■ في حي مصر القديمة جنوب القاهرة، وبالقرب من قرية الخزف التي تضم محترفات لفنانين وخزافين مصريين، يستقر هيكل معدني ضخم يمثل مجسماً على هيئة ديناصور. يقف المجسم المعدني مستقراً قرب بوابة القرية كحارس خرافي للمكان، ومواجهاً للمدينة القديمة وشوارعها المزدحمة بالناس والسيارات. كان المجسم أحد الأعمال المشاركة في معرض جماعي من تنظيم مركز «درب للفنون» تحت عنوان «شيء آخر». انتهى العرض الجماعي، غير أن العمل الذي نفذه الفنان كارم إبراهيم، سيمتد عرضه حتى منتصف العام الحالي. تم تنفيذ هذا الهيكل باستخدام الشرائح المعدنية المعالجة من طريق اللحام، واستغرق صاحبه وقتاً ليس قصيرا لإنجازه.
تساؤلات كثيرة ربما تطرأ على ذهن العابر من أمام هذا المجسم المعدني العملاق، حول الهدف منه مثلاً، أو الفكرة التي استند إليها الفنان، غير أن ثمة تساؤلات أخرى مختلفة ربما تدور في أذهان آخرين حول حقيقة الديناصور في الأساس، ككائن عاش على الأرض في غابر الأزمان. هل كان له وجود بالفعل؟ أم هو محض خرافة أو خيال؟ ربما يبدو السؤال غير منطقي للبعض، لكنه بالفعل يمثل سؤالاً مطروحاً بجدية عند البعض الآخر. نعم، فهذه الحقيقة المؤكدة ربما لا تكون كذلك في نظر الجميع، خاصة حين تدرك أن الكتب الدراسية في مدارسنا تكاد تخلو تماماً من ذكر هذه المخلوقات. ألا يبدو هذا الأمر لافتاً ومثيراً للسؤال أيضاً؟ أن لا يعرف أطفالنا شيئاً عن هذه الكائنات التي تسيدت الأرض قبل وجود البشر.
يسعى الفنان من خلال وضعه لهذا المجسم المعدني على هذا النحو، إلى إحداث صدمة من نوع ما كما يقول، الديناصور هنا هو نموذج لكل الحقائق التي تأبى عقولنا تصديقها. يبدأ الفنان تقديمه للعمل بإنشاء تصور جدلي لعقلية اعتيادية من هذا النوع، عبر نص مكتوب يمثل الفكرة الرئيسية للعمل وتصوراته الشخصية التي دفعته إلى إنشاء هذا الديناصور المعدني. في هذا النص يتقمص الفنان دور العقل الجدلي المنكر للحقائق غير المحسوسة.
تسترسل تلك العقلية المشككة في السخرية ممن يؤمنون بمثل هذه الأشياء الخرافية، هؤلاء الذين انطلت عليهم تلك الخدع بكل سهولة، وترى أن مجتمعاتنا محصنة من مثل هذه الخرافات والأفكار الغامضة.
ينكر النص وجود هذا المخلوق الغريب كلياً، معتبراً أن كل الحقائق والإثباتات التي سيقت لإثبات وجوده هي محض أوهام أو خدعة، يسعى من خلالها الغرب للسيطرة على عقولنا. هم يحاولون فعل ذلك بشتى الطرق، عبر السينما والرسوم المتحركة، وحتى النظريات العلمية التي يتحفنوننا بها، فكلها تستند إلى دلائل ملفقة كما يقول. يشارك في هذا التزوير علماء وفنانون وصناع أفلام كبار. المخرج ستيفن سبيلبرغ، مثلاً، حاول من خلال سلسلة أفلامه «الحديقه الجوراسية» تقديم تلك الأشياء الغريبة كحقائق مؤكدة. ينسحب الأمر أيضاً على الكثير من النظريات والافتراضات الغريبة الأخرى، كنظرية التطور مثلاً، التي وضعها تشارلز داروين. يتساءل الفنان متلبساً دور هذه العقلية المشككة: «كيف يمكن أن نتصور أن النمور- وهي حيوانات مفترسة – تطورت من أسلاف كالأسماك؟ أو أن الطيور التي نعرفها اليوم لها علاقة بهذا المخلوق الهائل الذي يسمونه ديناصور؟ كيف يمكن أن يكون لهذا الكائن المتوحش علاقة قرابة بطيور وديعة كالدجاج الذي نتناوله على الغداء، أو طائر الطنان الصغير المعروف بضآلة حجمه».
تسترسل تلك العقلية المشككة في السخرية ممن يؤمنون بمثل هذه الأشياء الخرافية، هؤلاء الذين انطلت عليهم تلك الخدع بكل سهولة، وترى أن مجتمعاتنا محصنة من مثل هذه الخرافات والأفكار الغامضة. «نحن أصحاب حضارات قديمة، وثقافة تضرب جذورها في أعماق التاريخ. وتفوقنا يستند إلى هذا الإرث الطويل، ومن الصعب أن يتم خداعنا بهذه السهولة؛ لذا نحن نعرف أن هذا الشيء لم يوجد، ولا يجب أن يكون موجوداً على الإطلاق». هكذا يعلن الفنان عن طريق نصه المصاحب للعمل عن سخريته من تلك العقلية المشككة، بينما يظل مجسمه المعدني منتصباً باتجاه المدينة، معلناً تحديه للمارة، ولتلك المركبات المتحركة التي يزدحم بها المكان من حوله، لا يؤرقه سوى تلك الكائنات الضئيلة التي لا يحلو لها منذ أن استقر هنا سوى قضاء حاجتها بين قوائمه.
٭ كاتب مصري
كل الديناصورات تجدونها في الثكنات العسكرية العربية من المحيط الى الخليج