هل لا يزال الحراك الشعبي في الجزائر حراكا؟ أم أنه في خضم ما تداعى عنه من سقوف مطلبية لا تنفك ترتفع جمعة بعد أخرى، قد بلغ مراقي الثورة، بحسبانه صار ينادي بالتجديد الوطني الكلي، وإحداث القطيعة مع بنية وممارسة الدولة، وفق أسلوبية مارقة عن كل التجارب الوطنية في الكون، من نظام لم يتعرف عليه بعد أحد سوى نفسه ،مذ تأسس بالقوة صائفة 1962؟
هو سؤال يجمح كل يوم جمعة يزيد فيه عنت النظام المنشق شطرين على مستوى بنيته التقليدية الصلبة، مفضيا أو ربما متأثرا بانشقاق مسنده الخارجي الذي عليه صار يتغذى ويتقوى مذ اعتلى بوتفليقة الحكم عام 1999، مضيفا رقما صعبا في معادلة التوازنات التي صارت عليها منظومة الحكم منذ العقود الخمسة التي أعقبت الاستقلال الوطني بالجزائر.
فالمعروف عن الجزائريين حساسيتهم للتدخل الأجنبي من أي جهة كانت، فما بالك إذا كان من فرنسا المتأصل كرهها في الوسط الشعبي بخلفيتها الاستعمارية، والولايات المتحدة بصفتها الراعي الأول للشرطي النيوكولونيالي في منطقة الشرق الأوسط، ونعني به الكيان الصهيوني، فها هي ذي ثورتهم تفضي بهم إلى اكتشاف خارج قوقعة الخطاب الوطني الفارغة، الذي كان يتردد في رسميات الذكريات والأعياد الوطنية ومؤسسات الإعلام والسياسة العمومية، من أن منظومة حكمهم هي قائمة على إرادة الخارج، أكثر من إرادة الداخل، التي تنحصر في ابتدائيات الولادة الأولى فقط، أي قبل أن ينال التزكية من لدن القوى الخارجية، كما الابتدائيات في الانتخابات بالديمقراطيات العظمى، مع الاختلاف الجوهري بينهما، إذ في حين تكتمل السلطة بالتزكية من عدمها، من قبل قوى الخارج في الجزائر، فإنها لتكتمل داخل الحدود الوطنية لدى الدول العظمى، حيث الشعب سيد بأتم معاني الكلمة.
لكن يظل حريا معرفة كيف تعاظم أثر الخارج في تحديد ملامح النظام السياسي والسيادي في الجزائر، مذ اعتلى بوتفليقة العرش الجمهوري، قبل عقدين من الزمن، لأن ذلك وحده من شأنه أن يكشف طبيعة التطور، أو لنقل بتعبير أدق التحول، في طبيعة هذا النظام داخل غرفه المعتمة القديمة. فما الذي أقدم عليه بوتفليقة حتى اختلت الموازين وثقلت يد الخارج على الداخل، بشكل علني سافر؟
في تصريح لمحمد بلعالية الموظف السامي السابق في رئاسة الجمهورية في عهد بومدين، وعضو المكتب السياسي لحزب طلائع الحريات حاليا، روى أن بوتفليقة عشية استقالة زروال أخذ معه أحد أصدقائه إلى مرتفع جبل «شنوة» بمنطقة تيبازة شرق الجزائر، وقال له وهما ينظران من على قمة الجبل «أترى العاصمة وما يلحق بها من أجزاء التراب الوطني؟ سأحكمها إلى أن أموت وأنا بالقصر الرئاسي». ما يثير في تصريح محمد بن عالية، بشأن ما رواه عن بوتفليقة في حديثه لصاحبه من على قمة الجبل، هو أن ذلك حصل قبل حتى أن يعلن ترشحه، ووثوقه التام في أنه سيستلم الجزائر «كملك جمهوري» وليس كرئيس كلاسيكي على شاكلة الرؤساء الذين تم تنصيبهم وتنحيتهم بالإقالة، أو بالقتل، فمن أين استمد تلك القوة غير المعهودة لدى أبرز رجالات الدولة والسلطة من أبناء النظام ذاته، في الجزائر في حضور جهاز مخفي، مخيف وقوي أيضا، يمتلك القدرة على تنصيب وتأديب وتحييد كل من يفكر في الخروج عن أطره المرسومة؟
ليس يصعب على مراقب للشأن الجزائري الخلاص إلى أن بوتفليقة لم يكن خيار الداخل قط، وأكثر ما فعلته قوى الداخل الصانعة للرؤساء، أنها سوقته بشكل كبير للرأي العام الجزائري، ولو أنها رغبت في أحد غيره حينها، لتمكنت من إبعاده باستدعاء ملفاته السابقة حين كان وزيرا للخارجية، وأبرزها ملف الاختلاسات التي حُكم بسببها في مجلس المحاسبة سنة 1981، بل كان أساسا خيارا للقوى الخارجية المؤثرة في قوى التسيير السياسي القسري بالداخل، في ظل اهتزاز الأخيرة بفعل ما حصل في العشرية السوداء، وانهيار الكثير من مصداقية الدولة لدى الخارج، فالأمر اتضح بجلاء من عنفوان الخطاب الذي مارس به بوتفليقة حكمه، والتصريحات الرادعة اللاذعة التي كان يجابه بها الشركاء التقليديين وصناع الرؤساء في الجزائر، في جرأة غير معهودة بالمرة في أدبيات ممارسة الحكم بالجزائر، كمثل قولته الشهيرة «لن أقبل بأن أكون ثلاث أرباع الرئيس» وتصريحه بالمنتدى الاقتصادي الشهير بكرانس مونتانا سنة 1999، بأن توقيف المسار الانتخابي عام 1992 الذي تسبب في حرب أهلية حصدت أرواح زهاء ربع مليون جزائري، كان عنفا، ذلك لأن كل من تجاسر من قبله على الأطر المضبوطة له من قبل الجماعة أو ما يعرف بأصحاب القرار الفعلي بالجزائر كان مصيره التنحية بأي وسيلة ممكنة، وقد بلغت في أبشع مدياتها حد القتل في شخص محمد بوضياف، الذي انتوى تغيير بنية النظام القديم وفتح ملفات من تنفعوا من حلف ستائره السميكة.
المعروف عن الجزائريين حساسيتهم للتدخل الأجنبي من أي جهة كانت
كل ذلك حسب العارفين بخبايا بيت الحكم بالجزائر، كشف عن انقلاب جذري في معادلة تعيين الرئيس وأقطاب الحكم في الجزائر، من ألوية الداخل على الخارج إلى أولية هذا الأخير عن الداخل، وليست هي بالضرورة القاعدة التي رسمت الأزمة في الجزائر منذ مؤتمر الصومام عام 1956، يوم حددت الأولويتان الشهيرتان السياسي على العسكري والداخل على خارج، فوقتها كان المقصود بالخارج القادة الجزائريين المقيمين في الخارج، أما اليوم فالخارج هو القوى الاستعمارية والامبريالية الجيدة التي تتقاتل على خيرات العامل في زمن جموح العولمة وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات، وأصحاب البنوك على الحكومات والشعوب.
من هنا نخلص إلى أن اكتشاف الجزائريين لظاهرة الاستقواء بالخارج، التي وسموا بها نشاط وزير الخارجية رمطان لعمامرة المحسوب على قوى الخارج هذه، كان متأخرا بعشرين سنة، فبوتفليقة لم يهتم يوما برضا الشعب عنه من عدمه، بل كان هو من يفصح في خطاباته عن عدم رضاه الدائم عن الشعب! فهو من أسس لهذا الاستقواء، واعتبره الأساس الأول لضمان ملكه هو وأهله، غاية ما فعل هو أن قلّم أظافر يد الخطر بالداخل، بأن فكك هرمية المؤسسة العسكرية، وسحب إليه عقلها المدبر، أي جهاز الاستخبارات الذي صار مصلحة تابعة لرئاسة الجمهورية، بنى قوة شُرَطية معتبرة تدين بالولاء له عبر وزير داخلية يختاره بعناية من الخُلص له، ويسيطر على منصب وزير الدفاع، ومن ثم لم يعد مجال للمناورة السرية للمؤسسة العسكرية ضد الرئيس.
طبعا تبعا لذلك وضع بوتفليقة نفسه بمأمن من أي تحرك سياسي مؤسسي، حين فرض الطابع الشكلاني الصوري على المؤسسات النيابية، بأن قيد لها من يزور انتخاباتها ويحشو مجالسها بالأغلبية الكاذبة من المصفقين المنتفعين، فراح هؤلاء الذين يفترض بهم الدفاع عن مصالح الشعب، يدافعون عن الحكومة وخياراتها وسياساتها الاقتصادية العرجاء، التي أوصلت البلاد في آخر المطاف، إلى حافة الإفلاس، ومع هذا لم يجد المسؤول الأول عن جبهة التحرير الوطني، حرجا في أن يخرس نائبا معارضا في البرلمان، كان بصدد انتقاد بوتفليقة ويحذره من أن (الرئيس خط أحمر) ! الشأن ذاته سلكه مع الهيئات القانونية والقضائية، لاسيما المجلس الدستوري، المنوط به رصد كل حالة اختراق للنص الدستوري، إذ حرص على أن يكون رئيسه دوما من الخُلَّص له، وممن ينحدرون من منطقته، فبعد الراحل مراد مدلسي عين طيب بلعيز الذي لاحظ الجميع كيف كان دأبه تمرير ملف الترشيح للعهدة الخامسة قبل أن يتمرد عليها الشعب. وفي سياق الحديث عن التدبير أو بالأحرى التدمير الممنهج والمقصود لميكانيزمات التغيير الذي كانت توفره المنظومة الدستورية والسياسية للبلاد، قبل مجيء بوتفليقة، يتوجب التوقف عند إستراتيجية خلق الفراغات القانونية في الدستور التي من شأنها تعطيل أي تحرك مناهض لبقائه في المُلك، فطيلة فترة حكمه عدّل الدستور ثلاث مرات بحسب تطور حاله في الحكم، وتطور وضعه الصحي في الأخير، فيما سميته شخصيا بتشفير الدستور، وجعل أحكامه رهن التأويل مفتوحا لفقهاء القانون الدستوري ما قد يبعد السياسي عن النقاش حول ملكه لصالح القانوني.
إذن هي حقبة حكم مليئة بالتعقيدات جعلت الجزائر على بركان هادئ، لكن إن حصل وثار فلن تكون عواقبه أحمد مما مضى من تجارب التجاذب والتحارب السياسي والأمني بالبلاد، ومن هنا يظهر الوعي التام الذي تسلحت به الأجيال الجديدة في الاستمساك بالسلمية، وعدم التسرع والتمرد بعنف على سلطة منشقة مشروخة، وهذا ما يسمح لهذا الجيل تلقائيا من استثمار هذا الوقت والاستزادة في فهم طبيعة النظام وأشكال تقلبه وتحوله من خلال بلاتوهات وكتابات التحليل والتعليل التي تناولته على مدار الجُمُعات بالمبضع النقدي الحاد والجاد.
*كاتب وصحافي جزائري
تحليل موضوعي راقي يجسد ماهية الحكم الذي مارسه بوتفليقة إبان عقدين من الزمن
ورد في المقال، والعهدة على الراوي، أن بوتفليقة أسر لأحد اصدقايه حتى قبل أن ينتخب، أنه سيحكم الجزائر حتى يموت في قصر المرادية.
كان يراوده حلم حكم فردي ابدي تتلوه جنازة مهيبة تنسي الناس جنازة الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان بوتفليقة يقلده حيا وميتا.
لم يتحقق الحلم، لأن الشعب انتفض، بعد صبر طويل، ضد نظام لم يكن يخدم إلا نفسه. نظام اجتهد في الاستبداد والتضليل والنهب قدر اجتهادة في تلميع صورته واستعداء جيرانه.
تذكروا انه، لما كان ملايين المواطنين يحتجون في الشوارع مطالبين بسقوط النظام، كان أحد أعضاء الحكومة خارج الوطن، في بلد بعيد جنوب القارة، يجري ويجاري لحشد الدعم للقضية الصحراوية.
هذا هو ما يسميه الجزايريون ” حقرة “. ومعناه أن الظلم والاستخفاف.
تحية للكاتب وتحية للشعب الجزايري العظيم.
اكبر مكسب للشعب هو الصراع القائم في ظواليب الحكمبحبث ان بعضها استنفذ قوى بعض وهذا غير ما كان في سنوات التسعينات كما ان المكسب الثاني هو سرعة انتشار المعلومة
وهذا ما أعطى السبق للشعب .
مقال جد رائع ،مشكور استاذ بشير
كما العادة يتحفنا الأستاذ بشير بتحليلاته الرائعة للوضع الوطني الذي ما زاله رابضا تحت مجهر الرؤى التي تلاحظه سواء من داخله او من خارجه، فالحالة السياسية الجزائرية راهنت تحت حكم بوتفليقة على الخارج بكل ما قد تتضمنه كلمة خارج من معاني التبعية التي تخرج الشعب “المناضل” من حسابات السياسة الداخلية. لم يكن في يوم ما هذا النظام المتهالك واعيا بحقيقة الوصول إلى المأزق أو الأفق المسدود جراة السلوكات السياسية ةغير محسوبة المآلات، ولم يكن واردا في وعيه انّ الشعب سوف ينتفض ضد هذا الاحتقار المهين للشخصية الوطنية في أبعادها الانسانية والتاريخية، لأنّه وبكل بساطة كان يستقوي بالخارج ويجعل نصب أعين الشعب مآلات الوضع في دول بعينها، كسوريا والعراق وليبيا، معتقدا أن الشعب في صمته كان خائفا حقيقة من هذا المآل، ذلك لأنّه يجهل الحقائق التاريخية في حركة المجتمعات نحو التحرّر.
كل المحبة والتقدير أستاذ بشير..
وهل الحسن الثاني يعتبر رمزا في شيئ حتئ يسعئ عبد العزيز بوتفليقة او غيره، لتقليده.؟؟
هناك من النلس من تعود غلئ الزطلة، حتئ صار يعبد سيده حيا وميتا، الجزائر تربئ فيها رجال، يدفعون النفس والنفيس لاجل بلادهم وشعبهم، وثقافتهم الرجال ياتون ويرحلون والشعوب والاوطان تبقئ، وهذه هي عقيدتهم…
هؤلاء الرجال بفضل ماقدموه لبلادهم ابجزائر، صنعوا تاريخ استقلال بلادهم 05جويلية 1962،هذا التاريخ الذي تعقد منه، كل من كان مشبوها في وطنيته واخلاصه لشعبه ووطنه، فابشع الانظم التي في الكون، خلقتها فرنسا، باحيائ العائلات المالكة كما في المغرب، هذه العائلات التتي تسلطت على شعب حارب. فرنسا،باسم الشرعية التاريخية، للعائلة الشريفة المزعومة، والتي صدق الاغبيائ المزطولين، العبيد اكاذيبها، ويضنون انهم يعيشون في نظام راقي، يحكمهم بعقلية العصور الوسطى