رامبو التصوير الفوتوغرافي: فرانشيسكا وودمان المتمردة علي حواء بعارياتها الحزينات
فاروق يوسفرامبو التصوير الفوتوغرافي: فرانشيسكا وودمان المتمردة علي حواء بعارياتها الحزيناتحين عرفت أن فرانشيسكا وودمان قد فارقت الحياة وهي لم تكمل عامها الثالث والعشرين اصبت بصدمة وذهول. هذه الفنانة هي نوع من رامبو إذن. يجمعها بالشاعر الفرنسي الشيء الكثير، ليست البداية الخارقة المبكرة ولا الوصول الي حافات النهاية في سن يكون فيه البشر العاديون لا يزالون يتعثرون في الخطوة الأولي من سيرتهم الابداعية، فحسب بل وأيضا هناك الموقف من الحياة ومن الفن، حيث أرض أخري وفضاء آخر بل وشروط حياة أخري تملي بقوة وعنف ويقين اسطوري مزاجا ثقافيا مختلفا. أشبه بجنية الحكايات المسحورة تطلع فرانشيسكا من مكان مجهول لتلقي نظرة، هي كتلة من نار غير قابلة للتفكيك، بل تذهب الي الخيال مباشرة لتنشطر هناك، ولا تترك وراءها سوي الحيرة الملغزة والسؤال المحلق. فرانشيسكا التي يشبهها النقاد بالشاعرة سيلفيا بلاث (التي قضت منتحرة في سن مبكرة هي الاخري) مرت بالفن مثل عاصفة، غير أن تأثيرها تخطي الجانب التقني والشكلي ليصل إلي جانب اشكالي أشد غموضا: المرأة بصفتها جسدا ملهما ومتلفعا عزلة وجوده، صفته التي تهدد به وتحثه علي اختراع جماليات نافرة. صورها الفوتوغرافية كانت بمثابة رقي سحرية هي في حقيقتها مفاتيح لأبواب تقود الي عالم غامض بحدائق سرية. سعيد هو ذلك المرء الذي يتقن لغتها البصرية، فبإمكانه ان ينقل خطاه بخفة ولذة وخيال استثنائي منعش في جغرافيا الانوثة، حيث الشعر المذعور ينشد بكلمات مستلة من يوتوبيا الكلام.غ2ففرانشيسكا وودمان (1958 ـ 1981) ولدت في كولارادو بالولايات المتحدة، غير أنها التقطت أجمل صورها واكثرها تعبيرا وعمقا وضروارة في روما، يوم عادت الي بلدها العائلي عام 1977. المحيط الرث والمتداعي كان يذكر بسينما الواقعية الايطالية، غير انها لم تتخذ من ذلك المحيط خلفية لمشاهدها، تلك المشاهد التي يغلب عليها طابع الحيطة، حيث تحضر التلقائية من جهة كونها فعلا مدبرا في سياق المعني. فرانشيسكا لا تلتقط صورها بالصدفة، وهي لا تدعي البراءة في ما تفعله، إنها ترسم وتخطط وتصنع وتنسج وتؤلف، غير أنها في كل ما تفعل تبقي علي قدر هائل من التوتر، هو مصدر الاحساس بالمباغتة، وهو احساس من شأنه أن يبقي لحظة الخلق لينة وطرية وطازجة، كما لو أنها فلتت لتوها من زمنها المحتدم. صورها هي عبارة عن يوميات انثي عابرة، من غير أن تلتفت لمحيطها الذي لا يزال يرافقها مثل ندم سابق. نساء فرانشيسكا وحيدات يمتزجن بالطبيعة في محاولة لاعادة اسطورة الخصب الذاهل عن ارادته في خضم السلطة الذكورية. هذه الفنانة لا تسعي الي اعادة حواء بغواياتها الي الواجهة، بقدر ما تسعي الي ابتكار انثاها المضادة، الانثي التي لا تمارس الغواية، بل هي ضحية الوحدة التي يقترحها سوء الفهم. عري نسائها وهو فعل لا علاقة له بمفهوم الحشمة ( لا يعترض عليه ولا يذكر به ذلك لانه لا يدنو منه) لا يستحضر تفاصيل الجسد ولا يستعرض فتنته، بل يتلوه ليذكر به. فرانشيسكا الحاذقة في الحذف، المتمرسة في الزهد، تصل بأجساد نسائها الي مرحلة نقاء صلب، ازاء ها يكون كل تفكير ايروتيكي في حالة غيبوبة.غ3فالقت بنفسها من النافذة في منهاتن، لتصنع نموذجا للحقيقة التي طالما صنعتها خياليا: المرأة الوحيدة الملقاة ميتة علي اسفلت الشارع. هل صنعت فرانشيسكا صورها من أجل التمهيد لنهايتها المأساوية؟ هناك صورة واحدة فقط من بين العشرات من صورها، هي الصورة الوحيدة التي رأيت فيها ابتسامة، ويا لرقة تلك الابتسامة، يا لنضارتها وسط يباس الفقر وخشونته. لم تكن فرانشيسكا لتصور نساءها إلا وهن في حالة غياب كامل عن أجسادهن. عري تلك الأجساد لم يكن عريا معدا لنزهة الابصار. عن طريق ذلك التغييب كانت تقطع الطريق امام أي سوء فهم محتمل. في منزل يحترق لا يفكر المرء حين ينقذ امرأة عارية بعريها. هناك معني مختلف للانتصار تنجزه بداهة اللحظة المتعففة والمزهوة ببطولتها. غالبا ما تصور فرانشيسكا نساءها وهن محلقات أو ممتزجات بالطبيعة أو راقدات بطريقة غامضة لا تنبئ بحياة من نوع ما. لديها امرأة تغطي اجزاء من جسدها بورق الجدران، فيما الجدران من خلفها تحتاج الي الترميم أكثر مما تحتاج الي التزيين. صورة صنعت لاغراض رمزية ليس إلا. كما التقطت فرانشيسكا سلسلة من الصور تحت عنوان (المرأة والسمكة) كانت عبارة عن هذيان ينزلق علي موسيقي مصير غامض، يطوي عنصري الحكاية بأسفه. حزن صورها الشفاف كان تمهيدا لنهايتها.غ4ف رامبو التصوير الفوتوغرافي التي حرصت علي الأسود والأبيض لم يتأخر أثرها في الآخرين طويلا لكي يظهر، كانت السنوات التي تلت غيابها بمثابة استعراضا للقطيعة التي أحدثتها، صارت فتوحاتها بمثابة مصادر إلهام. لقد انعكس تأثيرها جليا في كل ما انتج من صور الجسد الانثوي في الربع قرن الأخير، غير أن ذلك التأثير بدا في قمة غناه وروعته في أعمال الفنانات: سندي شيرمان (1954) وسارة لوكاس (1962) ونان كولدين (1953) وهن اليوم يتصدرن المشهد العالمي في هذا المجال. الاصباغ في صورهن قد تخدع لاول وهلة، ولكن نظرة متفحصة ومتروية، بخيال ينبذ تأثير تلك الأصباغ لا بد أن تعيدنا إلي عوالم فرانشيسكا وودمان. لقد صنعت كل واحدة منهن عالمها الجمالي، وهو يغص بالاشكال والأفكار، بعيدا عن تأثيرات فرانشيسكا، غير أن أية واحدة منهن ما أن تقترب من الجسد الانثوي في عزلته حتي تستحضر عين فرانشيسكا اليائسة لتري كل شيء من خلالها. كما لو أن تلك العين الساحرة كانت النبوءة التي قبضت علي اللغز كله والجمرة كلها. هناك صورة لانثي تقف قريبا من النافذة لطالما تخيلتها من ابداع فرانشيسكا في حين أنها في حقيقتها من صنع سندي شيرمان لا لشيء إلا لأنها بالاسود والأبيض، حيث يختفي خداع الالوان. لم تكن فرانشيسكا في حاجة الي الاصباغ من اجل أن تكتب يومياتها الجارحة. كان نزاعها مع الموت أكبر من كل بلاغة مجاورة. وهي البلاغة التي يتستر عليها الجسد بصفته مصدرا للتأويل الذي يمارسه الفكر الايروتيكي. نزعة فرانشيسكا الانسانية هي في حقيقتها انما تمثل النزعة المضادة لذلك التأويل، الذي يخوض احيانا في اباحيات رخيصة. كانت صور فرانشيسكا الغاصة بالقنوط تمتحن الكون بسؤال الاختلاف الانثوي الذاهب الي تمرده علي حواء، انثي الخطيئة كلها، وهي فكرة الغواية الذكورية. شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد0