ذاكرة الكاتب والخيال الشعبي: قراءة في رواية «كسوف»

تتغيّر القناعة لدى الكُتّاب عندما يكون العقلُ مفعماً بثقافات متعددة، وتتجدّد الثقافة عندما لا تكون القناعة ثابتة، بمعنى أن الكاتب تخلقه الظروف المُحيطة، ومن ثم يُنشئها آخر مرة؛ أي ما بعد النشأة الأولى من حياتهِ، وما تجذر منها، ومن ثم قراءاته وما تصدّر له منها؛ فيُفضِي الكاتب بالثقافة وتنوعها، وبالآراء وتجلياتها إلى عدّة تصورات في الآن نفسه، إذ ينتمي العقل أحياناً إلى العاطفة، والعكس صحيح أيضا.
إنّ الكتابة تدلّ على ماهية الثقافة التي تهيمن على الكاتب، أو ما يهيمن لدى الكاتب من ثقافة متنوعة، ورؤى مختلفة، وبالتالي ما يُصيّره العقل يرضخ تحت وطأة الثقافات المتعددة لديه. يسلك الكُتّاب أحيانا إلى التخييل بأوجههِ المتعددة في كتاباتهم، حتى إنهم يستوحون ذاكرتهم من الخرافات والتنبؤات العتيقة الراسخة في أذهان الناس أو المجتمع ككل، خاصة أولئك الذين عاشوا حياة بسيطة ورتيبة لم يطرأ عليها التطوّر، أو زمن السرعة؛ لأجل بسط لغة متوازنة بين واقع يعيشه الكاتب في مباشرتهِ المُحدّدة، وخيالٍ يستوحيه ويستحضره في رمزيتهِ المُفرطة.
حاول الكاتب الإيرلندي جون بانفيل في روايتهِ «كسوف»، أن يستدلّ بمكنونات العقل مقابل هيمنة في استحضار العاطفة المُغلفة بالخرافات أو العادات الشعبية أو النبوءات، أو الأمكنة الشعبية التقليدية، وبالتالي فإنّ رؤيته للأشياء انحصرت بتلك الجوانب؛ لُيضفي بنصّه الروائي إلى اتجاهات مُحدّدة في معناها، ورموز بيّنة في مغزاها، وألفاظ مقصودة في دلالاتها، تتعلّق بالذاكرة المُفترضة التي تحمل أنساق الخيال وتجلياته: (مع ابتسامة صفراء مكشوفة، من لحظة ٍ في الطفولة حين خطر لي أن أتساءل كيف لمساحة مثلّثة الشكل أن يُنتهى إلى تسميتها square «مربع/ ميدان». كانت في المنزل المجاور امرأة مجنونة في العليّة، صدقاً، هذه حقيقة).
يُلمّح الكاتب جون بانفيل في روايته «كسوف» إلى الشخصية الخيالية، كما يؤكد ذلك مترجمها، والمُستعارة من رواية «جين أير»، التي حبسها زوجها في العليّة بسبب جنونها. لكن الكاتب هنا يوظّف الصور بطريقتهِ الأدبية المُستساغة؛ أي الخلط بين ذاكرتين، الأولى واقعية، استمدها من طفولته، والأخرى، خيالية، يحاول ربطها مع شخصيات خيالية أدبية: (كم صباح ٍ كنت أنطلق إلى المدرسة فتطلّ برأسها الغوليووغي المضحك من نافذة السقف المكسور، وتناديني صائحة بكلام غير مفهوم، شعرها كان أسود فاحماً، ووجهها أبيضَ ألقا، كانت في العشرين والثلاثين، وتلعب بالدمى).
يعتمد الكاتب هنا على ذاكرتهِ، في توظيف شخصيات مختلفة، ومنها استحضاره لتلك الشخصية الكاريكاتيرية، المرسومة بطريقة مختلفة؛ محاولة منه، للتأثير في الآخر، سواء بعقلهِ، أم بعاطفتهِ، إذ إنّ استحضار الجنون في نصّ عاقل، أو مُخيلة عاقلة في نصّ يوحي أحيانا بالجنون، يُضفي إلى توازن سردي مؤثر لدى المتلقي، فضلاً عن توظيفهِ الخرافات الشعبية، بوصفِها ثقافة سائدة في المجتمع: (المهم، تخزين مؤونة المطبخ، وضع كتبي على الرفوف، وصوري المبروزة، وكفّ أرنبي الميمون، خلال وقت قصير كانت كلّها منتهية).
يوظّف الكاتب معتقداً قديماً، أو طقساً شعبياً عتيقاً، يتمثّل بكفّ الأرنب، ويُعتقَد حسب المترجم، أنها تجلب الحظ عند عدد من الشعوب القديمة، وتصنع منه تعاويذ وتمائم وتماثيل.
تلك الحكايات الشعبية، التي تقع ضمن الخرافة، أو الخيال في السرد والمعنى، تُستحضَر في هذه الرواية؛ لأجل التأثير في المتلقي، فضلاً عن ثقافة الكاتب من التراث الشعبي القديم أو القصص القديمة المتوارثة إليه: (هنا أيضا آثار دخيل، شخص قد بات ينام في سرير أمي، اتّقد غضب هنيهة، ثم انطفأ، إذ لِما لا ينبغي لذات شعر ذهبي، أن تُريح رأسها المتعب حيث لن تُريح أمي المسكينة من جديد رأسها أبداً).
يُلمّح الكاتب هنا، حسب مترجم الرواية في هامشِها، إلى حكاية الدببة الثلاثة، وذات الشعر الذهبي التي تسلّلت إلى منزلهم في الغابة وأكلت طعامهم، وقعدت على مقاعدهم، ونامت على أسرتهم قبل أن يُكتشف أمرها فتهرب بعيداً حتى كادت تضيع.
يصوغ الكاتب سرده بطريقةٍ ذكية، وأداء متين، إذ يحاول أن يُعطي للمفاهيم التي يسردها رمزية عالية، فهو يُسهب في سرد تلك الحكايات الشعبية، أو القصص التي تُشير إلى الخرافة في مغزاها، ويُقدّم دلالات رمزية لها، يُضفي ما يُريد بأقلّ اللغة تبذيراً: (البديل دائما بديل: وفي حالتهِ يوجد دائماً آخر، حضورٌ سابقٌ يُمثّل مكانه، مَنْ ذا يكون، إذن، إن لم يكن إيّاي، أمفتريون). يستحضر الكاتب هنا، جملة مُختصرة من مسرحية « أمفتريون» للكاتب المسرحي بلوتس، ويوضّح المترجم شخصية «أمفتريون» في هامش النص، بأنه قائد عسكري من أعيان ثيفا في الميثولوجيا اليونانية القديمة، قتل عمّه إليكتريون ملك مسينا، خطأ، فُنفِي، ثم هرب هو وألكميني، إلى حِمَى ملك ثيفا، الذي طهره من خطيئة القتل.
تُهيمن في رواية «كسوف»، ذاكرة الكاتب من ثقافة شعبية مُتخيلة، بصورتها المتوازنة، التي تسود في معناها الخرافة، ويُضفي عليها روح الأسطورة الشعبية بشخوصها وأمكنتها، بحكاياتها وأزمنتها، بأحداثها ورؤاها، وهذا ما يُجسّد ثقافة الكاتب في تبنّيه لثقافة مهمة في الدراسات الاجتماعية أو الشعبية، فالكاتب جون بانفيل قارئ مثقف؛ لأنه كاتب يعي ما يقول، وما يكتب. يوظّف الكاتب جون بانفيل تلك الهيمنة الثقافية في روايتهِ التي بُنيت على «ذات خالصة»، بوصفِها « ذات البطل المائز»، أو «ذات الروائي الكاتب»، هو ذاته «السارد»، يُشخّص بدقة ما يُريد، ويرمز لواقعيته بما يؤمن، ويُعطي لرمزية الأشياء واقعية مفعمة بالمعنى، وهو ما بين الذات سارداً، وبين الرمز عارفاً، وبين الواقعية مثقفاً، يصوغ روايته بلغة عالية المستوى، بألفاظِها، ومفرداتها، بأسلوبها وطريقة الأداء فيها، بمضمونها ومعناها، فالكاتب جريء في طريقة كتابتهِ، وذكي في صياغة سرده.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية