القاهرة ـ «القدس العربي»: «ميلادي الشخصي قريب من استلام حزب البعث للسلطة في 1963 وبالتالي هناك في سوريا جيل كامل، عاش حياته وحتى الكهولة خلال هذه السنوات الخمسين، ولم يكن لتاريخ الولادة أي دلالة خارج سياقها، سوى الإشارة إلى بؤس هذا المولود الذي لم تكن أمه ترغب بهذا التقاطع بينه وبين الحزب» (خالد خليفة في حوار صحافي).
«دم الضحايا لا يسمح للطاغية بالموت، إنه باب موارب يزداد ضيقاً حتى يخنق القاتل» (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة).
رحل الروائي وكاتب السيناريو السوري خالد خليفة (1 يناير/كانون الثاني 1964 ــ 30 سبتمبر/أيلول 2023) والذي شكّلت أعماله في السنوات الأخيرة الصوت الروائي السوري الأكثر صخباً وحدّة، نظراً لطبيعة هذه الأعمال وكشفها الكثير من حالات القمع السوري، وتسلط الحزب الأوحد ورجاله على الشعب، والتي يمكن أن تمتد إلى حالات مشابهة في الدول العربية، حيث لا صوت يعلو على صوت الحاكم. ومن ناحية أخرى تتداخل هذه الأعمال مع الحدث التاريخي ـ خاصة مدينة حلب مسقط رأس الكاتب ـ وهو ما يتماس بدوره مع تاريخ المدن السورية، أو بمعنى أدق إعادة تأريخ الحوادث من وجهة نظر روائية.
ذاعت شهرة خليفة لما لاقته رواياته من ترشح دائم في المسابقات العربية، كالبوكر، كما في روايته «مديح الكراهية» التي ترشحت لجائزة الإندبندنت العالمية، ووصلت إلى قائمة البوكر القصيرة في دورتها الأولى 2008، وكذا رواية «لم يصل عليهم أحد» التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة في 2020. فضلاً عن فوز روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» بجائزة نجيب محفوظ للرواية عام 2013، التي تمنحها الجامعة الأمريكية في القاهرة، إضافة إلى ترجمة أعماله إلى العديد من اللغات.
لم يفصل خالد خليفة الحالة الروائية عن الواقع السوري ومعايشته، والمعاناة التي يعيشها الشعب في ظل الحكم المطلق للحاكم والحزب، ولم يفصل كذلك بين الموقف الروائي والشخصي من الثورة السورية، التي رغم كل ما أصابها ـ كحال الثورات العربية ـ كان يرى أملاً في تجاوز هذه المحنة، أو المرحلة المفصلية القاسية التي لم يزل يعيشها السوريون وأمثالهم الموصومون بالعروبة من أصحاب الحضارات.
ونحاول استقراء بعض هذه المواقف والرؤى، سواء من خلال بعض أعماله أو حواراته الصحافية..
العالم الروائي
«وبدأت تكتب رسالة طويلة لكائن مجهول كنا نظنه عشيقاً، أو صديقة قديمة تشاركها الحديث طوال الوقت عن أزمنة ماضية، لم تعد تعني أحداً، لكن أمي في سنواتها الأخيرة أقامت فيها، ولم ترغب في هجرها، لم تصدق بأن الرئيس مات كأي كائن، رغم مراسم العزاء والحداد الوطني، التلفزيون بث صوره وخطاباته القديمة، استضاف مئات من الأشخاص عدّدوا خصاله، ذكروا ألقابه اللامتناهية بخشوع كبير، غصت عيونهم بالدمع وهم يذكرون فضائل الأب القائد، قائد الحرب والسلم، حكيم العرب، الرياضي الأول، القاضي الأول والمهندس الأول.. يشعرون بغصة كبيرة لأنهم لم يقولوا الإله الأول».
هذا المقطع من بدايات رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، هذا هو المناخ الذي يحكم الذاكرة، التي لم تحتمل أن تصدق وترى الحقيقة، فالزعيم/الحزب/السلطة، لن يمسسهم موت، فهناك رعب من حرية الحقيقة. يتخذ خليفة من مدينة (حلب) مكاناً لسرد أحوالها وتغيراتها تحت حكم البعث، بعد انقلاب 1963، هذه المدينة التي شاخت وتآكلت كأرواح أصحابها، وأصبح الناس إما موالٍ مرتعب، أو معارض يعرف مصيره سلفاً، لتكمن مصائر الشخصيات ما بين الجنون أو الانتحار، فلا أمل لهؤلاء طالما هذه السلطة قائمة، فلا فارق بين الأب والابن ـ الابن الذي اتضح أنه أكثر دموية ـ وهذه حال اختصار الدولة في حزب وحيد وحاكم أوحد. وفي تنويعة أخرى لصلف السلطة وما تفعله بالناس، تأتي رواية «الموت عمل شاق»، وهي فكرة كما يذكر صاحبها جاءته عندما تعرّض لأزمة قلبية في 2013، فتساءل عما يمكن أن تفعله عائلته بجثمانه، وكيف يمكن لها أن تنقله إلى قريته في شمال حلب.. «فالسوريون في ذلك الحين كانوا يدفنون جثث ضحاياهم في حدائق منازلهم، وقبل هذه الحرب كانوا يأتون بجثامين أحبائهم من أبعد نقطة في الأرض ليدفنوها في مقبرة العائلة، وعائلتي ككل العائلات الريفية قضية الجثمان لديها قضية كبيرة».
تدور الأحداث على الطريق بين دمشق وحلب بعد ثلاثة أعوام على الثورة السورية، وتحولها إلى حرب أهلية، حيث المناطق التي تخضع لسلطات وتيارات وطوائف مختلفة. وهنا يخضع الأشقاء (نبيل وحسين وفاطمة) لوصية والدهم (عبد اللطيف) بدفنه في مسقط رأسه في قرية (العنابية) في حلب، مع ملاحظة أن الأب المتوفى كان مناضلاً قديماً ضد نظام الأسد، وبالطبع لنا أن نتخيل كم المهازل، لتبلغ الفانتازيا أو السخرية السوداء مداها، بأن يتم القبض على الجثة التي بدأت تتعفن، والتحفظ عليها، بصفة الرجل/الميت مجرم في حق الرئيس الراحل الخالد! هذه وجهة النظر الأمنية، أما على الجانب الآخر فالحظ العاثر يوقع الأخوة في يد تنظيم سلفي متشدد، فلا يجدون سوى إقامة الحد على نبيل، واعتباره كافراً. وبالتالي فلا أمل ولا مفر من عسكري أو رجل دين، فهما في القمع سواء.
مدينة الضحك
تحت عنوان «حمص مدينة الضحك التي صارت أطلالا وخرائب» يكتب خالد خليفة آخر مقالاته المنشورة قبل رحيلة في مجلة «المجلة» في 24 سبتمبر/أيلول 2023، ويذكر الرجل مدينة حمص التي ادّعى أهلها الجنون بعدما شربوا الماء من نهر العاصي خشية قتلهم من تيمورلنك، الذي خاف بدوره وتركهم لحالهم، ولم يفعل بهم ما فعله بمدن سورية عديدة، فيقول.. «هذه الحكاية تتوّج حمص عاصمة للخيال أيضا، وليس للضحك فقط. أي رواية وحكاية مكتملة الأركان هذه التي تجعل من تمثيل مدينة بأكملها دور المجانين، لمنع محتل وقاتل من دخولها. بقيت حمص ملهمة وطالبت مرارا باعتبارها عاصمة العالم للضحك… لكنّ كل شيء مضى اليوم، تحولت حمص إلى مدينة أشباح، ومأساة من مآسي العصر، من يسير في طرقها يعرف ما حصل للسوريين منذ عام 2011 إلى اليوم».
المنافقون
عُرف الرجل بمواقفه الحادة، التي لا تعرف المواربة، لا في المجال السياسي وحسب، ولكن في الوسط الأدبي أيضاً، وما يتم إنتاجه من قِبل هذا الكاتب أو ذاك، وهل يرقى بالفعل لمستوى الكتابة؟ يوضح خليفة أكثر في إحدى حواراته قائلاً.. «ومَن قال إنه لا يُروَّج للجيل القديم، ومَن قال إنه لا يُعتنى به، من شروط العناية بك هنا أن تصبح رجلاً عجوزاً لتُكرّم، للأسف لم أر كاتباً عربياً واحداً أو سورياً قال إنه لم يبق لديه ما يكتبه ويرغب بقضاء باقي أوقاته في أشياء أخرى غير الكتابة، كاللعب مع أحفاده، أو نقاش وتعليم الكتّاب الشباب تقنيات الكتابة، تأمل الطبيعة أو القراءة، الكل مصمم على الكتابة حتى الموت، ومع ذلك منذ سنوات لم يقدم هذا الجيل رواية واحدة مهمة. ذكروني برواية سورية واحدة مهمة منذ عشر سنوات قدمها هذا الجيل لأغير رأيي … الكتّاب العرب لا يحبون أن يستمعوا إلا إلى المديح، لذلك الكتّاب العرب لن يمسوا المقدسات، باختصار يريدون أن يسافروا إلى المؤتمرات، ويمتدحوا النقاد كي يكتبوا عنهم، وللأسف الكثير من أبناء جيلي منافقون أكثر من كل منافقي الأجيال القديمة».
الثورة
يقول خليفة.. «الثورة كانت ولا تزال ضرورية، ورغم ذلك أتساءل، لماذا كان يجب علينا أن نقدم هذا الكم الهائل من الضحايا؟ بكل بساطة، تبيّن مع الوقت أنه كان علينا أن نضحي بحياة 50 ألف سوري من أجل الحفاظ على مصالح إيران على سبيل المثال. وكان يجب أن يموت 50 ألف آخرين من أجل مصالح روسيا أو الصين أو غيرهما. لا نموت من أجل ثورتنا فقط. نحن نكتشف فجأة بلدنا وعلاقاته المعقدة وسياقاته السياسية من جديد. نكتشف وجود تسوية دولية بخصوص استقرار المنطقة على حساب حريتنا. توجد هذه التسوية منذ أكثر من خمسين عاما، وعندما تم الاتفاق عليها، لم يذكر أي أحد أن حرية السوريين يجب أن تكون جزءاً من هذا الاستقرار. ونختتم الموضوع بعبارات للكاتب الراحل تصف ما كنا نأمل أن يكون وما هو كائن للأسف، إذ يقول: «اعتقدنا في 2011 أننا كسرنا حاجز الخوف، لكن بُني أمامنا حاجز جديد.. نحن الآن خائفون من المستقبل وبلادنا بالكامل تقف في المجهول».
ببلوغرافيا
خالد خليفة كاتب سيناريو وروائي سوري، من مواليد مدينة حلب عام 1964. تخرج في كلية الحقوق، وبدأ في نشر أعماله الأدبية عام 1993 بعنوان «الخديعة»، ثم توالت أعماله.. «دفاتر القرباط» 2000، «مديح الكراهية» 2006، «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» 2013، «الموت عمل شاق» 2016، «لم يُصلّ عليهم أحد» 2019، «نسرٌ على الطاولة المجاورة» 2022. إضافة إلى سيناريوهات بعض الأعمال الدرامية .. «سيرة آل الجلالي» 1999، «قوس قزح» 2000، «ظل امرأة» و»زمن الخوف» 2007، «هدوء نسبي» 2009، و»العراب» 2016.
الجوائز والترشيحات..
«مديح الكراهية» القائمة القصيرة للبوكر العربية 2008، والترشح لجائزة الإندبندنت العالمية للرواية.
«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» جائزة نجيب محفوظ للرواية 2013، والقائمة القصيرة للبوكر العربية.
«لم يُصَلِّ عليهم أحد» القائمة الطويلة للبوكر العربية 2020.