تونس ـ «القدس العربي»: تقع رادس في الشمال الشرقي للبلاد التونسية وتحديدا جنوب العاصمة أين تطل على خليجها المسمى خليج تونس من جهة الشرق، وتحدها شمالا مدينة مقرين وغربا المدينة الجديدة وجنوبا مدينة الزهراء. وقد جعل هذا الموقع مناخ رادس متوسطيا معتدلا يشهد نزول كميات معتبرة من التساقطات شتاء، باستثناء السنوات الأخيرة، وصيفا ساخنا رطبا بفعل القرب من البحر.
كما أن رادس هي نقطة التقاء لواحد من أهم الأنهار في البلاد التونسية، وهو وادي مليان مع البحر، والذي كان مصبه في الماضي يظفي جمالا اسثنائيا على شاطئ رادس من جهة ما يعرف بشط مروان. لكن تغير الأمر في السنوات الأخيرة وحصلت أشياء كارثية متعلقة بالجانب البيئي تبدو بحاجة اليوم إلى مراجعة حتى يعود شاطئ رادس مثلما كان في الماضي واحدا من أجمل شواطئ تونس ومن أكثرها استقطابا للمصطافين.
لقد اشتهرت رادس التونسية التابعة إداريا لولاية بن عروس والواقعة ضمن إقليم تونس الكبرى، في الماضي بشاطئها الذي كان مقصدا لسكان العاصمة خلال فصل الصيف شأنها شأن حلق الوادي وسيدي بوسعيد والمرسى والزهراء وغيرها. كما اشتهرت بغابتها الجميلة وارفة الظلال المرتفعة على ربوة كبيرة والتي تمد المدينة إلى جانب البحر بالهواء النقي والنسيم العليل باعتبار أن المدينة تتوسط الغابة والبحر.
كما اشتهرت ماضيا وحاضرا بإنتاج الياسمين حتى لقبها البعض بـ«مدينة الياسمين» الذي يستعمل إما للزينة أو يتم تقطيره واستغلاله في استعمالات منزلية عديدة. ويُزرع ياسمين رادس في الحدائق ويباع في تونس أو يتم تصديره إلى الخارج حيث يلقى رواجا واسعا وإقبالا كبيرا باعتبار الشهرة التي حازها الياسمين التونسي عموما ما جعل البعض يلقب الخضراء ببلد الياسمين.
ماض أسطوري
يردد البعض بأن رادس الحالية بنيت على أنقاض قرية ماكسولا التاريخية التي كانت قبالة قرطاج وكلاهما يطل على ما يسمى اليوم خليج تونس، وكانت في ماكسولا محطة للقوارب يتم من خلالها التنقل إلى قرطاج. وفي العصر الحديث وإلى حدود إنشاء الجسر المعلق، الذي ربط بين رادس والضاحية الشمالية أي قرطاج ومحيطها بداية من حلق الوادي وانتهاء إلى المرسى وقمرت، كان التنقل يتم من خلال «البطاح» أو العبارة البحرية وذلك رغم إنشاء طرقات بالإمكان التنقل من خلالها خلافا للأزمنة الغابرة.
فالتنقل من قرطاج إلى رادس أو ماكسولا بحرا في الأزمنة الغابرة كان بغاية الإنطلاق برا من رادس إلى مدن غرب البلاد وجنوبها وهو ما جعل قرطاج تبدو كجزيرة وهي المحاطة بالبحر شرقا، والبحيرة من جهة الغرب، ورادس هي همزة وصلها مع اليابسة. وقد ساهم ذلك في ازدهار رادس وازدهار نشاط النقل عبر القوارب فيها وفي خليج تونس عموما في زمن لم تكن فيه الطرقات البرية منتشرة كما هي اليوم وفي خضم حضارة قرطاجية قائمة على البحر والأنشطة المتعلقة به.
وفي هذا الإطار جاء في كتاب «رادس عبر العصور» للباحث الدكتور أحمد الطويلي، وتحديدا في الصفحة 16 من الكتاب، أن تاريخ رادس مرتبط ايّما ارتباط بتاريخ قرطاج والأطوار التي مرت بها من ازدهار وأفول. حيث أن رادس، وحسب الباحث التونسي، كانت بوابة قرطاج نحو داخل البلاد وإليها، بل كانت حيا من أحيائها، حسب الطويلي، وضاحية من ضواحيها القريبة.
وتحدث البعض من غير التونسيين ممن صنفوا على أنهم من المؤرخين العرب الذين زاروا تونس بعد الفتح الإسلامي، عن أساطير مفادها بأن ساحل رادس هو المكان الذي ألقى فيه الحوت النبي يونس عليه السلام مستندين على ما يبدو على لوحة فسيفسائية قديمة تصور هذا الحدث. كما يرجح أنهم استندوا على يؤكده البعض من أن «ترشيش» التي ذُكرت في الكتب السماوية القديمة تقع في أرض تونس الحالية، بل يؤكد هؤلاء على أن ترشيش هو الإسم القديم لتونس لحقبة ما قبل قرطاج.
ويذهب بعض المؤرخين العرب، وفي إطار الجمع بين الحقيقة والأسطورة، إلى حد التأكيد على أن الملك الظالم الذي كان يأخذ القوارب، واضطر السيد الخضر عندما كان يرافق النبي موسى عليه السلام إلى إعطاب أحد القوارب حتى لا يفتكها هذا الملك الظالم، كان متواجدا بأرض ترشيش، وأن القارب كان يقوم بنشاطه ثم يرسو في المحطة التاريخية للقوارب برادس. وهي أسطورة لم يقع إثباتها علميا تماما كأسطورة جلد الثور المتعلقة بتأسيس قرطاج والتي ابتدعها الإغريق مثلما ابتدعوا أساطير عديدة تخصهم وصدقها الناس وأصبحت مع الوقت حقائق لا جدال فيها. فقرطاج كانت درعا حاميا وضرورة لشعوب جنوب المتوسط لمقارعة الإغريق ثم الرومان دفاعا عن الأمن القومي، وليست حدثا عرضيا تأسس من خلال حيلة جلد ثور ليس لها أي سند علمي.
مستقر الأعيان
لم تبرز رادس أو ماكسولا في الحقبة الرومانية رغم أن الرومان قاموا بعملية سطو على إرث قرطاج ونسبوه إلى أنفسهم وواصلوا اعتماد النقل بالقوارب بينها وبين مدينة قرطاج، كما لم تبرز خلال الحقبة البيزنطية، ولم يعد إليها بريقها إلا مع الفتح الإسلامي لتونس. حيث تم تحصينها وبني فيها رباط للمراقبة في أعلى الهضبة وذلك خشية على مدينة تونس الحاضرة الجديدة في شمال البلاد والتي بدأت في التوسع والنمو لتتحول بعد قرون إلى عاصمة وذلك بعد خراب مدينة القيروان على يد غزاة بني هلال القادمين من الشرق.
ونمت المدينة على مر الحقب التاريخية خلال حكم الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين والحفصيين والعثمانيين والمراديين وصولا إلى الحقبة الحسينية التي شهدت اهتماما بالبلدات الواقعة على خليج تونس. فقد أصبحت العائلة الملكية والحاشية والأعيان يتخذون من هذه البلدات أماكن لقضاء عطلة الصيف وللراحة والاستجمام على مدار العام وكانت رادس من بين هذه المدن التي نمت واستقر بها عدد من الأعيان خاصة وأن ملك البلاد كان يقضي صيفه في مدينة حمام الأنف القريبة من رادس.
فبنيت المنازل الفخمة التي اختلط فيها الطابع الإسباني بالعربي وكذلك الإيطالي من قبل وزراء ورجال دولة في المملكة التونسية على غرار الوزيرين، محمد والطيب الجلولي. كما اشترى الوزير الأكبر خلال العهد الملكي امحمد شنيق بيتا فخما من أوروبيين استوطنوا رادس خلال الفترة الاستعمارية، وذلك بعد أن أغرته المدينة بالاستقرار.
الشهيد الرمز
وشهدت رادس خلال الفترة الاستعمارية حدثا أليما هز تونس والمنطقة والعالم تمثل في اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل، من قبل الاستخبارات الفرنسية. ولم تعترف باريس بهذا الاغتيال إلا بعد عقود وتحديدا في عهد الرئيس فرانسوا أولاند الذي التقى نجل الشهيد وقدم له الملف المتعلق باغتيال والده في واحدة من أسوأ الجرائم السياسية في تاريخ الإنسانية.
وفرحات حشاد هو أصيل جزيرة قرقنة بالوسط الشرقي للبلاد التونسية وقد اختار مدينة رادس للسكن والإقامة رفقة زوجته وأطفاله الصغار، وكان أهم شخصية في البلاد تقود النضال الوطني الميداني ضد الاستعمار في ذلك الوقت الذي كان فيه رموز الحركة الوطنية التونسية وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة ضمن المعتقلين في السجون الفرنسية خارج البلاد. وبما أن حشاد كان يتمتع بحصانة الانتماء إلى اتحاد النقابات العمالية العالمي «السيزل» فإن فرنسا لم تتمكن من اعتقاله أسوة بالزعماء الوطنيين على غرار بورقيبة فقررت اغتياله وإنكار فعلتها الشنيعة.
وبينما كان حشاد عائدا إلى بيته يقود سيارته، وعند وصوله إلى غابة رادس، كان عناصر الاستخبارات الفرنسية بانتظاره وأجهزوا عليه بالرصاص في الطريق الغابي المقفر. وقد أقيم تمثال للزعيم حشاد، مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل وأول أمين عام له، في المدخل الجنوبي لمدينة رادس في أول الطريق المؤدي إلى مدينة الزهراء، كما سمي منتزه باسمه في المدينة التي ارتوت بدمائه النضالية الزكية.
معالم متعددة
من أهم معالم رادس الرباط الذي انشئ في أعلى الربوة التي تحيط بها غابة فسيحة، وذلك مع الفتح الإسلامي، وقد اختفى هذا الرباط مع الزمن بانتهاء دوره الدفاعي. ومع تمدد المدينة من الأعلى باتجاه الساحل برزت أحياء كثيرة منها حي المراح وكذلك بئر الطراز وماكسولا ومونجيل ورادس الغابة ورادس الشاطئ وغيرها.
وحي المراح هو المدينة العتيقة لرادس التي تتضمن أزقة ضيقة ومتعرجة وينادي سكان رادس اليوم بضرورة ترميمها وطلائها باللونين الأزرق والأبيض كما كانت في السابق. كما ينادي البعض بضرورة صيانة جامع ومقام الولي الصالح سيدي بو يحي باعتبارهما من المعالم الهامة للمدينة العتيقة برادس وبالنظر لتأثيرهما الروحي على سكان المدينة. وكذلك صيانة قنطرة وادي مليان القديمة التي أنشئت مع بداية القرن التاسع عشر أي خلال الفترة الملكية الحسينية.
ومن معالم رادس مبنى البلدية، وهو قصر قديم بني على الطراز «الإسباني الإيطالي العربي» وهو نمط معماري متوسطي فريد برز في تونس خصوصا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فقد عرفت تونس هجرات أندلسية من جهة، وكذلك ولع ملوكها بالمعماريين الإيطاليين الذي مزجوا بين ماهو محلي وما هو مستورد من ديارهم في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.
ومن معالم رادس كنيسة ماكسولا التي تم تشييدها سنة 1911 على يد المستوطنين الفرنسيين الذي قدموا مع الاستعمار وتسلمتها تونس رسميا من الفرنسيين سنة 1964 بعد سن الرئيس بورقيبة القوانين العقارية التي تعيد الأمور إلى نصابها فيما يتعلق بملكية التونسيين لكل ماهو على أرضهم وانتزاعه من الأجانب من المستعمرين السابقين. وقد كشفت الحفريات في البداية أن هذه الكنيسة أقيمت على صهاريج رومانية تبين أن تحتها صهاريج أخرى ولوحات فسيفسائية قرطاجية وذلك في إطار طمس الرومان لحضارة قرطاج.
ويعبر البعض أن منزل الوزير الأكبر الأسبق امحمد شنيق من معالم رادس ولا يقل في جماله وروعة بنائه عن مبنى قصر البلدية، وهو من المباني التي تقتضي الحفاظ عليها وصيانتها. كما يعتبر البعض الآخر المعاهد الثانوية هي معالم في حد ذاتها باعتبارها شيدت خلال القرن التاسع عشر ما يدل على قدم إقبال سكان رادس على طلب العلم والنهل من المعارف.
رادس اليوم
جعل تنوع التضاريس وتنوع المشهد الطبيعي من رادس، التي تضم الغابة والهضبة والسهل والنهر والشاطئ والبحر، مكانا خصبا لتطور الأنشطة الاقتصادية ولتشييد المشاريع العمرانية الكبرى. ففي رادس يوجد أهم ميناء تجاري على الإطلاق في البلاد التونسية، حيث أن جانبا هاما من الحركة الاقتصادية لتونس، فيما يتعلق بالاستيراد والتصدير من خلال الحاويات، يمر عبر ميناء رادس.
كما يوجد في رادس أهم مولدات الكهرباء في تونس ويعمل بالغاز الطبيعي والذي تم تطويره مؤخرا بإنشاء محطة جديدة مخصصة للكهرباء التي يتم إنتاجها من خلال الطاقات البديلة. ويغطي مولد رادس الكهربائي مع مولد حلق الوادي، حاجيات ولايات تونس الكبرى الأربع، بالإضافة إلى الحاجيات الكهربائية لجزء هام من شمال البلاد.
كما شهدت رادس مع بداية الألفية تشييد جسر معلق هام يربط بينها وبين حلق الوادي، وتم بعد تشييده الاستغناء عن «البطاح» (العبارة البحرية التي كانت تربط بين المدينتين وتنقل البشر ووسائل النقل على حد سواء من هذه الضفة إلى تلك). وبهذا الجسر العملاق تم القضاء على طوابير السيارات التي كانت تنتظر طويلا حتى تصل العبارات، وأصبح سيلان حركة المرور سلسا، كما تحول الجسر إلى مكان للتوقف لالتقاط الصور والتنعم بمشهد البحر والبحيرة وقنوات المياه والموانئ والمدن التي تتراءى من بعيد.
قطب رياضي
وتضم رادس أهم مدينة رياضية في البلاد التونسية تم تشييدها سنة 2001 وفيها ملعب كرة القدم الشهير الذي فاز فيه المنتخب التونسي بكأس أمم أفريقيا سنة 2004 وفاز فيه نادي الترجي الرياضي التونسي ببطولتين أفريقيتين للأندية الأبطال، وشهد حفل افتتاح ألعاب البحر الأبيض المتوسط واختتامها وتتويج المنتخب الأولمبي التونسي لكرة القدم بالميدالية الذهبية في هذه الألعاب. وتضم المدينة الرياضة قاعة احتضنت إلى جانب قاعات أخرى داخل البلاد بطولة العالم لكرة اليد سنة 2005 والتي حل فيه المنتخب التونسي رابعا بعد وصوله إلى الدور نصف النهائي، وفازت فيها منتخبات اليد والسلة والطائرة ببطولات قارية هامة.
وتضم المدينة الرياضية أيضا مسبحا أوليمبيا تدرب فيه كبار السباحين التونسيين على غرار البطلين الأولمبيين والعالميين أسامة الملولي وأيوب الحفناوي. كما تضم ملعبا مخصصا لألعاب القوى شهد تألق أبطال أولمبيين وعالميين أيضا على منهم العداءة حبيبة الغريبي، وكذلك رياضيين من ذوي الهمم على غرار روعة التليلي وآخرين. ويتألق فريق المدينة، النجم الرياضي الرادسي في كرة السلة باعتباره أحد عمالقة هذه اللعبة في تونس إلى جانب جارية الزهراء الرياضية ونجم حلق الوادي.
وتبقى معضلة رادس اليوم هو تلوث البحر الذي عرفته في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت المنطقة الصناعية بالمغيرة التي تضم عددا هاما من المصانع في اختصاصات هامة تُلقي بالمياه الصناعية الملوثة في وادي مليان الذي يصب في بحر رادس. ولذلك فإن منظمات عديدة تنشط اليوم في المجال البيئي تضغط على الحكومات والسلط الجهوية لإيجاد حل لهذه الكارثة التي تستهدف واحدة من أهم مدن البلاد ماضيا وحاضرا.
المقال روعة حقيقة لأني أعشق الياسمين خاصة إذا كان تونسيا
هذه محاولة جيدة للحفر في تاريخ أرضنا٠ أتمنى أن يكون المنهج العلمي أثبت وأوضح في المقالات القادمة وأن يتبنّى الكاتب الحيادية في الحكم٠