*
مريبة هي المفارقة التي تنطوي عليها الدولة العصرية التي أنتجتها تحولات القرنين الماضيين. ذلك أن دولة الرعاية الاجتماعية (التي شاع تسميتها عربيّا بـ”دولة الرفاه”، في ترداد اعتيادي لترجمة حرفية سقيمة) قد أخذت على عاتقها، على نحو لم ينفك يتزايد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مهمة إحقاق مبدأ التكافل الاجتماعي إحقاقا إيجابيا، بل وفوقيا إن لزم الأمر. وقد تجسم ذلك في سياسات عديدة تشمل مجانية التعليم (من الطور الابتدائي حتى الجامعي) والخدمات الصحية والحق في الإجازات المرضية والإجازات الأسبوعية والسنوية المدفوعة الأجر، ومنح البطالة ومنح السكن للعائلات المعوزة، الخ. إلا أن أهم أوجه مبدأ التكافل الاجتماعي إنما هو حق التقاعد المكفول للجميع، لا على أساس الاستثمارات والمضاربات في البورصات (مثلما بدأ البريطانيون والأمريكيون يفعلون منذ وصول تاتشر وريغان إلى الحكم في الثمانينيات) وإنما على أساس التوزيع الضريبي. أي أن القوى الناشطة في الاقتصاد، والمتمثلة عموما في معظم من هم دون سن الستين (علما أن غالبيتهم دون الأربعين)، هي التي تمول بعملها صناديق التقاعد العمومية التي تصرف الدولة منها جرايات المتقاعدين، بفضل خصم نسبة من رواتب العمال والموظفين في إطار ما يسمى بضريبة الضمان أو التأمين الاجتماعي. وهذا النوع من التمويل العمومي لصناديق التقاعد هو تَجَلِّ لما يسمى بـ”التضامن بين الأجيال”: كل جيل عامل يضمن بقيةَ حياة كريمة للجيل الذي سبقه في العمل، مع كامل الاطمئنان إلى أن الجيل اللاحق سيضمن له الامتياز ذاته. أي أن الآباء يَبَرُّون الأجداد وهم واثقون أن الأبناء سوف يبرّونهم ويعاملونهم بالمثل.
المفارقة المريبة هي أن دولة الحداثة التي ضمنت التكافل الاجتماعي عموما والتضامن بين الأجيال خصوصا هي ذاتها الدولة التي تعاقبت عليها على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية حكومات أمعنت في سحق شعوبها
ولكن المفارقة المريبة هي أن دولة الحداثة التي ضمنت التكافل الاجتماعي عموما والتضامن بين الأجيال خصوصا هي ذاتها الدولة التي تعاقبت عليها على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية حكومات أمعنت في سحق شعوبها تحت جبال راسيات من الديون. وما هذه الديون التي تراكمها الحكومات (بلا فارق بين اليمين واليسار وما بين ذلك) دونما تفكير في العواقب، بل باستمرار واستسهال يشبهان الإدمان، إلا ضرب من الجرم الآثم الذي يرتكبه جيل الآباء في حق أجيال الأبناء والأحفاد. أي أن الحكومات، بما تراكمه من ديون عامة وسياسات غير رشيدة، إنما تنقض ما كانت قد أبرمته أصلا من مبدأ التضامن بين الأجيال، لتصير بذلك “كالتي نقضت غَزْلَها من بعد قوة أنكاثا”، كما جاء في تصوير القرآن الكريم لتلك المرأة الخرقاء من قريش، رَيْطة بنت سعد التّيْمية، التي كانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن بنقض ما غزلن. هكذا تفعل كل يوم، “فكان حالُها إفسادَ ما كان نافعا مُحْكَما من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح”، كما يشرح الشيخ الطاهر بن عاشور في “التحرير والتنوير”.
والنقض في حالة الدولة العصرية مزدوج. نقض بمعنى النسف لأساس المالية العمومية التي يؤدي انخرامها إلى تفاقم عجز صناديق التقاعد حتى مشارفة الإفلاس. ونقض بمعنى مقابلة الجنس بالعكس، أي معاقبة جيل الأبناء والأحفاد على تضامنهم الضريبي مع الآباء والأجداد بإثقال كاهلهم بديون لا ذنب لهم فيها، وذلك بدل مقابلة البر بالبر والإحسان بالإحسان. وهذا من الجحود أو “العقوق الأبوي”. العقوق المعكوس الذي يظلم به جيل الكبار جيل الصغار.
ورغم أن هذه المفارقة بلغت مداها في السنوات الماضية، فهي ليست بالجديدة. لهذا كان رئيس الحكومة الفرنسية الراحل بيار-منداس فرانس يقول دوما إنه لا ينبغي التضحية بالمستقبل من أجل الحاضر. ومن الطريف أني سمعت رئيس الحكومة الفرنسية الحالي ميشال بارنيي يستشهد قبل ثلاثة أعوام بهذه القولة، الحكيمة إنسانيا والشجاعة سياسيا، أثناء محاضرة في لندن أنحى فيها باللائمة على البريطانيين الذين ذبحوا حقائق المستقبل الاتحاديّ الأوروبي على عتبة معبد أوهام الحاضر البركسيتي الانعزالي. أما هذه الأيام فقد سمعته يستشهد بالقولة ذاتها مرارا في سياق محاولته إقناع الفرنسيين بوجوب حزم أمرهم ومواجهة الوقائع التي طالما اعتادوا الإشاحة عنها: عجز في الميزانية بـ178 مليار يورو، وديون عامة تبلغ 3200 مليار يورو بينما لم تكن في ختام عهد جيسكار دستان، عام 1981، تتجاوز ما قيمته 100 مليون! وضع وخيم قالت الكاتبة فرانسواز فرسّوز إنه يتدنّى بفرنسا إلى منزلتها الحقيقية: قوة متوسطة الحجم لا تَنِي تفرّط في رأسمالها من كثرة ما استمرأت حلاوة العيش فوق إمكانياتها.
* كاتب تونسي