لم يكن يوما ما محمود درويش شاعرا ممنونا للردة العربية القديمة ولا الجديدة.. ولم يكن طفلا فلسطينيا ينام على ريش النعام في إحدى العواصم الغربية، ولا فوق أرصفة المدن العربية.
درويش حمل وزر القصيدة إلى أبعد مدى في صحارى المجاز، المتسرب من تحت وسادة العرب النائمين تحت سقيفة الانتظار.. شاعر عاش عمر قصيدته.. ولم يحدث أن انهزمت قوافيه المضمخة برائحة الشام والأندلس، أمام ممالك الشعر المتصرمة من العصور الوسطى! كان حقا الشاعر الذي حمل لواء الطفولة فينا، حتى بتنا نصحو لننام على إيقاع صوت المطر.. وفي كل مكان، في الحديقة وفي العريش وفي الغرف السرية المطلة على أندلس وردت في القصيدة! مراثي الزمن العربي كثيرة ، تعلق على أبواب حواضرنا تباعا .. في المغرب كما في المشرق.. فيصعد صوت الشاعر إلى السماء السابعة كي يكسر الإيقاع ويشرع في رد الموج الغاضب عن قرانا.
فكيف لنا الخروج فرادى من وعثاء المراثي التي حجبت عنا رؤية حبات العنب طازجة؟ كيف لنا الانتصار على المارد فينا، الذي يصعد تارة إلى غزة، وتارة أخرى إلى مكة؟ القصيدة نداء الروح قبل الجسد، لا تقيم حسابا للشعائر المقدسة ها هنا.. ولا تأتي إلا مرة واحدة لتجسيد نشيد الخلود.
لم تكن ذكرى رحيل شاعر أعيته الدروب مثل درويش قصة لبناء الحكاية، بل لحظة انبجاس ساحرة تمضي مثل طيف، يذكرنا بالقصيدة! تمضي في رحلة كونية ممهورة بالتفاصيل التي يحبها أي طفل فينا.
ذكرى نبش في جسدي المدينة والقرية.. من بغداد حتى طنجة.. امتداد أسطورة الإنسان والشاعر.. تنمو مثل كمثرى ولا تحضر إلا لتغيب في ملكوت الغابات والنار والأنهار.. تحضر القصيدة باعتبارها موسيقى سرمدية، تستند في انتشار ندائها الباطني إلى وتيرة وسرعة الأصوات التي تؤشر إلى وجود لغة ماحقة، تأخذ من جديد ما فقدته الأصوات اللغوية من قيمة موسيقية وتطريبية.. في سياق ثقافي يعيد إنتاج طوبوغرافية جديدة لجسد اللغة المفتقد.
تبدأ درجة الصفر في الإنشاد عندما نصعد إلى سطح جرحنا المشترك… إلى جغرافية قصيدة درويش المتوثبة صوب إيقاع الزمن المسترسل.
فاشتغال القصيدة لدى درويش يأتي في سياق البحث عن إمكانات تهبها اللغة للحصول على أثر قوامه المماثلات الصوتية، المنتظمة داخل سلسلة الإعادة الصوتية المنطوقة والمضمرة. فنحن أمام توليفة موجعة، فحواها: الذكرى والقصيدة، يجدل عناصرهما الدرامية إنشاد باذخ، يحمل الشعر على الترنح ذات اليمين وذات الشمال!
تبدأ درجة الصفر في الإنشاد عندما نصعد إلى سطح جرحنا المشترك… إلى جغرافية قصيدة درويش المتوثبة صوب إيقاع الزمن المسترسل. معمارية القصيدة من كيمياء الذكرى..التي تتخطى بموسيقاها شعورنا الجمعي بحميمية الأناشيد الرعوية في قرانا الخلفية المأهولة بطيور السنونو. لا يخبو صوت القصيدة عند درويش إلا ليصحو فجر كل يوم مذكرا بأبجدية عربية، تنحصر مراجعها في الأسواق حسب درجة وقوة الإيقاع الذي تعلن عنه جوقات الحاكم العربي.
وبصيغة أخرى، الكورال الذي تصدر عنه موسيقى الروح.. مما يغطي فضاء القصيدة بعاطفة جياشة، لم يكن الشاعر ليرضى بها خشية وقوعه في لعنة الإشفاق، ولولا التعبير الدرامي عن مأساة الكلام، لما علا شأن القصيدة!
تتعطل القواعد في النص الشعري، وتصبح القيود حسيرة لإفساح المجال أمام الدلالة، وأمام حرية التعبير الحر لدى المتحدث. ولذلك، فإن القصيدة تبدو في شكل سجل من الجمل الباحثة عن معنى ما للحياة، في إطار من التفاعل اللامتناهي. فالشاعر محمود درويش، حينما يقرأ القصيدة هنا أو هناك، فإنما يسعى جاهدا لتغيير اللغة من طريق التأثير في الرسالة الشعرية. وهو هنا في طريقه إلى القراءة الاستكشافية، التي تتمنطق بالتأويل وتعبئ أدوات القراءة في أفق انتشال المعنى.
وبالقراءة التأويلية نصل إلى استنتاج، مؤداه، بقدر ما يتقدم القارئ المفترض في قراءة النص، فإنه يعدل من فهمه الحاصل في ضوء ما يقدم عليه من تقطيع، وعلى امتداد قراءته، معيدا الاختبار والمراجعة.
نعود لنقول: إن الذكرى تمنحنا قوة وإمكانية الرؤية وإمكانية التفكير في الرجوع إلى الينابيع الأولى للغة البلاغية.. المستندة إلى المراجع الحسية، المطردة في التطور صوب التجريد، أي بناء قاعدة للتنوع والتعدد التي تحملها النصوص الشعرية.
٭ كاتب مغربي