الراحل محمود عبدالعزيز في «الكيت كات»
لم تغفل السينما المصرية القُدرات والمهارات الخاصة لذوي الهمم بوصفهم شريحة لا يُستهان بدورها في الحياة العامة، فهم من أكثر الفئات تميزاً وتفوقاً في مجالات كثيرة، ولذلك احتلت قضاياهم مساحة مهمة في الذاكرة السينمائية، ولا تزال هناك تجارب تُعزز دورهم وترصد أهم خصائصهم الإنسانية والذهنية والفكرية.
من بين الأفلام التي وثقت لحياة ذوي الهمم والقُدرات الخارقة فيلم «قاهر الظلام» لعميد الأدب العربي طه حسين وهو الفيلم الذي قام ببطولته الفنان الراحل محمود ياسين وجسد فيه شخصية الأديب النابغة. وقد استحق جائزة أحسن ممثل من عدة مهرجانات محلية ودولية في حينه. ولم تكن قصة حياة الأديب العربي الكبير استثناءً، إنما اشتملت النماذج السينمائية المصرية المُنتمية لهذا النوع الإبداعي الإنساني على نحو 210 أفلام، حسب دراسة بحثية إحصائية أجريت عام 2020 وهو ما يمثل حوالي 5 في المئة من إجمالي عدد الأفلام المصرية في هذا التاريخ.
وبالطبع لم تتساو مستويات الأفلام التي عرضت لقضايا ذوي الاحتياجات الخاصة، أو ذوي الهمم، وفق المُصطلح الحديث، فهناك على سبيل المثال أفلام حققت نجاحات كبرى، ومثلت مصر في مسابقات دولية مهمة، في حين اقتصر تأثير أفلام أخرى على المحيط الجغرافي المحلي، فبقيت الأعمال المتواضعة مجرد أرقام إضافية في قائمة التعداد الفني، دون أن تفقد قيمتها كأعمال فارقة ومختلفة من حيث النوع، لتوافر شرط حُسن النية في عملية الإنتاج والصناعة. غير أنها مثلت محاولات إيجابية فيها قدر كبير من المجازفة والمغامرة، وهذا يُحسب لصناعها مهما كان مستواها.
وبعيداً عن التفاوت في المستويات الفنية والمقارنات، تظل هناك علامات مضيئة في هذا الجانب تُشكلها مجموعة أفلام مثل «الخرساء» لسميرة أحمد و«الصرخة» لنور الشريف و«الأخرس» لمحمود ياسين و«توت توت» لنبيلة عبيد و«أمير الظلام» لعادل إمام و«عنبر والألوان» لحسين فهمي و»صباحو كدب» لأحمد آدم. والأخير يعد التجربة الثانية للمخرج محمد النجار بعد فيلم «الصرخة» ذلك أن النجار اهتم اهتماماً خاصاً بقضية الإعاقة، وحاول جاهداً العناية بها كنوع من تحفيز المجتمع على احترام قُدرات المُفتقرين لبعض الحواس، بوصفهم يمتلكون تعويضات أخرى في حواسهم السليمة وهي حكمة ربانية أنعم بها الله على هؤلاء البشر ليظلوا أمثلة قوية تشهد بالنبوغ لمن تحدى واقعه وظروفه، ولم يستسلم لمحنته.
كل هذه عينات من أفلام ومسلسلات مصرية اهتمت بالواقع الفعلي لذوي الاحتياجات الخاصة وعبرت عنهم بصدق، ووضعتهم في بؤرة الاهتمام وقربت بينهم وبين الجمهور فألغت المسافات ووثقت العلاقات.
ولعل أبرز الأفلام التي قدمت معالجة كوميدية لمتحدي الإعاقة في إطار من الفكاهة والمرح والمفهوم الإنساني الضمني فيلم «الكيت كات» للمخرج داود عبد السيد والفنان محمود عبد العزيز، الذي أدى ببراعة دور البطولة وتفوق على نفسه في تجسيد شخصية الشيخ حسني، الرجل الضرير الذي لا يعترف بعاهته ويُصر على أن يحيا حياة طبيعية تتميز عن حياة المُبصرين، وهو المعنى الذي ركز عليه المخرج، ونجح في تأكيده على الشاشة بشكل تلقائي وبلا مُبالغة.
كذلك استطاعت الفنانة هدى سلطان أن تُقدم نموذجاً آخر لشخصية المكفوفة في فيلم «بور سعيد» مع الفنان فريد شوقي، حين جسدت شخصية وفيه التي كانت تساعد أبطال المقاومة الشعبية على استهداف الجنود الإسرائيليين وقتلهم للحيلولة دون تمكينهم من احتلال مدينة بور سعيد، إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ويعد هذا الدور إيجابياً بامتياز وإنجازاً عظيماً يُحسب للفنانة الراحلة هدى سلطان. كما أن من علامات تفوق لاعب الكرة الشهير صالح سليم في مسيرته السينمائية القصيرة دورة في فيلم «الشموع السوداء» أمام المطربة نجاة الصغيرة، التي لعبت دور الممرضة المشرفة على علاجه والحبيبة ثم الزوجة في الأحداث التي انتهت نهاية سعيدة.
ولا يمكن في معرض الحديث عن أهم الأفلام التي تناولت شخصية المكفوف أن ننسى دور فاتن حمامة في فيلم «اليتيمتين» للمخرج حسن الإمام وهو الفيلم المائل كثيراً للتراجيديا، لكنه في الوقت نفسه يقطع بما لا يدع مجالاً للشك بالتفوق الهائل لأداء البطلة وقدرتها على التقمص والمُعايشة. وبخلاف النماذج السينمائية سابقة الذكر توجد أعمال أخرى درامية برع أبطالها في تقديم أصدق الصور الإبداعية في التدليل على ذكاء ونبوغ وتميز أصحاب الهمم والقُدرات الخاصة، فعلى سبيل المثال اجتهاد نبيلة عبيد في تجسيد شخصية الفتاة التي تُعاني من إعاقة ذهنية في فيلم «توت توت» وكيفية انتباهها إلى الجريمة التي ارتكبها في حقها سعيد صالح الذي اعتدى عليها وهو يظن أنها غير مُدركة لما فعله معها، بيد أنها تعرفت عليه ووشت به عند أهل الحارة، ليأخذوا حقها منه وبذلك نفت عن نفسها دلالات البلاهة وبرهنت على ذكائها وفطنتها.
ولأن فقدان البصر هو الحالة الأكثر شيوعاً في الواقع فقد ركز عليه كُتاب السينما والدراما فتكررت النماذج المُرتبطة به في عدة أعمال كمسلسل «دموع في عيون وقحة» حيث قامت معالي زايد بتجسيد دور فاطمة زوجة جمعة الشوان التي فقدت بصرها، إثر حادث ما وأيضاً دور فؤاد أحمد في مسلسل «جمهورية زفتي» حيث جسد دور الرجل المُسن الكفيف الذي يمتلك الحكمة ويتحلى بالصبر. وكذلك الدور الذي قامت به فردوس محمد في فيلم حكاية حُب مع عبد الحليم حافظ وعبرت فيه عن بصيرة الأم المكفوفة التي تحس وتتألم وتمتلك من الشفافية ما لا يمتلكه المبصرون.
كل هذه عينات من أفلام ومسلسلات مصرية اهتمت بالواقع الفعلي لذوي الاحتياجات الخاصة وعبرت عنهم بصدق، ووضعتهم في بؤرة الاهتمام وقربت بينهم وبين الجمهور فألغت المسافات ووثقت العلاقات.
كاتب مصري
في تقديري التذوقيّ للفنّ التمثيليّ؛ الفنّان الكبير الراحل محمود عبد العزيز أسمى من الفنّان محمود يس.رغم أنّ لكلّ
واحد منهما أسلوبه وشخصيته ونكهته.محمود عبد العزيز ابن الإسكندريّة ظاهرة فنيّة لعملاق؛ برز في دور { رأفت الهجان } خاصّة بروح عالية من الفنّ الرفيع…وبالمناسبة هو أوّل فنان مصريّ التقيته في القاهرة؛ وآخر فنان مصريّ ودعني قبيل مغادرتي لمصر…وأنا منحاز إليه انحياز فنّ؛ لا انحياز معرفة لإنسان.وتبقى مصر ولادة للمبدعين.