رحلة البعث والعبث في السلسلة الحفرية «الفناء»

حجم الخط
0

بقدر ما برع النرَمْبرجي ألبرخت ديرر منذ نهايات القرن الخامس عشر في تحريك الدور النهضوي الألماني، بالسعي الدؤوب لتأسيس بصمة تشكيلية عالمية، اندرجت في خضم وهج التيار التكلفي ومثلت بالأساس سمات فن الشمال، أو الآرسنوفا بتعبير المجادل إرفين بانوفسكي، فإنه اتّجه منذ بداياته مع الأعمال الحفرية – سواء على الخشب أو على النحاس- لإعلان عناصر الخيبة والخسران في تأملاته وأبحاثه، رغم غزارة أعماله التي تجاوزت ألف وخمسمئة إنجاز، غلب عليها الطابع الحفري، نجد أهمها يتمثل في سلسلة الحفريات الخشبية «القيامة» التي أنجزها مباشرة بعد عودته من إيطاليا واستغرق إنجازها عامين (1496 – 1498) بلغ عدد أجزائها خمسة عشر جزءا، تعرضت كلها لمختلف فصول وملابسات الرسالة التوراتية الجديدة.
من ذلك حفريّة «فرسان البعث الأربعة» المشؤومة التي تنذر بالموت والحرب والمجاعة والاجتياح، وهي نظرة عميقة مغلفة برداء الخزي، لا يعد عصرنا الحالي في استثناء منها، وإنما هي امتداد له منذ نشوب المجاعات والصراعات الكبرى مع تتالي الحروب والأوبئة.

من الفناء إلى العدمية

شكل ذلك جملة من الإشارات الديررية المرجعية التي لمحت بعدم حضور أفق جمالي مزهر، ولا منطلق مزدهر يمكن الاستمتاع به وغياب أي منظر مترف يمكن دقه على خشبة، وعلى نحاسة لماعة، أو وصمه على قماشة وعلى ورقة. هذه العلامات التشكيلية الواقفة بكبواتها وتحدياتها الإشكالية العدمية تشير إلى صمود وصعود الأفق القوطي السوداوي، في واقع جمالي مترع، وتحول الرموز الفنية «البلاستيكية» من الرضا بالموت كغاية قدسية للالتحاق بالله، إلى اختيار الموت عبر الكآبة المرضية والرؤى الشيطانيّة المتتالية، التي تؤكد الضعف والعجز والأفق السوداوي.
يستمر هذا الوضع السلبي الميت مع ضربات إزميله (منحت) ولمسات فرشاته (ديرر) وغيره من الرموز مثل رفائيل ومايكل أنجلو، واللاحقين على غرار الإسباني السوداوي غويا، الذي تفنن في رسم أحلام مجنونة، بتصوير كائنات شريرة لخصت بربرية السياسة الاستعمارية الفرنسية في بلده، وبعد ذلك تواصل الأمر مع المعاصر الأمريكي الميلنخولي الكئيب العدمي المتمرد جاكسون بولوك، حتى توفي فاقدا للوعي في حادث سيارة، ومع ذلك يتواصل الكابوس السوداوي، كما توقعه ديرر في أعماله وذلك لغاية حضور مخلص.
رغم التحديات المتباينة فقد برع ديرر في تطريز الوجع على الخامة والمعدن والمادة الخشبية، وإتقان حبك الخطوط عبر تقنية «الكسيلوغرافيا» بإحداث فراغات تمثل الأجسام، بينما يترك الأفق مسطحا، مستعينا في ذلك بتقنية النقش على الخشب التي حولها في مرحلة تالية إلى رسومات مطبوعة على الورق والقماش، مستفيدا من ظهور تقنية الطباعة، ليقوم بسحب أعداد لانهائية من النسخ قامت قرينته ببيعها وتوزيعها في أنحاء العالم. بعد ذلك ضَمّن نسخ الأعمال المذكورة في مُؤَلَّف نشر مع بيانات نصيّة مخطوطة في نسختين إحداهما باللاتينية (موجهة للعالم الخارجي) والأخرى بالألمانية (موجهة للقارئ المحلي). وهو أول مُؤلَّف لإنتاجات نقشية (أبيض وأسود) يُطبع ويتم توزيعه في العالم، رغم أن المتن مستقل عن الرسومات ولا يتعرض لشرحها.

البرخت ديرر في صورة تشخيصية ذاتية مقارنا نفسه بنبي عصره (1500)

هندسة الصورة الذاتية

وفي محاولة منه للخروج من السياق التشاؤمي الجنائزي، الذي يذكره بطفولة قاسية مات فيها خمسة عشر من إخوته وأخواته أمام عينيه، اندفع إلى الأمام بحسرة مخفية وأمل صعب صحبة زوج عاقر زاد في تعميق المأساة، حتى وصل اهتمامه ووطأت أقدامه مهد الثورة الفنيّة الأولى، فزار عاصمة الرسم فلورنسا وزار عاصمة اللون البندقية، ليقف عند تتويج العناصر والتقنيات التشكيلية الجديدة التي سبقته بسنوات، غير أن محاولاته في الرسم كانت قليلة ومخصوصة تطرقت لمواضيع حقائق ودقائق الأشياء في الحيوان والنبات، على غرار لوحة «الأرنب البري»(1502) التي عُدّت بمثابة عمل دراسي تشريحي استعراضي، ذكرنا بما قدمه الإيطالي ليوناردو دافنشي، مع أنّ الأخير كان موسوعيا متعدد الاختصاصات وملما بعدة علوم وتقنيات لا علاقة للبعض منها بالآخر(الميكانيكا، الطاقة المائية، التشريح، الفلك، الهندسة) من هنا تبدو المقارنة محدودة، خاصة لما نتعرض لمنتجات فنية في عالم النبات، مثال ذلك العمل المائي الطباشيري «خصلة كبيرة من الأعشاب» (1503) الذي لم يقدم الكثير، دون اعتبار البعد الأرسومي التفصيلي الدقيق، إضافة إلى عدد من الأعمال الصباغية الدينية القوطية الخاضعة، التي لا يمكننا بأي حال من الأحوال الحديث عنها أمام تفنن صناع الفلمنكية البدائية أمثال فان آيك، هانيس مملينغ، كامبن ثم رمبراندت.
وعلى العكس من ذلك أظهرت أعماله الحفرية ثقلا معتبرا حمل هموم البشرية من خلال تجربته في البحث عن تقنين النقوش الذاتية ضمن جدول بورتريهات غير واقعية يتم إخضاعها لمقاربة واقعية، طرح فيها سلسلة من الوجوه البشرية وردت كهيئات يختلف الواحد منها عن الآخر، بمجرد إحداث تغيير طفيف في الصورة في مسعى لضبط فن التشخيص والتشخيص الذاتي بمعادلة علمية تضيف للبشرية، ما أدى إلى تبني الطرح من طرفين اجتماعيين مرموقين في أوروبا القرن العشرين، منهم الفرنسي كلود ليفي شتراوس في مؤلفه «أحزان مدارية» الذي أدرج هذا المعطى في خانة نجاعة البنيوية الرمزية، باعتماد نظرية المقارنة للهندسة الذهنية البشرية في محاولة للإمساك بمعادلة رياضية تخدم الطرح وتحول البحث في الذات البشرية إلى علم صحيح، وهو ما سعت لاستثماره وتقديمه الاجتماعية الأمريكية مارغريت ميد في أبحاثها، من خلال الاهتمام بالجانب الأكاديمي وتطوير الأطروحة الذاتية المعززة بالبحث الميداني عبر ثلاث وسائل مرجعية هي الاجتماع النفسي والاجتماع التطبيقي والاجتماع الإثني.
يبقى نجاح المشروع الديرري رغم كل شيء مرتبطا بالتوجه، الذي خطه الفنان لمساره باعتماد تقنيات مجددة والحرص على نشر وتوصيل الطرح – ولو أنّ الفكرة كانت ضحلة ومتشائمة – إلى العالم بشرقه وغربه وجنوبه وشماله، بمساعدة الأطراف القريبة المتدخلة (الأم، الزوجة) وبعض الأصدقاء المحيطين، ومنهم من حضر من عواصم فنية متوهجة، مثل البندقي جيوفاني بليني (معلم البندقية) الذي أحب أعماله ومجّدها وبيار كايمر والفلورنسي جياكومو بانتورمو الذي جمع عددا محترما من إنجازاته النقشية المطبوعة. وكلهم ابتهجوا بانتشار التقنية الحفرية الجديدة ابتهاجهم بتطور الأعمال اللونية الدراسية المكملة لفن الشمال، التي تميزت أصلا بتضمين عناصر الخط واللون الدقيقة وإظهار التفاصيل البعيدة من قريب والتفاصيل القريبة من بعيد، والعمل على تبويب وتطوير فن التشخيص والتشخيص الذاتي، أو فن البورتريه والبورتريه الذاتي، سواء في المشاهد الحفرية، أو في الأعمال اللونية المائية والطباشيرية والزيتية وهو فن برع فيه ديرر بقطع النظر عن الالتزام بالتقاليد المقدسة في تقديم الوضعية والنظرة والإشارة والهندام. يقول ديرر عن مجمل أعماله التشخيصية الذاتية: «خلق الله الإنسان للمتاعب والتوبة.. إنني لا أرسم الحقيقة في ما أقدم من أعمال، بل أرسم فقط حقيقتي»!

كاتب تونسي

وثيقة مورفومترية لديرر في أعمال قياس الشكل والتشكلات لعدة تشخيصات رأسية متخيلة بمجرد تغيير الخطوط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية