نشرت الروائية والمترجمة العراقية لطفية الدليمي، مقالاً في «القدس العربي» ناقشت فيه، باحترام عال والتزام لائق بأدب الحوار، طروحاتي النقدية، التي عبرتُ عنها ضمن دراستين ظهرتا مؤخراً في هذه الجريدة، تخصان السرد المستحيل والسرد المشكوك فيه.
مقالتي هذه ردٌ أناقش فيه أديبتنا على ما تفضلت به من آراء، سواء تلك التي تخص توجهاتي البحثية، أو تلك التي تتعلق بمفاهيمها، حول الرواية وكتابتها والعلاقة الحساسة بين النقد والإبداع. كلُّ رأي صدر عنها أحترمه وأقدره، وإن اختلفت مع متبنياتها النظرية، ومرتكزاتها المفاهيمية. يكفيني منها فضلاً إنها قالت وجهة نظرها بطريقة واضحة ونزيهة وشريفة، بلا حقد ولا لؤم ولا جُبن.
أبدأ ملاحظاتي من حيثُ بدأت الكاتبة، أي من إشارتها إلى «خفوت النقد». أصادق على هذه الإشارة وأقرها وأتبناها، وقد لمّحتُ إلى مثلها في أكثر من مناسبة. لا أستغرب أن يكون هذا حال النقد عندنا ما دام بحثنا النقدي خاملاً، كسولاً، استهلاكياً، اتكالياً، عاجزاً ومشلولاً، بلا طموح كبير، وقد استطاب العيشَ على الهامش، وارتضى التبعية والحياة على الجاهز والمتوفر.
ليس بالإمكان أن نرتجي من البحث النقدي غير أن يكون على ما هو عليه اليوم، حين تغيب عنه الرغبةُ في المبادرة، ويختفي منه التحلي بالعزيمة ويفتقد إلى إدامة الزخم المعرفي، ويتضاءل عند ممارسيه الإحساسُ بالحاجة الفعلية والحقيقية إلى التفكير المستقل، ذي الهوية الواضحة وتموت الإرادةُ في نفوس غالبيتهم لصياغة وتطوير مناهج بحثية لها خصوصية ذاتية، تسترشد بالعلم وتستنير بالنظريات، وتغتني بالمعرفة وتستقوي بالضبط المنهجي. كان المأمول في بداية مرحلة ما بعد الكولونيالية أن ينشغل باحثونا بصياغة مشروع نظرية نقدية، ذات طابع علمي مضاد، وصبغة ثقافية بنكهة خاصة، لكن العجيب أن تلك الفترة جاءت كي تكرس، خلاف كل التوقعات، تبعيتنا الفكرية للآخر، بل زادتها عمقاً. اللافت للنظر أن التبعية كانت هذه المرة، وبحدود تعلق الأمر بالدرس النقدي، اختياريةً، إذ لم يفرضها علينا أحدٌ، بل ذهبنا إلى سجنها طوعاً وكأنها قدرٌ لا مفرَّ منه إلاّ إليه.
ينبغي الكفُّ عن النظر إلى النص الأدبي الإبداعي على أنه «ابنُ المعجزة» في الوقت الذي هو نشاط دماغي ذو أثر مادي، ينشأ عن العقل ويمكن أن ينتظم، مثَلُه مثَلُ أي ظاهرة للفكر البشري، داخل حيزٍ من أنظمة نوعية، تكوَّن بمجموعها منظومةً يقودها العلمُ السردي، وتسيّرها مناهجُه.
آن لنا أن نقرَّ أن نقدنا يتخبط في أزمات لا يريد الخروج منها، وأن نعترف بأن الإفراط في التأليف بلا صرامة علمية، ومن غير تروٍ، لن يعود علينا بالنفع الكبير، وأن ندرك أن الإكثار من الإصدارات بلا انضباط أكاديمي ولا دقة مفهومية، مفسدةٌ يجب أن لا تُغتفر، لم ينتج عنها غيرُ شيوعِ البلبلة وسيادة الاضطراب، واختلاط حابل النقد بنابله. لا مجال لإنكار أن أسماء كبيرة برزت في نقدنا العربي تستحق الاحترام وتستوجب التقدير، لكنها كانت على الدوام مجرد التماعاتٍ فردية تُلام كثيراً على إخفاقها في تأسيس تيارات، وإنشاء مذاهب تفرعت إلى مِلَلٍ ونحل. يعاب على عمل هذه الأسماء الرنانة أنه كان، في الغالب، خالياً من كل تلاقٍ مثمر مع تجارب بعضها، وافتقرَ إلى برنامج موحد يعزز المشتركات ويشجع تلاقح الأفكار وتبادلها وديمومتها وتنميتها. لا أستند، بكلامي هذا، لهويات النقاد، وإنما إلى مشاريعهم التي عرفها تاريخُ النقد الأدبي في بلداننا العربية.
لعلي أحسن صنعاً لو رجعت إلى مقالة الكاتبة الدليمي إذ لا جدوى من الإطالة، فلا الناس يسمعون ولا أنا خيرُ منْ يخبر القوم ماذا يتعين عليهم فعله. أظن أن أستاذتي الروائية، انطلقت من سوء فهم كبير لمجمل مقاصدي الكتابية في المقالين اللذين حظيا باهتمامها أكثر من غيرهما. أنأى بالسيدة الدليمي عن كل مسؤولية في سوء الفهم هذا الذي أنا سببه ومصدره، وأتحمل كافة تبعاته، وما يترتب عليه إذ قد لا أكون وفقت في توضيح غاياتي. حسب نظريات الإرسال والتلقي، فإن أيَّ فشلٍ في استقبال مضمون الرسالة يتحمله، أولاً، الباثُّ لها، الذي يقع على عاتقه تمكين مستلِم الرسالة من فك رموزها واستحضار معانيها. أجل! قد يكون على المستقبل للاتصال اللغوي شيء من المشاركة في إخفاق عملية التواصل في حالات معينة تتعلق بقصور في أصلِ أهليته لتلقي هذا اللون من الرسائل، أو إذا تعمَّدَ حرفَ الرسالةِ عن مقاصدها، بعد أن يكون قد فهمها، لكنه، لغايةٍ في نفسه، يدّعي عدمَ الاستيعاب، ويتظاهر بالتباس المعنى عليه. أربأ بالكاتبة الموقرة عن كل هذا وغيره، وأعيد التأكيدَ على مسؤوليتي في ما ظهر من مشكلات في الفهم، سأخصص السطور الآتية لمحاولة إزالتها وتبديدها.
يبدأ خللُ التلقي من عبارة ذكرتُها في أول المقال، ووضعت كلمةَ «عقلنة» الواردة فيها بين تنصيصين، رغبةً مني بتمييزها وجر الانتباه نحوها كعلامة مفتاحية ورئيسة تكاد تلخص مجملَ ما كنت أريد الوصول إليه. قاد الفهمُ غير الدقيق لتلك العبارة إلى ما جاء بعدها من ملاحظات احتوت عليها مقالةُ الدليمي. تصورتْ أديبتنا – وربما ذهب معها كثيرون من القراء- أنني أدعو إلى أن يحتكم الروائيُّ إلى العقل في سرده للحكايات. بصراحة شديدة، لو لَمْ أكن مؤلفَ المقال، وأعرف ما قبل العبارة المقصودة وما بعدها، لربما رأيتُ ما رأتْ السيدةُ الفاضلة، ومنْ قد يكون تبنى رأيها من المتابعين الكرام، يتوجب عليَّ، والحال هذه، أن أشعر بالفرح والخوف معاً، لأن لديّ قراءً لا يغفلون، يستوقفهم الغموضُ ويستفزهم الإبهامُ، ولا يروق لهم تشوشُ المقصد. مع ما عليَّ من ذنبٍ أقدمه بين يديها، أرجو أن تسمح لي أستاذتي الروائية بعتبٍ صغير، داعيه أنها اقتطعتْ الجملةَ موضع النقاش من سياقها، فبدتْ وكأنها تخص الروائيين، في الوقت الذي هي موجهة إلى المشتغلين بعلم السرد، بلحاظ مدلول القول الذي سبقها والسياق، في عُرف اللغويين وأهل الاستنباط، حجةٌ لما فيه من تقييدٍ للمعنى وتخصيص. غير أن هذا لا يمنع من إعادة تناول الأمر بشكل أوضح فلا أنزهُ نفسي عن اللبس، وصعوبة الطرح أحياناً. عندما قلت إنني أهدف إلى «عقلنة» السرد المستحيل، كذلك الذي يصدر عن الموتى مثلاً، لم أعنِ أن على الروائي المراعاة التامة لأحكام العقل والمنطق عندما يريد أن يكتب روايةً، بل قصدت المشتغلَ في حقل النظرية السردية، الذي يجب عليه، بحكم تخصصه، أن يجد تبريراً معقولاً لهذا السرد «الغريب»، وأن يحاول إحاطته بسياج نظري يتيح له الوجود والنمو داخلَ تصنيفٍ علمي ممكن. يشبه هذا ما قام به تودوروف، مثلاً، عندما اقترح تسمية الغرائبي والعجائبي للنصوص التي تتوفر فيها الشروط المحدَّدة من قبَلِه، بدون أن يمنع الروائيين من الكتابة العجائبية والغرائبية. لا أريد من المقايَسة وضع نفسي في منزلة أنا دونها أكيداً، بل أن أوجه الانتباه إلى أن محاولات غيري التصنيفية، ومحاولاتي اليسيرة، تدخل ضمن مهام الباحث في شؤون السرد التي يجب أن لا تثير حفيظةَ أحد ما دامت مشروعةَ الغايات مبررةَ النوايا وغيرَ منطويةٍ على قهر.
تعلُّقاً بهذا أقول إنه ينبغي الكفُّ عن النظر إلى النص الأدبي الإبداعي على أنه «ابنُ المعجزة» في الوقت الذي هو نشاط دماغي ذو أثر مادي، ينشأ عن العقل ويمكن أن ينتظم، مثَلُه مثَلُ أي ظاهرة للفكر البشري، داخل حيزٍ من أنظمة نوعية، تكوَّن بمجموعها منظومةً يقودها العلمُ السردي، وتسيّرها مناهجُه. ليس من غايات علم السرد ـ وأنا هنا أعلق على فكرة وردت في مقال الكاتبة لطفية – منافسة الإبداع أو مخاصمته والتنازع معه، ولا حتى أن يقدم نفسه بديلاً عن النقد. النقدُ، كما قلتُ مرةً، عملٌ وفق نظرية، أو هكذا الفرضُ، والدرسُ السردي، الذي هو تجسيدٌ رئيس من تجسيدات علم الأدب، تمثيلٌ لمنهج تنضوي تحته نظريات، لذا فعلمُ السرد أوسعُ بكثير من النقد وأشملُ، كممارسة فكرية، من الإبداع. وفق هذا المعنى، ليس من الحق اعتبار جونيت أو تودوروف وقبلهم بروب وغريماس وياكوبسون، مجردَ نقادٍ بل منظرين أدبيين شاغلهم الأساس اجتراحُ القوانين العامة التي تصير بمقتضاها النصوص. أعرف أن كلاماً كهذا لا يروق للمبدعين، وقد يجرح كبرياءهم أو يثير حساسيةَ بعضِهم، لكنه واقع الحال ومنطق التاريخ، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
لا أظن الكاتبة لطفية الدليمي من الكافرين بالعلم، ولا المتعالين عليه وهي القارئة الكبيرة والمترجمة القديرة، لكنَّ جملةً كهذه: «عندما يجلس الكاتب ليكتب عملاً جديداً فإنه لا يستحضرُ مفردات علم السرد ونظرياته، التي قرأ عنها» لا تمر بدون أن تترك انطباعاً، ولو آنيّاً، بتوهين دور العلم والطعن في سبب وجوده، وإضعاف منزلته وعدم توقيره ولا أقول إنها تحوي استخفافاً به صوناً لمشاعر الكاتبة الجليلة. على إنني أميل إلى خلاف هذا الرأي تماماً، إذ أجد أن على مؤلف الرواية وما سواها، أن يتذكر، لحظةَ الكتابة وقبلها وبعدها، قوانينَ علم السرد ونظرياته، ولو على نحو الإجمال وبأضيق الحدود الملامِسة لعمله الإبداعي. لعلَّ إهمال النظريات السردية والتكبر عليها، وهذا الكلام لا علاقة له بأستاذتنا القديرة، وإحجام مجموع المبدعين العرب عن بذل الجهد الكافي في فهمها ومناقشتها علةٌ رئيسة تفسر هزال الرواية العربية على المستوى التقني، وضعف المهارات السردية للكثير من كتّابها الذين يقعون في أخطاء فنية بعضها بدائي، لكنه يعكس قلة اطلاعهم ونقص عدتهم النظرية. يوثِّق هذا الاستخفافَ الأكيد بأهمية النظريات عزوفُ الروائيين العرب، إلاّ النزر اليسير، عن التفكّر في الكتابة الأدبية ومحاولة التأليف فيها وفي تفاصيلها عكس نظرائهم من الروائيين العالميين أمثال بلزاك، زولا، بروست، مورياك، سارتر، روب – غرييه، بوتور، ريكاردو، سوليرس، باموق، يوسا، ماركيز، كونديرا، ساروت، أيكو، وكثير غيرهم ممن قدّموا أفكاراً عميقة تخص صنعة الرواية انطلاقاً من تجاربهم كروائيين وتأسيسا على فهمهم لطبيعة الممارسة السردية.
لو كنت سيئ النية، لوجدت في العبارة الآتية لأستاذتنا تلميحاً آخر يوحي بالترفع على النظرية السردية: «الكاتب وحده هو من يعرفُ مكابدات الصنعة الروائية، لأنه يحترق داخل أتونها، الذي يشبه مفاعلاً ذرياً مسيطراً عليه». فضلاً عن الإيحاء بالتعالي على علم السرد، وهو أمرٌ (أعني الإيحاء) أعزوه إلى فهمي وأجلُّ الكاتبة عن مثله، فإن هذا التعبير الصوفي/الرومانسي الجميل أصبح اليوم أسطورة وفكرة لا واقعية من مخلفات تأثيرات الثقافة المشرقية والعربية القديمة، وبعض تركة السيريالية الفرنسية، التي ترى الكتابة ممارسةً سريةَ الطقوس مجهولةَ المصدر أو ذات طابع سحري ومنبع ما وراء طبيعي. الجملةُ نفسها تعطي إشارة غير مباشرة بأن الكتابةَ، بالنسبة لروائيينا العرب، معركةٌ طاحنة وساحةُ منازلةٍ حامية الوطيس يحرمُ أثناءها الاستسلامُ للاسترخاء ويعزُّ طلبُ الهدوء. لا أفهم لماذا يجب على منْ يؤلف رواية أن «يحترق داخل أتونها الذي يشبه مفاعلاً ذرياً».
كلام الدليمي عن تصوري لعلاقة الثقة بين السارد والقارئ. بعيداً عن واقعية ولاواقعية الحدث المنقول، فإن الإقرار بوجوب وجود هذه الثقة بين قطبي التواصل يعدّ من مسلمات نظريات القراءة والتلقي، وشرطاً قبْلياً من شروط عقد القراءة المضمر.
لماذا تتحول الكتابة من عملٍ يشبه أي عمل آخر، ومن مغامرة ممتعة، ورحلة استكشاف مشوقة، وفعلِ حبٍ، إلى أزمة نفسية ذات بعد مازوشي؟ ألا تقف مثلُ هذه الأفكار وراء ما نحسه من انعدام أو ندرة استمتاع الروائي العربي بما يكتب؟ أليس غياب الاستمتاع هذا سبباً آخر من أسباب تردي واقع الرواية العربية، التي يأبى كاتبُها إلاّ أن يمنع عن نفسه الشعورَ بنشوة الكتابة، وبالتالي يحرم متلقيه من لذة تذوق جمالها وتلمس عذوبتها؟ ألم يكن من نتائج هذا الشد العصبي والتوتر النفسي البيِّن الذي يحب كاتبُنا العيشَ داخله أن أصبحت نصوصُنا الروائية، على العموم، كالحة، منفِّرة، مليئة بكلِّ العنف اللفظي والجسدي الذي تمارسه شخصياتٌ روائية قاسية لا تجيد أو لا تريد التمتعَ بالحياة ومباهج العالم المباحة في أقل تقدير؟ أين اختفت متعةُ الإحساس بالجمال في روايتنا العربية الراهنة؟ بمَ يُبرَّرُ عجزُها عن جعل المتلقي يتلمس حسنَ الإبداع وبهاءه؟
من الطبيعي أن يؤدي هذا التصور النرجسي لعملية الكتابة، إلى لزومِ أن يكون «العقل السردي ميتافيزيقياً بالضرورة»، حسب تعبير الدليمي. لتسمح لي الكاتبة بمخالفة هذا الرأي، الذي أجد في التشبث به سبباً يجرُّ الرواية العربية إلى الوراء ويعرقل سيرها البطيء أصلاً باتجاه مجاوزة التراث الميتافيزيقي، وأبنيته المعرفية التقليدية. العقلُ الميتافيزيقي، وهذا ما أدركتْهُ بعضُ التجارب الروائية العربية المتأخرة، افتقر دائما إلى الجرأة في تناول المسكوت عنه وعجَزَ عن تفكيك المركزيات الفكرية وفشَلَ في مناقشة السرديات الكبرى، وساهم إلى حد بعيد في تكريس سلطة المرويات التراثية، التي هي ذات طبيعة ماورائية. إذا كانت الرواية الغربية قد تقدمت خطوات سريعة إلى الأمام، فذلك بعد أن تبنّت التفكيرَ الحر واشتغلت بوعي على التحرر من هيمنة الخطاب الميتافيزيقي، وراحت تتأمل العالمَ من خارج أسوار سلطة المقدس.
آخر ما أعلق عليه مما ورد في مقالة الدليمي، هو كلامُها عن تصوري لعلاقة الثقة بين السارد والقارئ. بعيداً عن واقعية ولاواقعية الحدث المنقول، فإن الإقرار بوجوب وجود هذه الثقة بين قطبي التواصل يعدّ من مسلمات نظريات القراءة والتلقي، وشرطاً قبْلياً من شروط عقد القراءة المضمر. بدون هذه الثقة الممنوحة من طرفٍ لطرف لن يكون للعقد وجود وسيتعذر على السارد إنجاز أحد أهم واجباته الإستراتيجية وهو التأثير في متلقي الخطاب. من نافلة القول إن النص الجمالي مكتوبٌ بقصد إيقاع الأثر الذي، إن فُقد، لن يعود لعملية القراءة داع أساساً وستصبح فعلاً مجانياً ما دام بلا غاية تسوغ القيام به. الثقةُ – من أجل أن أستعير فكرةً لريكور- معركةٌ بين مصدَرِ الملفوظ ومستَلِمه عن طريقها، وعن طريقها فقط، يتحقق الهدفُ من القراءة في أن تكون تجربةً تُوقِعُ أثراً. السارد الذي يحوز ثقةَ متلقي ارسالاته يربح المعركة، وينجز ما عليه من تكليف في تحقق الأثر أما السارد الذي يفشل في كسب ثقة مستمعه فإنه يعرِّض مصير العملية القرائية برمتها للنسف والإلغاء. ليس المدارَ في تحصيل الثقة سردُ ما يُصدَّق، بل المدار روايةُ ما يمكن إقناع القارئ به والتفاعل معه والقبول باحتمالية حدوثه داخل العالم السردي وإنْ تجاوز المرويُّ حدَّ الواقع وفي هذا الكلام تطويرٌ لفكرتي السابقة بهذا الخصوص. يبقى السؤال عن لحظة ولادة أزمة الثقة تلك. يتشكل فقدانُ الثقة إما منذ الشروع بالقراءة عندما يمرر السارد، عامداً أو غير عامد، معلومة إلى القارئ تضع موضع الاستنكار أهليتَه لسرد الحكاية كأن يخبرنا، ابتداءً، بأنه مجنون مثلاً، أو فاقد للذاكرة ونحو ذلك. يحدث أن يتخلّقَ زوالُ الثقة رويداً رويداً عندما يبدأ الشكُّ بالتسرب إلى القارئ لما يراه من نقص في قابليات السارد الذهنية على سرد الحكاية كأن يكتشف، مع تقدمه في القراءة، ان محدِّثَه ضعيفُ الذاكرة أو مضطربُ العقل وما شابه. عندئذ تبدأ ثقةُ القارئ بالسارد بالاهتزاز والتزعزع وقد تتلاشى.
٭ كاتب وناقد عراقي
عاشت ايدك دكتور حسن استاذنا العزيز مقال قمة بالروعة ، بالتوفيق
كلمات تقودنا من فكرة إلى أخرى وسطور تقفز بنا من اقتباس إلى نظرية ِ.. فعلا ان السرد موهبة أضف إلى ذلك فكر ناقد متقد ذو علم ومعرفة.. بوركت أناملك دكتورنا الغالي.
مقال ذو نسق نظري يشي بدراية معرفيّة بعيدة المدى للكاتب، بيد أنّ هذا الوعي النظري لا يعني أنّ الكاتب لا يعرف المحجّات السرّيّة للكتابة، حيث أجد الدكتور حسن سرحان جاء وبيده ضوء التجسّدات السرديّة وتوهجها، مقدّماً في الآن ذاته درساً في الحوار المهذّب، والذي يصعب على عديد الباحثين الاتّسام به في الظرف السايكولوجي الضاغط.
مقال مهم جداً للكاتب والقارئ، أرجو للدكتور سرحان مواصلة هذا الجهد المضيء، والذي خبرناه في إسهامات نقديّة، نظريّة وإجرائيّة، من قبل.
كلمات تقودنا من فكرة إلى أخرى وسطور تقفز بنا من اقتباس إلى نظرية… فعلا ان السرد موهبة أضف إلى ذلك فكر ناقد متقد ذو علم ومعرفة… بوركت أناملك دكتورنا الغالي.
احسنت كنت اتمنى قراءة مقال الكاتبة قبل قراءة مقالك. لكن وقع نظري على مقالك اولا. تحياتي
يسعى الناقد د حسن سرحان الى مد جسور بين النصوص الإبداعية وأسس وقوانين إنتاجها .
شكرا جزيلا د حسن سرحان على دراساتك النقدية حول السرد المستحيل. وأيضا شكرا د لطيفة الدليمي على مقالتها حول الموضوع وأيضا ردك عليها، وأنا أرى أن كليكما قد اثريتما الموضوع فكريا وتقنيا . و من وجهة نظري الشخصية أن الكتابة الإبداعية لا يمكن بلوغها بمجرد القراءة واكتناز المفردات وثراء المعاني وتعلم الضوابط الأكاديمية. إنما هناك حالة من الإلهام يصل إليها الكاتب وهي أحتراق جذوة الكتابة في فورة ما أو حالة تجلي بلحظة ما.
دكتور حسن قامة نقدية رصينة اتمنى له كل التوفيق
الى الدكتور حسن سرحان و الروائية لطفية الدليمي لهم أكتب:……………………………………..
إنّ ما قدمته نظرية القراءة والتلقي للساحة الأدبية عموما والنقدية خصوصا ، ما يعرف في أدبياتها بـ : القارئ الخبير؛ هذا القارئ أو الناقد له القدرة على سبر أغوار النص الأدبي ومعرفة مداخله ومخارجه وبنياته و مقاصده. صاهرا هذه المعرفة النقدية للحرفة الأدبية في بوتقة متكاملة، وفق رؤية منسجمة مع مختلف المدارس النقدية العالمية؛ بل يصبو أحيانا إلى تشكيل التميز والخصوصية، انطلاقا من قناعاته وتصوراته واجتهاداته أحيانا ، جاعلا أمامه تراثا ثريا صنع التميز والتفرد في وقته، مع تقنيات وصيغ لغوية حديثة تخدم العمل الروائي وتضيء جوانبه ، و من ثمة ، علينا ان نضع جملة من الافتراضات، ومن بينها شعبية الرواية في العالم العربي، بعد أن كان الشعر سيد الأجناس الأدبية.