بيروت – «القدس العربي»: لسنا في «شفق» حتى، بل في «غسق». ظلمة الليل تحيط بنا. أما من عودة للشفق وما قبله؟ سؤال على كل شفة ولسان. للأسف، كأننا قبل وبعد مسرحية «غسق» أمام قراءة ليس فيها أمل. قراءة لجيل ولد في ثمانينيات القرن الماضي مُتمثّل بكاتبة ومخرجة «غسق» كريستيل خضر، ومن اختارتهم ممثلين. بعد عروض كثيرة ومشاركة في مهرجانات أوروبية حطّ العرض المسرحي «غسق» في مسرح المدينة لأيام تمتد إلى 17 الشهر الجاري. عرض تميز بتصويب كوميدي مرير لولادة وطن تبدو قيصرية. واستمراره على قيد الحياة 100 وأربع سنوات ونصف حتى الآن. ولادة احتفى بها الفرنسيون، وما يزالون أكثر منا. حتى وإن كنّا أم «الصبي». والملاحظ منذ عصر الجنرال غورو وإلى عصر ماكرون، أن رأس هذا «الصبي» يحتاج من يسنده بشكل أو بآخر. رأس يُثقل كتفيه، وبالكاد تمكن من حمله سواء في شبابه، أو كهولته، ولا من عتب بعد بلوغه من العمر «عتيا».
أربعة ممثلين يتساندون على الخشبة رودريك سليمان، إيلي نجيم، روي ديب وطارق يعقوب. يُثقلهم منذ البداية 1 أيلول ومئوية لبنان الكبير سنة 2020 وزيارة الرئيس الفرنسي وخطابة بالمناسبة. زيارة تلت الأولى العجولة إثر تفجير المرفأ في آب. ممثلون يمثلون جيلهم. جيل يطرح اسئلة ولا من يجيب. جيل يسأل المحاسبة ولا يجد من يُحاسِب، ولا من يُحاسَب. الطاسة «ضايعا» في العدالة ومحيطها.
الشباب الأربعة حملوا أسماءهم التي رافقهم منذ الولادة دون تعديل. خيار للمخرجة لمزيد من الإنحياز إلى الواقع، ودون حاجة لإبتكارات. أن يكون الممثل هو نفسه يحكي قناعاته ويطرح أسئلته الشخصية، سيكون أكثر تأثيراً من تقمصه لإسم وشخصية. رغم أن فعل تقمص الشخصيات وتقديمها للجمهور مهنة كل ممثل في الحياة، كما هي مهنة اللعوبين من أهل السياسة.
إذاً فرنسا سندنا المعنوي الدائم منذ قررت أن تكون منتدبة علينا، وقررنا نحن أن تكون «اُمنا» للأبد. إنما «غسق» أدخلتنا إلى العصور الوسطى النروجية ومن خلال نص لهنريك إبسن «الساعون إلى العرش». كنّا حيال أخوين يتصارعان على السلطة. بان حالنا وصراعاتنا المخفية والظاهرة من خلال ابسن، والسلطة هي الهدف.
على خربة ودمار كان لقاء الممثلين الأربعة، وفي عتمة ليل لم يخترقه ضوء قمر، وعلى أرض تتأرجح وكأنها «سيسو» يلهو فوقه الأطفال. سينوغرافيا جاءت مُكمّلة لمقاصد الحوار. كما البحث عن الرجل الأسعد، او السعيد على هذه الأرض. وتكرّ الحوارات القلقة بين الرباعي المنتمي بالولادة إلى عقد الثمانينات، متنقلة من خاصة جداً، إلى حميمة، كخيارات الهوية الجنسية. إلى رغبة بالحكي عن ال»سيكس» ورفض لها. إلى تذكّر شاشة تلفزيون لبنان وما كانت تبثّه من فرح في نفوس الأطفال، من مسلسلات وأدوار بطولة لا تُنسى. «بتتخيل الحياة لمّا كنّا بعمر ال10 سنين»؟ سؤال يحكي فرحاً مضى. رغماً من عتمة المكان بدا نور يشعّ من وجوه الشباب الأربعة على المسرح لدى سماعه.
كتبت كريستيل خضر نصاً مشغول بتفاصيل إنسانية وثقافية وسياسية جمّة، وذات ميزة غنية. حوار عابق بالمشاعر المبهجة لمن يستذكرها. ربما لأن الأمس أكثر صفاء من الحاضر الملبّد. ولهذا تكررت في العرض المسرحي فسحات صمت وتأمل بين الممثلين الأربعة، والجمهور مُنصت بإنتظار التالي. صمت ساهم ربما بمزيدٍ من الإنغماس في قضايا هؤلاء الشباب، والتي قرروا أن نتشاركها سوياً.
دوافع كثيرة أدت بكريستيل خضر ككاتبة ومخرجة الوصول إلى نص «غسق». قد تكون أهمها الأسئلة التي لا تجد اجابات لدى جيل عريض من اللبنانيين. جيل رافض لإرث النسيان بعد الحرب والخراب. التوافق على نسيان الماضي، لن يجعله يأمن على مستقبل السلم الأهلي. والشعب الحر وفق هذه المسلمات سيبقى أعجز من أن يكون عظيماً. هذا إذا سلّمنا بأن العظمة فعل بالإمكان بلوغه.
إن كانت سيرة الكاتبة والمخرجة والممثلة كريستيل خضر تتقاطع مع مضمون عرضها المسرحي «غسق»، كما ورد في الكتيب المرفق حيث تقول: أجد نفسي بذلك امرأة تراقب أبطالاً وبطلات تراجيديين، عاجزة، ووسيلتها الوحيدة للمقاومة أن تشهد. لكني أتوق بشدّة لأن أقوم بفعل – كبير، حاسم، راديكالي – فعل يولّد تغيراً ويقيم عدالة».
اُنتج «غسق» بدعم من مؤسسات ثقافية أوروبية عدّة، وكانت له الكثير من العروض في مدن فرنسية وأوروبية. وهو الآن في بيروت من المركز الثقافي الفرنسي وسفارة النروج.
صمم السينوغرافيا والإضاءة نديم دعيبس. وصمم الصوت والموسيقى زياد مكرزل.