ديوان «لا شيء يوجعني» : التناقضات ورمزية التعبير الدلالي

يقدمُ ديوان «لا شيء يوجعني» للشاعر حمزة قناوي (سلسلة مجلة الرافد، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2016) تقنياتٍ إبداعيةً تتقاطعُ ما بين الرمزية والرومانسية والواقعية المتلبسة روح العصر، متعاطيةً في الوقت ذاته مع اغتراب الإنسان ووجعه، وبذلكَ نُصبح أمام حالة ذات يظهر فيها انحسار حلم العاشق، وفجاجة قبح الواقع، فنقف في المنطقة الفاصلة بين تخومِ الحلمِ الرومانسي، وفجاعة الواقعية النقدية، فتنعكس من الديوان حالةٌ إبداعيةٌ ملتبسةٌ ممتلئةٌ بزخم من المشاعر المتناقضة.
وبدلاً من الخروج من العالم الفردي الضيق لرحابة التعبير عن العالم الكبير الواسع، يتم اختزال واستحضار العالم الواسع إلى داخل معاناة الشاعر الوجدانية، ومن ثم نصبح أمام حالة جديدة من التعبير عن الوجدان، وعن الذات الشاعرة بوصفها أنموذجاً يكشف وقاحة الواقع وانحطاطه، ولا حاجة للخروج عن الذات الشاعرة إلى خارجها للتعبير عن هذه الوقاحة، كما كنا نشاهد في شعر أمل دنقل أو أحمد عبد المعطي حجازي وغيرهما، ممن كانوا ينقلون ثقل دائرة المشاعر والوجدان من داخلهم إلى الواقع من حولِهم؛ فتأسرهم ظلال التحولات التاريخية الاجتماعية الكبرى، التي عاشوا فيها، بينما هنا يصبح العالم الواقعي الوقح بكل انحطاطه مُختزَلاً داخل إحباطاتِ وانكساراتِ ووجعِ الذات الوجدانية للشاعر.

أنماط التعبير ودلالتها

يأتي توجه قناوي الشعري ما بين الرمزية والرومانسية والواقعية، ويسكنه شبح روح العصر وإحباطاته، صانعاً من كل ذلك حالة خاصة من التعبير تعطي للديوان نغمة شجية من نغمات الوجع المدهش، هذا الدمج بين التوجهات الأدبية في اختيار أنماط التعبير ـ الذي تظهرُ تأثيراتُهُ بشكلٍ أساسيٍ على مُعطياتِ الدلالة الشعرية ـ يجعل القارئ يشعر بأن عقله وقلبه أصبحا مثل البندول الذي يتأرجحُ إلى أقصَى اليمين وأقصى اليسار، فيتأرجحُ العقل والقَلب مُنقادَينِ للوجدان، ناحية أقصى درجات الفرح والنشوة، ثم يعودانِ مرةً أخرى وبسرعةٍ كبيرة إلى الجانب المقابل تماماً ناحيةَ أقصَى دَرجاتِ الوَجعِ والإحباط وفقدان الأمل، هذا التأرجح البندولي في التعبير يصنعُ حالةً من السحرية في الاستسلام لرسائل النص الدلالية؛ فتُفْقِد الرسائل المتتالية المتناقضة، العقلَ قدرةَ تمييزِ الحَالةِ الوجدانية التي يجب أن يشعر بها، ويحتارُ في كيفيةِ مَوْقَعَةِ معاني النص، فيستسلم منحياً الرغبةَ عن التَصنيفِ، ومنقاداً لسِحريةِ التَعبيرِ، فلنتأمل مثلاً التعبيرَ التالي من قصيدة «أمُرُّ للذِكرى فأنساني»:
«ولم أرَ الماضي سوى الغدِ في نشيدِ الحالمينَ وفي انكسارِ المتعبينَ وفي صداهُ
أمُرُّ للذكرى فأنساني وأعبُر مثلَ أغنيةٍ تجيءُ من البعيدِ للامكان..
كأنَّني حُرٌّ ومنبعثٌ من الموتِ المراوحِ في التذكُّرِ.. دُونَمَا تَوقٌ إلى شيءٍ ولا وجعٌ يحاصرني فأجهشُ بالغناء
لظلِّ قافيتي أسيرُ.. لما يقولُ البحرُ لليلِ الملازمِ حزنه..
ولما تُسرُّ فراشةٌ قطعت مدىً بغنائِها لِلَّيلِ بَاكِيةً: تعِبتُ من الرَّفِيفِ.. من الترنُّمِ بالمواجِعِ في الحُقولِ وليسَ من أحدٍ هناكَ»
يمتلئُ الديوانُ بالكثيرِ من الأمثلةِ للحالةِ التي ذكرتها، من جمعِ المُتناقِضاتِ الوجدانيةِ الشُعوريةِ في داخِلِ السَطرِ الشعريّ الواحد، بيد أنني أخترت هذا النموذج لأنه أيضاً يُلفِتُ النَظرَ إلى الحالةِ الإيقاعيةِ التي تصاحب حالة إحداث أثر التخدير العقلي وتحقيق الاستسلام الوجداني لمشاعر القصيدة التي تصبح مع الوقت هي القائدة لعملية التلقي والتأويل (حاتم الصكر: ترويض النص، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998). ويبدو القارئ فاقداً إمكانية توجيه الكلمات إلى المعاني التي يريدها، يمكن للقارئ فقط إحداث أنواع من العلاقات والتراتبيات مع المعاني الوجودية، داخل النص في إطار الدلالة المحددة مسبقاً، والمهيمنة على كل قصيدة، فكما ذكرت يتمُ اختزالُ العالم كمن يأخذ العالم الكبير الموجود خارج الديوان، ويسجنه داخل كلمات النص، كما المارد الكبير الذي يسجن في القمقم الصغير؛ فمثلاً هنا نلاحظ البداية الموحية بالتفاؤل، فالماضي هو الغد، وهنا يتوهم العقل في البداية في إطار التناص العقلي التقليدي، أن الشاعر يطالب بترك الماضي والنظر للغد، فإكمال الدلالات أيضاً من أعمال العقل اللاإرادية، وهنا لا ننتبهُ في البداية إلى أنّ الشاعرَ يَسحبُ الغدَ للماضي، لا يسحب الماضي للغد، بمعنى أن الماضي هو الذي سيصبحُ الغد، بهذه الطريقة المتناقضة بين متضادين ومحاولةِ تكوينِ معنى منهما، توحي في البداية بالتفاؤل، لكن مع تحليلها نكتشف أن المراد أن الغد مسجونٌ في إحباطات وإخفاقات الماضي، ثم تأتي دفقة شعورية تمنح بصيصاً من الأمل بذكر الحالمين، ثم نعود من جديد لانكسار الحالمين، وهكذا صعود وهبوط في المشاعر، لتصبح الصورة الكلية المتكونة صورة في غاية القتامة، رغم أن بعض تفاصيلها بنيت من بعض المفردات الموحية بالإيجابية والتفاؤل: «كالغدِ، نَشيدُ الحالمين، حُرٌّ ومُنبَعِثٌ، الغناء، فراشةً قَطَعَت مَدى» وهكذا من المفردات التي يمكن أن تدل بذاتها على إيحاءات الإيجاب والفرح والأمل، لكن النسيج والسبك النصي الذي تدخل فيه مع متقابلات ضدية، تغير الدلالة الكلية الناتجة تماما.

الديوان/القصيدة

وجدير بالذكر أن محمد عبد المطلب، كان قد قدم للديوان بدراسة متمايزة عن البنية الدلالية اللغوية وتوظيفاتها في ديوان «لا شيء يوجعني» معتبراً الديوان كأنه قصيدة واحدة متعددة الأغراض، رغم احتواء الديوان على عشرين عنواناً داخليا، لقصائد متنوعة في الطول والقصر، حتى أن آخرَ قصيدةٍ جَاءت على وزن القصيدة العمودية، لكن ترى ما الذي حمل محمد عبد المطلب على ذلك؟ في اعتقادي أن السمة الموحدة بين جميع القصائد هي المعادلة اللغوية الدلالية، التي أتقنها حمزة قناوي هنا من التوازن بين مفردات الفرح والسعادة والحب والتفاؤل، ثم البناء على ذلك بالهدم المضاد له انتهاء بالوصول إلى معنى ضدي كلية، معنى يناقض ما بدأ منه فتنقلب الصورة رأساً على عقب، واتباع هذه التقنية أدت إلى واحدية أسلوب بناء الصورة، مع تعددية الصورة الناتجة، المؤدية جميعها إلى اتجاه واحد من التنفيس عن الشعور المطبق بالألم المفرط، وكأننا نشتمُّ رائحةَ دُخانٍ كثيفٍ انطلقَ من بركانٍ راكدٍ منذُ آلافِ السنوات، بيد أننا ونحن نشم هذا الدخان نشمه من فوق حقل ممتلئ بعبير الزهور، فلا الزهور قادرة على إذابة الرائحة وإبعادِها، ولا دخان البركان يحجب عن الأنف استشعاره بوجود بعض رائحة جميلة في دخان اللظى.
وهذا ما يجعل التوليد الدلالي للمعنى والصورة عند الشاعر مختلفاً ومتمايزاً في هذا الديوان، كإحدى السماتِ الخاصة به، التي لم يحد عنها منذ بداية قصائده حتى نهايتها في ديوانه هنا، وكأنه في كل قصيدة يرسم لوحة تشكيلية خاصة بالتعبير عن موقف معين من مواقف إحباطات الحياة؛ لنشعر بأن أسلوب تكوين الصورة واحد، بيد أن الصور المتشكلة عن هذا التكوين مختلفةٌ تماماً، رغم أنها في النهاية حصيلة مكونات واحدة: شاعرٌ مُحبَطٌ حزين، عاش قصة حب مع امرأةٍ فاتنةٍ حدَ الأسطورة، غير أن الدنيا والزمن والأوجاع من حوله خذلته وطعنته وأذاقته كل أنواع الجراح الممكنة، من هذه الخامة الأساسية للمعاناة والتعب تتشكل اللوحات الفنية الدلالية للقصائد.
لا شيء يوجعني
«لا شيءَ يُوجِعُني..
سأنسى وَجَهَها هذا المساءَ.. أعيدُ ترتيبَ التفاصيلِ التي وُسِمَت بها..
يدُها الصغيرةُ في ذراعي وارتعاش شفاهِها في قبلة الحب السريعةِ حين نعبُرُ بالطَّريقِ..
حريرُ كفَّيها يُبعثِرُ نَرجِساً وسنونواتٍ لا تكفُّ عن الغناءِ
وما تبقَّى من حقولِ البُنِّ عابقةً بفستانٍ نضَتهُ عن الربيعِ لتتَّقِد
والنورسانِ الأبيضانِ..
الوردةُ الوسطى يُراوِدُها العبيرُ
الصمتُ إن يبكي الحريرُ
شُرودُها عند الوداعِ.. وما تبقَّى من نِثار العطر فوق الريحِ..»
يبني الشاعر صياغة صورة المحبوبة على امتداد العمل، فطوال الوقت- رغم أننا نعلم أن الخاتمة ستكون بالحديث عن الخذلان من هذه المحبوبة – خاصة أن عناوين القصائد تشير منذ البداية إلى حتمية المعني الضدي لأي فرح متكون داخل القصيدة، فالعنونة بـ«لا شيء يوجعني» توحي منذ البداية بأن القصيدة ستتجه إلى الألم، ومحاولة تغلب الشاعر على الألم، ومع ذلك، بدلاً من إسقاطِ الصورةِ السَلبيةِ عن هذه المحبوبة، يبالغ في توصيف الجمال والرقة والرمز المكنى عن حد الهوس بالمحبوبة، وإن كنا لا نعلم تفاصيل قصة الهجران وتحول الأمر ـ وسنلاحظ تكرار النمط في ما يخفيه شاعرنا من أسباب القطيعة والهجران، كأنه لا يريد أن يتذكر السبب الذي أدى إلى هذه الحال بينهما ـ ليتحول الأمر إلى النقيض تماماً من هذه البهجة بالمحبوبة، فيختتم القصيدة بحالةٍ قد نُؤّولُها بحدِ التفكير في الانتحار، وترك العالم، أو التفويض والاستسلام لما قد يجري وما يجري، دون وجود حقيقي في محاولة التصدي، ورغم أن البداية والعنونة وما قدر تكرر كثيراً داخل النص من قوله «لا شيء يوجعني» إلا أن الخاتمة تنتهي:
« فربما ألقى سواها من تُصادِقني..
وقد ألقى أساي موسِّداً روحي السماءْ»
لا شك في أن هذا الديوان يعكس خبرة في تأليف الشعر وقرضه، استفاد فيها الشاعر من تجاربه الشعرية في دواوينه العشرةِ السابقة، وكأنه هنا قد صب كل خبراته الشعرية مرة واحدة، وبشكل بالغ التكثيف، فالديوان صغير الحجم، في النهاية ممتلئ بجوانب التحليل والشاعرية.

ناقد مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية