دون كيخوته وفن الرواية

حجم الخط
0

دون كيخوته وفن الرواية

بنسالم حميشدون كيخوته وفن الروايةيحق ميلان كونديرا في فن الرواية اذ يسجل: ليس للروائي أن يكشف حسابه لأي كان، باستثناء ثرفانتص ، والعلة أن هذا الكاتب الفذ، وليد قلعة اينارس في 1547 والمتوفي في مدريد في 1616، دشن برائعته دون كيخوتي فن الرواية الحديثة، كفن واع بمقاصده، وامكاناته وأدواته.لم أطلع علي النص الكامل لتلك الرواية الا ابان تعليمي العالي في سبعينات القرن الفائت. وذهب اعجابي بها الي حد محاولة قراءتها في الأصل الاسباني للغوص في جوها الأندلسي بعيد أفول تقاليد الفروسية للعهد الوسيط وتلاشي بطولاتها ومثلها. هذه التقاليد تعلمها دون كيخوتي في الكتب، وسعي الي احيائها وانعاشها بقدر عال من روح الاباء والبذل والاقدام، ممتطيا فرسه المهزول روسننتي، متسلحا بدرع ورمح عتيقين لا تصده الصعوبات والاخفاقات، ولا تذكرات وملاحظات رفيقه الواقعي سانشو بانسا. وكنت في ذلك الوقت قد تخيلت بعثة لبطلنا، استرعت فيها انتباهه بعض ربوع العرب. كتبت اذ ذاك نصا مطولا، منه: خلي الفارس المغوار، دون كيخوتي، أنفه للريح التي تأتي، تحمل نتن الأشرار. قالت: يا فارس الخير يا رائد أحلام، فرخ في هذي الربوع الحيف. الدنيا هدتها الآلام، والأوغاد ليلهم عاد، يظهر فيه القرد، النبيل يركب، والوحي يسرط الأسماك، والأنكي من هذا وذاك: زوج السلطان تضاجع في القصر الحذب، والأقزام. ثار الفارس المقدام، فامتطي بغلته العوجاء، أطلق أقدامها العرجاء تركل الرياح، جرد رمحه المطواع، راح في سفرة الاعصار، يحاصر الأشرار، يبعج الأقطاع. لما دون كيخوتي صادف زوج السلطان في القاع. بادرها بالسوط الأنين. ناشدها أن عودي لله، لكن هيهات! حاذته أهدته قبلة، قالت: أهواك، يا الهيداغو، قبلني، لكن هيهات! أعطته السوط الأمتن، قالت: هيا هيا يا فارس اجلدني حتي تعي. أجابها: أعي؟ حمقاء! ثم دار حولها دورات وجلدها مئة جلدة. قالت: أهواك، زدني. فر الفارس المغوار، هاربا من ظلمة الشواذ. وقف دون كيخوتي أمام البحر وهمهم متضرعا: رباه ما أعبث رحلة في أرض الأوحال! الشر عليها أضحي بعد كالتمثال، التمثال هشم عليه رمحي، حوله انهارت بغلتي.. رباه ما أضعف جسم الانسان! تعرق الأسنان، تسقط في فمه، تضعف العينان، تنطفئان. رباه سبحانك أنت أنت القهار! .بعد مضي ثلاثة عقود ويزيد علي ذلك النص. ما زالت صورة الكيخوتي تداهمني وتستثير مخيلتي. أتوهم أني أتبعه في زمرة من أحبته، من جبل الي آخر في ربوع العرب. وأتخيله يخاطب الزمرة قائلا هنا في هذا الربع يا أحبتي، الجو حافل بالرؤي واللطائف، بعضها يأتيني في المنام، وبعضها في اليقظة، ولا ريب أنها تتنزل من مقام علوي بديع، وغيب منتشر، مكين. ولا سبيل في ذلك الي قطع الانفاس عن مصاعدها، وكسر السهام في أقواسها، الا أن أضل وأظلم الا أن أبذر القبح والخسيس، أعوذ من ذلك بالحبيبة دولسيني دي توبوسو، لا كما هي، بل كما توهمتها وأنشأتها نشأة أخري.في أيامي السائلة المتدافعة، أرقي أوقاتي وأحلاها هي التي أمضيتها بين مرتفع وآخر، محررا من العلائق والمواعيد. الا ما كان لي منها مع المطلق الطليق الخليق، وحده بأن أتخلق بأسمائه وأتجوهر. وليس عن عي أو هرم اهتديت الي ذلك وسعيت، بل عن نضج مختمر، وهبة لدنية ابتغيتها وكددت في نيلها.هذا شيء عن حالي، وان لي فيه سعة تنمو والي ملامسة السماء تهفو، وإن لي فيه انشراحا يصل أنفاسي بذبذبات الكون ونبضاته. فلا يجنحن أحدكم الي حاله الذاتي الا من قضاء المعاناة والابداع، لا من حفر المحاكاة والاتباع. انما أوصيكم بما إن سلكتموه غنمتم وأفلحتم. وكان لكم البذر والحصاد.أنتم يا أبناء أمة اقرأ حري بكم أن تتلقوا كلامي رسالة مني اليكم، وحري بكم أيضا أن ينطلق الفرد منكم باسم الفضيلة والقيم المثلي، كما لو كان من المقام البكري وأول الناطقين.الكون كله كتاب، عرضه السموات والارض، ألا فاقرأوه ما قدرتم. الخلق كله كتاب، وكل عهد قديم أو جديد، كتاب، وكل وجه عميق كتاب، فانكبوا علي ذلك كله وتبحروا جهدكم يكنكم ويثركم.. خيرت وما زلت أن لا سبيل لنا لتليين وعينا ـ وربما ـ تثميره ـ بضائقات الدنيا ومحن الوجود الا في عشرة أعمال الابداع البشري الكبري، والعيش ما استطلعنا في ظلال الكتابة العلية. وفي جلسة متوهمة أخري، سمعت دون كيخوتي يقول: المأساة، يا أحبتي، تثوي في عزوفنا عن معرفة الخلق أو اكتفائنا بصلبه في صور خاطفة عجلي. أما العلائق القائمة علي التواشج والحب، فالزمان كما يصرف يتولاها بالتآكل حتي النخر، حتي النحر .الفقراء المعدمون نرهقهم وندميهم بنأينا عنهم وتعالينا.. نغض الطرف عنهم حتي نقطع دابرهم من محيطنا ومداركنا، حتي يستكينوا في غيران النسيان والترك. وذلك، وحق الحق، عين الضلال لو فكرتم.. قال موسي عليه السلام: رب أين ابغيك؟ قال: عند المكسرة قلوبهم ، وقال محمد عليه السلام: اياكم ومجالسة الموتي، قيل ومن الموتي يا رسول الله قال: الاغنياء.صحيح أن فكري يمضي أوفر وقته في مصارعة العناصر العاتية، التي تقاومه وتنفيه.. فلا ريب أني من فرقة الذين يتقربون من الحق وهم يئنون.في دنيا تشكو من سقم روحي حاد، وأمية متعددة الأشكال والأبعاد، ليس للمثالي التواق الي الهواء الطلق الا أن يختار تعلم الغربة المبدعة الهائلة. فلربما في هذا تكمن طريقته الخاصة للقدح في الغباوة الزاحفة، والعمل علي لقاءات القمة بين الغرباء، أعني الغرباء المتجاذبين نحو الأعلي، كما تخيل منهم نماذج مثلي ابن باجة السرقسطي وابن طفيل القادسي: نماذج هي عبارة عن هويات ممكنة، حقيقة اليوم بالتمثل والاثراء.لا تلوموا اذا شاعرا او فيلسوفا صوفيا علي اعتزالهم في بروج عاجية، لكن في المقابل حاسبوهم بل ذموهم اذا لم تتمخض عزلتهم عن أي شيء فذ مفيد، ولم يخرج من أبراجهم ما يعجب النفس ويكون فتنة للناظرين.. في زمان خسوف القيم هذا وانتكاس البطولات. كم نصحوني بالمطاوعة والتكيف: أن أغلف أفعالي واشاراتي بالمداهنة والمواربة، وباللغة العسلية الريانية.لكني أنا مكسر أصنام العادات القبيحة، كأي حر لبيب، لم أكن أعول في كل شأن الا علي وعيي الحاد بواجب قول الحق والشهادة. نضالي ضد الضحالة الذائعة المستشرية، كنت أخوضه ولا أزال بهمة وإقدام، من دون تخاذل ولا هوان، ذلك أن لا خلاص حقيقيا عندي الا في مقاومة الميت الجاثم علي أنفاس الحي، ومصارعة الأنساق التي أقيس عسفها وتقادمها بين رحاب الحيويات الوجودية الصاعدة.. وفوق هذا وذاك، شغلي الأثير بل معني وجودي أن أجعل من حياتي تحفة رائقة وبالطبع غير مكتملة.. لذا رجائي، كل رجائي ألا تفسدوا علي عرسي بكبح جموحي وبما أتأباه رغم كل شيء: أي الرمال والرياح العاتية الجارفة، التي قد تدعون أنها ستأتي ولا ريب، لتفني تحفتي تيك وتحيلها الي محض هباء . تحفتي ملحمتي، مرت عليها قرون أربعة. وها أنتم مقدمون علي زيارتها من جديد. وحتي لو فرضتم جدلا أنكم تستطيعون تحقيق مثلها وأحلامها ـ وأني لكم ذلك! ـ فانها ستبقي لكم معلمة وذخيرة .كاتب وروائي من المغرب0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية