ديوان العـلاق العصـيُّ على التـرجمـة

أكثر من عشرين عاماً أمضيتها في ترجمة الشعر ودراسته كتخصّصٍ أكاديميّ. ومثل هذه السنوات في العمل مترجمة فورية. وحين يسألني البعض عن ترجمتي، على وجه العموم، أقول: أنا مترجمة جيدة. ثم أكمل، بثقة تكاد أن تصل إلى العجرفة: لكنني مترجمة شعرٍ بارعة. هكذا كنت أجيب، وهكذا كنت أشعر بزهوٍ عندما أنهي ترجمة قصيدة ما، لأنني أشعر بأنها، في الواقع، كتابة جديدة. فكل العذابات التي تتجلى في القصيدة الأصل، ومعاناة كاتبها، تعتريني حين أقوم بترجمتها، ولا ينتهي هذا الإحساس حتى أتمكن من القصيدة. إنه نزال مع القصيدة ومن أجلها. وفي معركة كهذه، أشحذ ذخيرتي: الإحساس باللغة، والقدرة على فهم استعاراتها وصورها، والتروي في اختيارأفضل وسيلة للتغلّب على ما تضعه تلك القصيدة أمامي من عقبات. والأهم من كل ذلك، إحساس الشاعر الذي ورثته عن والدي الشاعر والناقد علي جعفر العلاق
إنها عملية تستغرق وقتاً طويلاً. يقول العـلاق، «في أحيـانٍ كثيرة قـد لا أفرغ من كتابة قصيدتي الجـديدة قبل مضيّ أيـامٍ أو أسابيعَ أحياناً، مليئة بالسهر أو الشرود المتقطع الذي تتخلله نوباتٌ من الفرح، أو الحيرة التي تشبه اليأس أحيانا».
عندما قرأت هذا الوصف، أحسست بأنه يتصل بحالتي أثناء ترجمتي للشعر. بدأ ولعي بترجمة الشعر في فترة مبكرة، وكانت قصائد علي جعفر العلاق، أولى محاولاتي، كنت أحفظ الكثير من قصائده، وكنت أسارع إلى إلقائها في جلساتنا الأدبية مع أصدقائه من الشعراء والأدباء، خاصة ممن يزورون بغداد للمشاركة في مناسباتها الأدبية العديدة، كمهرجان المربد مثلاً. وبمرور الوقت، أصبحت ترجمة قصائد العلاق، جزءاً لا يتجزأ من هويتي كمترجمة للشعر.
لقد شكلت ترجمة قصائد العلاق إلى الإنكليزية متعةَ لم أشعر بها، وأنا أترجم لغيره من الشعراء، لكنني واجهت، في واقع الأمر، أعظم تحدٍ لي، عندما بدأت بترجمة مجموعة من قصائد ديوانه الأول، «لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء». وكانت معاناتي تكمن في عدم القدرة على سبر أغوار قصائده، أو فهم معنى النص بشكل يمكنني من ترجمتها كما تستحق. ولم أدرك ما الذي اعتراني حينها، أهو الغضب، أم الإحباط، أم الحزن، أم الخيبة؟ ربما كنت أعيش هذه المشاعر كلها، لكن الخيبة والحرج من قلة الحيلة كانا أشد وطأة من غيرهما. بعد أن كنت مزهوّة بمقدرتي على فهم القصيدة وترجمتها بكفاءة.

لا أستطيع تجاهل الخوف الذي أحس به كلما بدأت بترجمة قصيدة من قصائد الديوان. وكأنني أذهب إلى ساحة القتال عزلاء دونما عدة للمنازلة.

لقد حفظت الكثير من قصائد «لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء» وكنت أرددها بشغف. ولطالما أحببت هذا الديوان الجميل، لكن جماله كان مقلقاً بالنسبة لي، يبعث على الحيرة والتساؤل. فكلما قرأت قصيدةً من هذا الديوان، أشعر وكأنني في حلمٍ غريب ذي أجواء منافية للمنطق، فأستيقظ لأجدني في حلم آخر أشد عجائبية من سابقه، أو كأنني في رواية «أليس في بلاد العجائب». لم أجرؤ يوماً على ترجمة أيٍّ من قصائد العلاق في ذلك الديوان، ولو على سبيل التجربة أو التسلية العابثة. كنت أشعر لسببٍ ما، بأنني لست أهلا لترجمة هذا النوع من الشعر. وإن عدنا إلى التعريف التقليدي للترجمة، بوصفها نقلاً لمعنى القصيدة «من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف بأمانة وبدون تحيّز»، سيبدو هذا التعريف بعيد المنال هنا، إذ كيف لي أن أترجم شعراً لا أفهمه؟ لم أدرك حينها أن السبب يكمن في طبيعة القصيدة نفسها. فالقصيدة هي ما يحول دون ترجمتها وليس المعنى. إذ أن شعر علي جعفر العلاق ليس شعر معنى، بل شعر لغة وصور ومخيلة جامحة لا أقوى على ترويضها. يقول فاروق يوسف «كنت في الماضي أقرأ قصيدة العلاق ولا أفهم شيئاً منها، غير أنني أظل مشدوداً إليها. فيها ما يسحر. شيء لا يفقده غياب المعنى قوته. حين أعود إلى القصيدة نفسها من غير أن تكون لديّ هذه المرة رغبةً في الفهم، أزداد تلذذاً».
كان العمل على ترجمة قصائد والدي إلى الإنكليزية جزءاً من مشروع كبير مازال يشغلني حتى هذه اللحظة. وبعد شروعي في العمل، وإنجازي جزءاً كبيراً منه، قمت بمراجعة لما ترجمت من قصائد، فوجدت أن «لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء» هو الديوان الوحيد الذي لم أقم بترجمة شيء منه. أدركت لحظتها أن عدم ترجمتي بعضاً من قصائد هذا الديوان يعني أنني سأقدم تجربة شعرية منقوصة لشاعر مثل علي جعفر العلاق.. لا مفر إذن من المحاولة، لابد لي من أن أواجه هذا التحدي، لأترجم بعض قصائد هذا الديوان الذي، كان أول ما لفت الأنظار إلى علي جعفر العلاق باعتباره شاعراً مميزاً. ها أنا ذا، أقبل على ما تفاديته طيلة حياتي المهنية كمترجمة. لا أستطيع تجاهل الخوف الذي أحس به كلما بدأت بترجمة قصيدة من قصائد الديوان. وكأنني أذهب إلى ساحة القتال عزلاء دونما عدة للمنازلة. وهنا، في هذه اللحظة تحديداً، يتوقف الزمن، وينضب الإلهام، وتجف الصحف. لا شيء يحدث.. ولا أحد يجيء .. لنجدتي.
إن ديوان «لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء» يمثل أكبر إخفاقاتي ، فكلما شرعت بترجمة قصيدة منه، تسربت من بين أصابعي لتكون، أو تكاد، نصاً آخر، مطلعه يشبه مطلع القصيدة الأصلية، لكن صلته بمتن تلك القصيدة، أو تطابقه معها قد لا يكون كبيراً دائماً.
من قصيدة «انطفاء»
حملتُ أوجهكمْ وشْـماً على رئتي
وقلتُ للريحِ هذي كلّ أمتعتي
حملتكم شـجراً مُرّا ونافـذةً من النعاسِ
وجرحاً يابسَ الشـفةِ..

٭ كاتبة ومترجمة عراقية تقيم في الإمارات

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية