي، يوفره جهاز الدولة. رعت الدول العربية تماسك الجماعات الأهلية التقليدية عبر قوانين أحوال شخصية دينية إلزامية، وشرعنة «جرائم الشرف»، التي رسخت مؤسسة اجتماعية متكاملة لممارسة العنف الذكوري ضد النساء، جعلتهن مهددات دوماً بسكاكين الطائفة والعائلة والعشيرة. وساهم منع الحرية الدينية إلا باتجاه واحد، أي اعتناق الإسلام من جانب أصحاب الديانات «الأدنى»، بتصليب المجموعات الطائفية، كما أدى ضعف الحماية القانونية للنساء والأطفال المُعنفين لتقوية السلطة الأبوية بشكل كبير، وأسست قوانين «الآداب العامة» لعنف قانوني وأهلي ضد معظم أشكال التعبير الفردي، التي لا تتفق مع الأيديولوجيا السائدة.
تبيّن مراقبة الجاليات، التي توصف بالمسلمة، في بلدان لا تفرض هذا الغطاء القانوني، صعوبة حفاظ البنى الأبوية على تماسكها، بدون دعم الدولة، فرغم كل مظاهر التشدد الديني لدى هذه الجاليات، فإنها لم تعد قادرة على تحقيق الضبط الاجتماعي، إلا بالاحتماء بدعاوى التعددية الثقافية، أو ممارسة العنف خارج إطار القانون.
كانت ثورات الربيع العربي انفجاراً اجتماعياً، جاء بعد التحلل البطيء لجهاز الدولة العربية، والمتن الاجتماعي المرتبط به، وبعد تعثّر هذه الثورات، تبدو العودة للتشدد في تطبيق قوانين الآداب العامة، وغيرها من القوانين الضابطة للسلوكيات والعقائد، جانباً من ثورة مضادة، تسعى للحفاظ على ما أمكن من البنى الاجتماعية والثقافية، التي طالما رعتها دولة الاستقلال العربية، وأعادت إنتاجها.
تحاول معظم الدول العربية حالياً صياغة وسطية ما، بين التطرف من جهة، والظواهر المنفلتة من جهة أخرى، مثل المثلية والإلحاد ونقد الدين. ربما لن تكون هذه المحاولة ناجحة للغاية، بسبب عدم وجود وسط اجتماعي قادر على تبني هذه الوسطية بشكل فعّال.

المشكلة مع الدولة

ربط «الثقافة المجتمعية» المحافظة بممارسات جهاز الدولة، لا يعني أن المجتمعات ستنتج ظواهر تحررية، بمجرد أن تتخلص من الضغط السلطوي، تجربة السنوات الماضية أثبتت أن سقوط الدول يؤدي، في كثير من الأحيان، إلى ارتكاس المجتمعات إلى ممارسات شديدة التوحش، مع غياب معظم الضوابط الأخلاقية والقيمية الضرورية لاستمرار الحياة، وغالباً ما تعاني الفئات الاجتماعية الأكثر اضطهاداً، وعلى رأسها النساء، من تبعات هذا. يمكن اعتبار ذلك الارتكاس دليلاً إضافياً على عدم قدرة البنى الاجتماعية المعاصرة وثقافاتها على الاستمرار، بدون وجود الدولة، ولذلك فإن المشكلة مع الدولة ليس سعيها لضبط مجال قيمي عام، يؤمن السلم الاجتماعي والحد الأدنى من الاستقرار، بل عدم التزامها بأساسيات الحياد الديني قانونياً، وتغييبها للحريات الاجتماعية والفردية. وبالتالي فإن المطالبة بالحقوق الأساسية، والتخلص من ابتزاز مراعاة التقليد، لا يمكن أن يمرّا إلا من خلال دمقرطة جهاز الدولة نفسه، أي بعبارة أخرى علمنته بشكل شامل.
يبقى أن هذه العملية لا يمكن أن تتمّ بفعالية إلا إذا تبنّتها طبقة، أو ائتلاف طبقي، قادرٌ على فرض هيمنته الاجتماعية على جهاز الدولة ومن خلاله، وهذا أمر متعذّر بالشرط الحالي. يمكن، رغم هذا، التعويل على أن الضعف الحالي للدولة العربية، وعجزها عن تحقيق الهيمنة، سيترك هوامش واسعة لكل مظاهر «الانفلات»، التي تأتي من حيوية اجتماعية لم تنقطع طيلة عقد من الزمن، ما قد يحقق تراكماً اجتماعياً وثقافياً يمكن البناء عليه مستقبلاً في تحقيق تغيير سياسي واجتماعي فعلي. ولعل تفكيك ما يُظن أنه تقليد مترسخ، خطوة مهمة في سياق هذا التراكم.

٭ كاتب من سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Jamal:

    مع ايماني العميق بضرورة توفير الحرية العلمية والسياسية في العالم العربي متزايد الهشاشة، لكني أختلف جذرياً مع الطرح الرئيسي للمقال. الكاتب ينطلق من منظور تعددي ونسبي وربما عدمي، ويعلي من أهمية الحرية الفردية دون أن يوصفها أو يعرفها. فهل هي الحرية السلبية أم الحرية الايجابية حسب طرح الفيلسوف المعروف برلن. البعض يرى ان الحرية الحقيقية هي في فعل ما يمليه الحق والواجب وليس في التقليد الأعمى للموضات والتقليعات والإعلانات والرغبات المصطنعة في الاعلام والفن المتحرر وصناعة التفاهة الليبرالية. النظام العام مهم وهو لا يتحقق بتقديس الرغبات الشخصية الأنانية والمشكلة خارجياً وانما بتخلي الانسان عن جزء من حريته مقابل الصالح العام والخير المشترك كما تحدده قطعيات الدين ومحكماته، والا كانت الفوضى المجتمعية وانتشرت الأوبئة الكورونية.

  2. يقول عمر:

    أفضل التعامل مع تاجر او حرفي أو بيروقراطي يؤمن بالأداب العامة ويتبنى مبادئ أخلاقية دينية محددة كالصدق والأمانة على أن أتعامل مع شخص يؤمن بأفكار هذا المقال!.

  3. يقول عادل:

    المقال للأسف يحوي مغالطات عديدة سببها الرئيسي ارتكازه الى أيديولوجيا ليبرالية نخبوية. فمثلا يقول المقال: “لا يمكن الحديث عن تماسك ما في البنى الاجتماعية القائمة، بدون غطاء تشريعي وسياسي وأيديولوجي، يوفره جهاز الدولة”. سيدي الكاتب: المجتمع وقيمه ومؤسساته غير الرسمية أسبق وأوسع وأبقى من الدولة والحكومة، والقيم الدينية -تحديداً التوحيد والعبادات والأخلاق الأساسية كالصدق والحياء- هي فطرية وشرعت منذ عهد آدم حتى خاتم الأنبياء.

  4. يقول نعم للحد الأدنى من القيم المشتركة:

    الأخلاق مترسخة لكن مع العولمة الإعلامية المفرطة، لابد من حماية “الحد الأدنى” من القيم والآداب والأذواق العامة، فان الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وبعض الناس لا يصلحه الا النصح وبعضهم لا يردعه الا الزجر. أما حكاية الدولة الحيادية، فالأجدر البحث عنها في المدينة الفاضلة لأفلاطون، اذ يصعب التشريع للمجتمع الغربي التعددي، وعدم التشريع يعني تفاقم كورونا!

اشترك في قائمتنا البريدية