يريد الكثير من اللبنانيين، وفي مقدمهم ذوو ضحايا انفجار مرفأ بيروت، أن يبقى مبنى الأهراء الضخم المهدّم نصفُه، قائما. في سبيل ذلك قاموا بتحركات غير بعيد منه، وهم دعوا إلى لقاءات ومؤتمرات صحافية لحشد المناصرين لمطالبهم.
إن تمكن هؤلاء من تحقيق مطلبهم فسيكون ذلك المبنى، فور إصدار القرار بعدم هدمه، أضخم نصب مقام على أرض لبنان. ولن يكلف ذلك مالا ولا جهدا، طالما أن يد الهدم المزلزلة هي التي صاغته ونحتته، في البلد الذي توقف تداول كل شيء في إداراته العامة بسبب إفلاسه. لكن هنا حتى الأشياء التي تبدو بلا دلالة، يمكن أن تنشأ عنها مواجهات بين متخاصمين. وقد بدأ ذلك من تصريحات وزارة الأشغال، ووزارات أخرى، قالت إن مبنى الأهراء، إن ترك كما هو، فسينهار من تلقائه. وإن حصل ذلك فسيؤدي إلى أضرار جسيمة تصيب كل ما هو في جواره، جواره المتضرر أصلا، وعلى نحو جسيم، بسبب الانفجار الذي ما زال الجميع يرددون ما كانوا سمعوه في اليومين التاليين لوقوعه، أنه ثاني أضخم انفجار حدث في تاريخ العالم.
وذوو الضحايا، تعاونهم هيئات وجمعيات أهلية وحقوقية وبيئية متعددة، لا يطالبون ببديل إن أخفقوا بتحقيق مطلبهم، لأنهم يعرفون أن أسبابا كثيرة تحول دون القيام بأي شيء. في طليعة هذه الصعوبات، أو الاستحالات، أن أي شيء، خصوصا إن كان ذا طبيعة رمزية، سينقسم حوله اللبنانيون ويعطّلونه من ثمّ. صحيح أن البلد ليس خاليا تماما من التماثيل والأنصاب، إلا أن ما هو منها لشخصيات سياسية فات الزمن على اعتباره متحديا للبعض ومناصرا للبعض الآخر. تمثال حبيب باشا السعد، ما زال قائما على قاعدته، لأن أكثر من في السيارات التي تعبر من حول مستديرته يسألون من يكونون معهم على المقعد الآخر: من هو، وماذا كان؟ أما بشارة الخوري فلم يعد أحد الآن يعترض على تمثاله، لأنه بعد انقضاء السنوات السبعين على وجوده كرجل سياسي ورئيس للجمهورية، لم يعد يؤذي أحدا.
لا أقلّ إذن من أن يكون الأهراء هو النصب الذي يجب أن يظل مرفوعا، فاقدا نصف قوّته بسبب الانفجار لكن ما زال لديه نصفه الآخر الذي جنّب النصف الثاني من بيروت مصير نصفها الأول.
وربما يقال الشيء نفسه عن صائب سلام، وحتى عن رياض الصلح، لكن حين يتعلّق الأمر بمن هم في السلطة الآن، زعماء لبنان الحاليين، فيؤثرون رفع صورهم على ألواح كرتون من تلك التي يمكن أن تجد اثنين أو ثلاثة من كل منها في شارع واحد. رسوم بخسة التكاليف وبالألوان التي تستعمل لطلي الجدران، باتت تقوم مقام التماثيل والأنصاب. لقد استفاد هؤلاء من تجارب سابقة، حيث جرى تهديم جميع التماثيل التي أقامها السوريون لحافط الأسد ولبشار الأسد من بعده، مباشرة بعد رحيل جيشهم من لبنان. وكذا كان مصير التماثيل الستة أو السبعة لجمال عبد الناصر، التي كانت منتشرة في مناطق لبنان المتعددة. أما تماثيل الكتّاب والفنانين فآثرت أن تكون في القرى أو في المدن الصغيرة التي كانت مساقط رؤوسهم في الأصل: الشاعر خليل مطران مُحْتِمٍ تمثالُه بوجوده في بعلبك مدينته. تمثال ميخائيل نعيمه المقدود من صخرة يبلغ وزنها أطنانا عدة لم «يعتكف» في شارع رئيسي من بلدته بسكنتا، بل بين أشجار جلّ قريب من منزله. فؤاد إرسلان نصب تمثاله عند مدخل الشويفات، أما تمثال فريد الأطرش فبدا في الصورة المنشورة على متصفّح غوغل موجودا داخل غرفة تراثية البناء.
لقد آثر الكتّاب والفنانون الابتعاد عن أجواء الكثرة المثيرة للفتن. ذاك أن كلا من الذين يستحقون أن يخلّدوا برفع تماثيل لهم هم مؤيَّدون هنا، أو هناك، ومدانون هنا أو هناك. نصف مع، ونصف ضد، بل يمكن لهذه القسمة أن تتضاءل نسبها فنصبح في الربع من الثمن (في مواجهة ثلاثة أرباع أو سبعة أثمان مثلا). أعرف رجلين باحثين كلفا في يوم ما البحث عن شخصيات قليلة، بل نادرة، تتسم بميزة كونها غير خلافية. كانت الغاية من عملهما تسمية شخصيات من تاريخ لبنان وحاضره، لوضعها على العملة اللبنانية، في طبعة لها جديدة. لم يجدا، أو لم يوفّقا بأحد، لا من الماضي القديم ولا من الماضي الأقل قدما، فاختيرت للبنكنوت المحلي مجسمات وأشكال هندسية.
ما زال التنازع على أشده بين ذوي ضحايا انفجار الرابع من آب/أغسطس من جهة ورافضي مطلبهم من جهة آخرى. نزاع محتدم وأبعد مدى من الخلاف حول إن كان الأهراء سيبقى أو يهدم، بل إن الحدث نفسه، الانفجار، الذي تقاس قوته بقوة القنابل الذرية، يحاول ذوو ضحاياه، أن يؤكّدوا أنه ليس من عاديات ما يحدث في بيروت، بل هو محطة سوداء قاتمة في تاريخ لبنان.
لا أقلّ إذن من أن يكون الأهراء هو النصب الذي يجب أن يظل مرفوعا، فاقدا نصف قوّته بسبب الانفجار لكن ما زال لديه نصفه الآخر الذي جنّب النصف الثاني من بيروت مصير نصفها الأول.
كاتب لبناني