امرأتان في الحادية والأربعين من عمرهما، طفلان في الثامنة والخامسة عشرة من عمرهما، ورجل في الأربعين، كلهم يقفزون، واحداً تلو الآخر، من شقتهم في الطابق الخامس، في بلدة مونترو جنب جنيف. قفزوا من علو 25 متراً، من غير أن يُسمع لهم صراخ، من غير أن ينطقوا كلمة، كما لو أنهم يقفزون إلى مسبح وليس على رصيف من إسمنت تحفه خمس نخلات. في واقعة لم تشهد لها سويسرا سابقة. كلهم ماتوا على الفور، عدا الطفل (15 سنة) دخل في غيبوبة ثم نقلته هليكوبتر إلى المستشفى، حيث ظل في العناية المركزة، غير قادر على إفادة المحققين عن سبب قفزهم المميت. وسبب نجاته أنه وقع على جثة أمه وليس على بلاط الإسمنت. هذه الواقعة حصلت يوم 24 مارس/آذار 2022، بينما الناس منشغلة بتداعيات جائحة كورونا، فقررت الكاتبة الفرنسية آريان شومان أن تبحث عن الحقيقة، وأصدرت قبل أيام كتاباً بعنوان: «لا توقظ الأطفال» تُشرح فيه حيثيات ما وقع. لأن الحادثة لا تتعلق بأشخاص عاديين. فالمرأتان من أصول جزائرية، هما نسرين وشقيقتها التوأم نرجس، حفيدتا مولود فرعون، مؤسس الرواية الحديثة في الجزائر، بفضل روايته «نجل الفقير» (1950) وواحد من أشهر الكتاب في شمال افريقيا. مولود فرعون وُلد شهر مارس، وتوفي كذلك في شهر مارس 1962، في ظروف لا تقل تراجيديا، بخمس رصاصات من مجهول، تماماً مثل حفيدتيه، ألقتا بنفسيهما في الهواء في شهر مارس والسبب مجهول. فهل ما وقع كان انتحاراً؟ لكن آريان شومان تذهب إلى تفسيرات أخرى، بعدما قابلت المحققين الذين تكفلوا بالقضية، وكذلك أطباء نفسانيين. الشرطة السويسرية دونت القضية تحت خانة «الانتحار» لكن كتاب «لا توقظ الأطفال» يحيلنا إلى مسألة أخرى، تتعلق بعلم النفس، وكيف أن الأقدار المأساوية قد تتوارثها أجيال في ما بينها.
نظرية المؤامرة
في تفاصيل الحادثة، تقول الشرطة في تقريرها أن أحد أعوانها تقدم صباح الحادثة إلى بيت الضحايا، حيث تسكن نسرين برفقة زوجها الفرنسي، وابنيهما وكذلك شقيقتها التوأم نرجس. المرأتان كانتا طبييتين. تقدم إذن عون الشرطة وطرق الباب، سمع صوتاً من الداخل يسأل عن هويته، فأجاب بأنه مكلف بتبليغ الأب بتغيبه عن استدعاءات المدرسة، بعدما كان مكلفاً كغيره من الأولياء بمتابعة دراسة أبنائه في البيت، عقب غلق المدارس بسبب كورونا. هذا التسيب يُعاقب عليه القانون في أسوأ الحالات بغرامة مالية بسيطة، لكن الشرطي الذي طرق الباب لم يسمع رداً، ساد صمت. ففي الطرف الآخر من البلكونة كانت العائلة كلها بصدد القفز في الهواء. آريان شومان وجدت نفسها إزاء طريق مسدودة، فالشرطة أيضاً عجزت عن تحديد أسباب الانتحار الاجتماعي، وساد اعتقاد أن العلة فيه هو إسراف العائلة في إيمانها بنظريات المؤامرة واعتقادها أن الجائحة ليست سوى علامة من علامات نهاية العالم، لذلك فضلوا ملاقاة مصيرهم، من غير أن يخلفوا وصية، بدل أن يُداهمهم الموت. ذلك ما اقتنعت به الشرطة السويسرية، لكن الكاتبة الفرنسية ذهبت أبعد من ذلك. عادت ستين سنة إلى الوراء، إلى مارس 1962، حين واجه الجد مولود فرعون رصاص (منظمة الجيش السري) وهي منظمة إرهابية كانت تنادي بجزائر فرنسية. دخل مسلحون مجهولو الهوية إلى المؤسسة التربوية التي كان يعمل فيها مولود فرعون، في أعالي الجزائر العاصمة، ومات رمياً بالرصاص مع زملاء له. في هذا الكتاب تستعيد آريان شومان أرشيفاً ينشر، لأول مرة، عن تلك الحادثة التي أودت بحياة مؤسس الرواية الحديثة في الجزائر. وربطت بين القدرين المأساويين اللذين جمعا بين الجد مولود والحفيدتين نسرين ونرجس وبقية عائلتهما.
توارث المأساة
لم تكتف آريان شومان بالبحث في تقارير الشرطة، وكذا تقارير التحليل الشرعي للجثث، بل طرحت السؤال أيضاً على واحد من المختصين النفسيين. هذا الطبيب النفسي يشرح حالة الحفيدتين (اللتين يعتقد أنهما وراء إقناع الزوج والابنين بالقفز من الشرفة) بأنهما ظلتا، في لاوعيهما، مشغولتان بمأساة الجد مولود الذي مات مقتولاً. عانتا مما يطلق عليه في علم النفس ﺑ «اضطرابات ما بعد الأزمة» فقد كانتا، في كل مرة، تتخيلان نفسيهما في مكان الجد، وتتوقعان أن تصابا بأذى تماماً مثلما حصل له. هذه كانت وجهة نظر طبيب نفساني. في الأثناء كانت الصحافة السويسرية قد انشغلت طويلاً بالحادثة، وتداولت فرضيات متضاربة في ما بينها، على غرار انتماء العائلة إلى طائفة متطرفة تؤمن بنهاية العالم، أو أن العائلة دخلت حالة من الاضطراب الديني، أودى بها إلى النهاية التراجيدية. لكن الشيء الأكيد أن المحكمة، وبعد سنة من الواقعة، طوت الملف في خانة (الانتحار) وعجزت عن العثور على دلائل وقرائن تفيد عكس ذلك.
في كتاب «لا توقظ الأطفال» (عنوان مستوحى من جملة كتبها مولود فرعون في مذكراته) لا يجد القارئ نفسه إزاء واقعة انتحار فحسب، بل إن الكاتبة تستعيد ما يزيد عن نصف قرن من تاريخ آل فرعون، من الجد الكاتب، الذي لا يزال علامة بارزة في الأدب الجزائري، إلى غاية الأحفاد، بل تساءل أيضاً علي فرعون، وهو نجل مولود فرعون، فلأول مرة يتحدث هذا الرجل وقد بلغ الثمانين من عمره عن والده. وبينما اكتفت الشرطة السويسرية بمعالجة القضية بوصفها حادثا عرضياً، تستعيد الكاتبة التفصيل الأهم بما أن الضحيتين حفيدتا مولود فرعون، وتجعل من كتابها مقاربة تاريخية في فهم تراكمات البارانويا، وكيف بوسعها الانتقال من جيل لآخر. وفي الأثناء تقدم الكاتبة مقاربة سوسيو تاريخية عن الجزائر، منذ سنوات الاحتلال إلى غاية الاستقلال، وكيف أن تبعات الاستعمار ليست تحد في تحرير الأرض وحدها، بل في التعقيدات النفسية التي يعاني منها أبناء الاستقلال، وهو أمر لم يحظ باهتمام من قبل، مما يجعل من هذا الكتاب ليست فقط كرونولوجيا انتحار عائلة من أصول جزائرية، في سويسرا، بل مساءلة عن تبعات الاستعمار وكيفية الشفاء منها.
روائي جزائري