لا يمكن تصنيف «درب الفيل» سعيد حاشوش ضمن نوع أدبي محدّد، لأنها تتضمن بنيات متعددة من شهادة ومذكرات وسيرة ورواية، لهذا يتفكك فيها النوع باللانوع، غير أن هذا اللانوع ليس مجرد (حثالة)، وإنما هو نتاج تحول جديد في اتجاه الوعي الذي يسمح بتعبير فيليب لوجون بـ«مزج الاعتراف بالرواية».
إذن «درب الفيل» تنتمي إلى «أدب الحثالة»، وأدب الحثالة يقاوم التصنيف و«يمكن أن يدخل في تصنيفات الأنواع القائمة والمعروفة، ومن ثم يقف موقفا هامشيا خارج النظام الأدبي». ونعني بـ (الحثالة) حثالة الفئات الدنيا ـ أي دون أو تحت البروليتارية الرثة، وقد وصفها المؤلف في « درب الفيل بـ«الغوغاء أو الدهماء أو رعاع الصفر». كما استعار المؤلف مفهوم (الصفر) من رواية «عبدة الصفر» لآلان نادو، التي تبحث عن مجتمعات ــ سكنت دوائر الصفر والتهميش.
وبذا يمكن استخدام مفهوم «الصفر» كنظير مواز لمفهوم «الحثالة»، لأن الصفر مصدر بؤرة الحثالة، «فالصفر هو عدم ــ مثلما يقول آلان نادو ــ في رواية «عبدة الصفر»، التي تدرس ثورات صفرية منقرضة. وفي هذا السياق، حاول سعيد حاشوش أن يدرس «الانتفاضة / 1991» بوصفها ثورة صفرية منقرضة أيضا، وأن يجعل من «الصفر» مدار سيرته الذاتية:
«أنا كاتب السيرة (أكبت الصفر) بقوة في أبعد نقطة في أعماق اللاوعي» و«أن الصفر يجسّد الواقع المخفي في كل منّا، الواقع المريض والهش للحياة». الرواية.
إذن (الحثالة ـ الصفر) بؤرة تنبثق عنها: رؤية أسافل الناس وأراذلهم في العالم، وتنفرد هذه الرؤية في أنها تنطلق من (جنوب العراق) في تفكيك الثورات الصفرية التي قامت بها الفئات المقهورة: وإن كانت (رؤية الحثالة) أو (رؤية الصفر) تبدأ من قاع القمامة، ومن قذارة النفاية، فـ»إن سكان الصفر يحملون في ذواتهم الجراثيم المضادة الشرسة التي تقتل الأسياد القوماج والمتعبدين له، العبيد في البيوت النظيفة ذات الطابقين». وقبل ذلك أن نعرف مَنْ هم الحثالة؟ ومَنْ هم الصفر؟ «إنهم فقراء/ سماسرة/ قوّادون/ لوطيون/ صعاليك/ ثوار محبطون/ عاهرات/ رجال مخصّيون/ بنات محجوزات لرجال أكابر للتمتع فقط/ مجانين/ مرضى/ منحرفون/ قتلة/ أمّيون».
هذا هو الصفر، وهؤلاء هم الحثالة.
إذن «أي بؤس هذا.. ونحن نسكن فوق أكبر بحيرة نفط في العالم». وقبل ذلك كله، نوِّجه انتباه القارئ إلى أن جماليات القبح والفحش والبذاءة من أهم تمثلات الكتابة الجديدة ما بعد الحداثة، وبذا يحق لنا أن نعد سعيد حاشوش كاتب مدينة الزبير الجنوبي موازيا ً لكاتب مدينة طنجة الأمازيغي محمد شكري، بل أكثر جرأة وشجاعة ووقاحة منه في كيفية فضح المسكوت عنه أو البوح به بـ«اسم الاعتراف»: «اغتالوا رجولتي أيضا». وإن كنا إزاء مذكرات، فإن المذكرات «نوع أدبي تكون قيمة الحقيقة فيه بالضرورة ذات أهمية أكبر من القيمة الجمالية». كما نوجَّه عناية القارئ إلى أن رؤية سعيد حاشوش للعالم، لم تكن (رؤية أبيقورية) قائمة على اللذة والمتعة والمجون وأي نزوة أو رغبة شخصية، وإنما هي (رؤية وجودية) قائمة على الحرية والعبث والفوضى، بدلالة أن سعيد حاشوش واسمه في الرواية (سعد) ينتمي إلى جيل تربّى على التمرّد في أحياء الزبير في البصرة. ورغم اعتراف سعيد حاشوش بأنه «شروقي وشيعي وشيوعي»، فإنه بلا هوية: «أتساءل في بعض الأحيان مَنْ أنا بالضبط، أنا لا أستطيع أن أجيب، لأنني فاقد الهوية».
إن «درب الفيل» نص محكم بـ«ميثاق سير ذاتي»، لهذا رغم التطابق بين المؤلف والسارد بضمير المتكلم المنسّق لميثاق السيرة الذاتية، فإن هذا التطابق يتعرّض إلى انكسارات مفاجئة أحيانا، لإيهام القارئ بعدم التطابق بينهما أولا، وبعدم واقعية ما يُروى ثانيا.
إن «درب الفيل» نص محكم بـ«ميثاق سير ذاتي»، لهذا رغم التطابق بين المؤلف والسارد بضمير المتكلم المنسّق لميثاق السيرة الذاتية، فإن هذا التطابق يتعرّض إلى انكسارات مفاجئة أحيانا، لإيهام القارئ بعدم التطابق بينهما أولا، وبعدم واقعية ما يُروى ثانيا: «وفي حواشٍ أخرى تعرّفت إلى سعيد حاشوش وخالجني شعور بأنه معتوه أو يعاني من اضطراب في الشخصية، لأنه لا توجد علاقة حقيقية بين الأرقام والشطرنج والأبراج وأحجار العقيق الداوودي وجثث الموتى واغتصاب الفتاتين بعضو عربي واحد». لهذا نلاحظ أن (المؤلف/ السارد) يشغل وظيفتين: وظيفة (أنا سارد) و(أنا مسرود)، ورغم أن هذا السرد موجَّه إلى زوجته الميتة، فهو سرد غير محايد، أي بمعنى غير موضوعي. وإن كان اسم (سعد) في «درب الفيل» يستدعي اسم سعيد حاشوش إلى ذهن القارئ على مستوى التطابق الحرفي بين السرد والواقعية، فإن (سعد) شخصية (فصامية/ ذهانية) واعية بذاتها، وقد ورثت الفصام الأبوي عن الواقع:
أبي «يطمح أن يكون المثال في واقع غير مثالي، وهذا سر الانفصام والخبل في شخصيته».
«أنا خالق الشخوص في هذا النص الذي لا أعرفه من أي جنس، انفصلت عن عقلية العربي كي أتمكن من الخلق». الرواية.
وبـ (اسم الاعتراف) يقرّ سعيد حاشوش: «إن تعدد الفصامات في الشخصية ليس جنونا، وإنما التمسّك بشخصية واحدة أمام الناس هو الجنون». الرواية.
وإن كان هذا الاعتراف جزءا من الكيفية التي قدّم بها سعيد حاشوش نفسه من خلال سيرته الذاتية، فإن ما يعنينا أكثر الكيفية التي تلاعب بها بقواعد الإحالة الاستعارية إلى لعبة الشطرنج، وقبل ذلك الكيفية التي تلاعب بها بمربعات الخريطة، ولكن أهم هذه المربعات من حيث قواعد الإحالة الاستعارية، هو المربع السابع، وفيه يتم الخلق «بإعادة تدوير الإنسان من القمامة وإيجاده من جديد». ويستدعي هذا المربع ـ الذاكرة المعطوبة، والخيال المعطوب في جمع حيوات إنسانية مقتولة، مغمورة، مقهورة، ومن ثم إعادتها للحياة من جديد، وهذا ما تقوم به السيرة من إعادة خلق للشخصيات المغدورة أو استدعاء هذه الشخصيات من الحروب والنسيان والسجون.
ومن أهم البيادق التي تلاعب بها على لوحة الشطرنج، هو «الفيل» بوصفه الدال الذي تحرّر من قيد مدلوله الشطرنجي. ولكن لماذا اختار سعيد حاشوش، أن يتمثّل «الفيل» بوصفه القوة الثالثة بعد الوزير والرخ؟ إن سعيد حاشوش، لاعب شطرنج حاذق، يدرك أن للفيل نقاط ضعف قاتلة، إذ لا يمكن له السير إلا ّ(قطريا ً) في المربعات ذات اللون الواحد، وقد يموت بدون أن يتمكن من الهرب، لهذا يتمركز «الفيل» في وسط الرقعة، حتى يتمكن من المناورة في الحركة الوترية.
ويبقى الخطر الذي يحدق بالفيل، يكمن في النقلة التي تسد «الطريق القطري» على الفيل، وبذا اختار سعيد حاشوش أن يتمثل «الفيل» بوصفه قوة صفرية ـ رمزية لتدمير حصن الملك (الطاغية)، كشكل من أشكال التعويض عن الإحباط السياسي الناجم عن وجوده كـ(حثالة) أو (صفر) في المواجهة. ونعد ما يسميه سعيد حاشوش بـ «الهذيان المبعثر» من أهم تمثّلات «درب الفيل» لوقائع السيرة الذاتية، وهذا الهذيان يأخذ شكل: الثرثرة أو الفوضى أو العبث الثوري، وقد أسماه سعيد حاشوش بـالسرد العجائبي، وهو نتاج «أنا متضخمة» بسبب النبذ والتهميش والإقصاء والإخصاء السياسي: «أنا محبط /إني أعيش الصفر/ أنا ابن الفوضى/ إني فاقد الهوية / أنا تعلمت النهيق/ أنا لا أستحي». وعلى الرغم من أن السير- رواية ـ شكل آخر من التخييل، فإن هذه المقاربة لا تخفي انحيازها بحياد إيجابي تام إلى المصادقة على حقائق سيرة سعيد حاشوش بقوة الميثاق السير ذاتي، خاصة أنها حقائق صادمة لوعي القارئ.
٭٭سعيد حاشوش / درب الفيل / رواية / دار تموز ـ دمشق / ط1 / 2017 .
٭ ناقد وكاتب من العراق