ذاكَ الظلُّ لنا!

لم يعد الهدوءُ يحتلُّ تلال تلك القرية المنسيّة تحت السماء، ولم تعد العصافيرُ توشوشُ في آذان بعضها حكاياتِ الجارات التي نثرنَها فوق نبع الماء. الآن، قرّرَ الجميع أن يرشُّوا على حياتِهم توابلَ ليست لها روائحُ شهيّةٌ… ففي ظهيرةِ ذلك اليوم، بدأ الطريقُ الترابيُّ يغلي بأهل الحارتَين، أقدامٌ تنأى وأخرى تدنو من الساحة، التي لم تجمعهم على مسرحٍ للرقص كما كانت العادة في كلّ عرسٍ، بل جمعتْهم على شيءٍ آخر؛ شيءٍ غامضٍ، شيءٍ مدفونٍ في عيون كلّ فريقٍ، شيءٍ مخيفٍ تخبّئه النظراتُ المتوعِّدةُ والجباهُ المجعَّدةُ، وعلى السطوحِ كانت النساءُ تروحُ وتجيءُ يحملنَ حجارةً يكدّسنَها فوق بعضها كذخيرةٍ، ويُتمتِمن بغضبٍ أشياءَ لم يفهمها غيرهنّ، فما الذي يحدثُ؟ لا أحدَ يعلمُ! لم يمضِ إلا وقتٌ قليلٌ حتّى ثارتِ القريةُ بأهلِها، وبدأتِ المعركةُ، فاشتبكَ رجالُ الحارَتَين بالعصي، أمّا الحجارةُ فكانت تحلّقُ فوق رؤوسهم؛ حيناً تصيبُ الرَّاميةُ زوجَها، وحيناً آخر تفتحُ جبهةَ أخيها، وأحياناً قليلةً تصيبُ خصمَها… يا لها من يدٍ مُسدِّدةٍ! وأمام أبواب البيوت الحجريّة التي رسمَها فنانٌ أعمى على عجَلٍ، وقف الأولادُ يصفقون، أمَّا حناجرُهم فكانت تعلو بالهتاف…
ماذا يحدث داخل المعركة؟ مَن أُدميَ؟ مَن قُتِلَ؟ لا يهمُّ، فحارتُنا هي التي ستُكلِّلُ يومَها بالنّصر. أمّا الزغاريد فأَشعلتِ الأجواء في السماء، حتّى بُحّتِ الأصواتُ وتحوّلتْ إلى نغمةٍ هزمها الحماسُ ثمّ استحالتْ رشقاتٍ من السّهام تنبثق من صدور النساء وتُوجَّه إلى سطوح الأعداء، تَشتُم وتولولُ وتطردُ من صدورِهنّ الغضب الرّاكد منذُ الصباح. تحوّلتِ القريةُ إلى جهنّمَين، جهنّمٍ رجوليٍّ بالعصي فوقَ التراب، وجهنّمٍ «أنثويّةٍ» بالصراخ فوق السطوح تحت السماء، لكن، بعد عدّة ساعاتٍ، خمدتْ نارُ إحدى الجهنّمَين، فأُنهكتِ الرجولةُ واستراحتْ على دماء القتلى والجرحى كسيفٍ مهزومٍ، أمّا في السماء، فما زالت تصدحُ الأصواتُ الأنثويّةُ المبحوحةُ.. لكن، بعد أن أدركتِ النسوةُ أنّ الهمّة فَترَتْ، بل تُوفّيت في صدورِ مَن تبقّى من الرجال، نزلْن إلى ساحة المعركة، وأكملْن سيمفونّيةَ الولولة على جثثِ القتلى ودماء الجرحى، أمّا مَن نجا من الموت والجرْح فجُلدُه مُزرقٌّ من الضّربِ، ومع ذلك، فإنّهُ بطلٌ في عين زوجته، كأنّ مَن حمَاه رجولتُه وثخنُ جلده وليست إرادة الله. لكنّ الغضب الذي لم يَفتُرْ بَعْد في صدور النسوة دفعهنّ إلى مواصلة القتال بالأيدي والأرجل وأحياناً بالاستعانةِ بالأطفال حتّى وَصلَ المُختار بعد أن غابتِ الشمسُ وراء الجبال، فصرخ:
-أوقفوا هذه المهزلة التاريخيّة!
فاجتمعتْ حولَه النسوةُ، وقد أشرنَ إلى شجرةٍ كانت تستريحُ على وسادةِ الحدِّ بين الحارتَين بعد أن أرسلتْ ظلّها إلى فراشِه لينام، وصرخْنَ:
– كان ذاك الظلُّ لنا.
– بل كان لنا… إنَّ الظلَّ لنا.

 كاتبة سوريّة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    جميلة بمخيال كاتبة تمتلك ناصية شاميّة جديرة بالتقدير…ففيها حبكة ذات دبكة…ومقاصد تبدو محليّة قرويّة؛ وهي ذات آفاق عالميّة تصل إلى جبال الهملايا.وأعجبتني عبارتك: ( وجهنّمٍ «أنثويّةٍ» بالصراخ فوق السطوح تحت السماء ).
    أتمنى لك التوفيق؛ وإلى المزيد من الاستمراريّة.

اشترك في قائمتنا البريدية