رسالة غسان كنفاني إلى أهله في غزة

حجم الخط
1

أرسل غسان كنفاني «ورقة من غزة» (وهي إحدى قصص مجموعته «أرض البرتقال الحزين») منذ وقت مبكر (1956) لكن هذه الرسالة ما زالت حية إلى اليوم، تنطق بمعاناة أهلنا في غزة، التي يعيشها، تقريبا، كل متلقٍ، يملك إحساسا إنسانيا!
يخبرنا كاتب الرسالة أن رائحة الهزيمة، وقد مرّ سبع سنوات على النكبة، ما زالت طازجة، تزكم أنفه؛ لذلك يتماهى مع صوت المؤلف كنفاني، الذي يرغب في توثيق وحشية أعدائه الصهاينة، الذين يتمنون إلقاء غزة في البحر، فلا يجدون طريقة لتحقيق حلمهم هذا سوى إبادة أهلها، الذين هم، في معظمهم، لاجئون، طُردوا من قراهم عام (1948) فكانت مدينة غزة أقرب المدن إلى أرضهم، حتى إنهم كانوا يرونها بالعين المجردة، من دون أن يستطيعوا الوصول إليها! لهذا كان أي محاولة منهم للعودة إليها، لا بد من أن يجابهها العدو بالقصف والدمار، لعله يثنيهم عن حلم العودة!
رغم أن هذه المدينة أثناء إرسال الرسالة (منتصف الخمسينيات) لم تكن قد احتلها الصهاينة بعد! إذ كانت تحت الحكم المصري حتى هزيمة (1967) لكن المدهش أن حالها ازداد سوءا مع مرور الأيام، وتغيّر السلطة، التي تحكمها.
حاول كنفاني في هذه الرسالة المختصرة، التي دعاها «ورقة من غزة» أن تكون بلسان شاب غزاوي، حاصره واقع بائس، مثل غيره، فقرر في لحظة قهر أن يهاجر إلى (كاليفورنيا) التي تكاد تكون مأوى أحلام أيّ شاب عربي، إنه يحلم بالهرب من بؤس حياة، يعيشها غريبا، فقد كان يعمل في إحدى مدن الملح، حيث كان يحسّ أن أيامه، تمرّ فيها فارغة من أيّ هدف سوى التوق إلى آخر الشهر!
يختار القاص فضاء زمنيا موحيا (عطلة الصيف) التي تخلص فيها البطل من عمله التدريسي؛ لذلك يستطيع العودة إلى (غزة) ليودّع أهله، ويستعدّ للسفر إلى أمريكا، خاصة بعدما عانى من بؤس مدينة، ارتدت لبوس الفقر، فحاصرته شوارعها الضيقة الدبقة، التي دفعته للتفكير بالرحيل عنها.
إن هذه النظرة الكئيبة للفضاء المكاني، التي هي وليدة رتابة يومية، جعلت المرسل، يعيش عبثيتها، بعد أن ضيّع معنى وجوده فيها، فقد أقنع نفسه بأن هذا الفضاء لن يمنحه القدرة على تحقيق ذاته؛ لذلك كانت أقصى أحلامه الهرب من مكان، لا يجد فيه هدفا لحياته؛ إنه ككل شاب، يتوق إلى العيش في الغرب، حيث الخضرة والماء والوجه الحسن! وبذلك يلاحظ المتأمل أنه يريد أن يلبي رغبة مسكوتا عنها، تتيح له التفرّغ لذاته، بعد أن أجبرته ظروف النكبة والمخيم على العيش من أجل غيره (أمه وأرملة أخيه وأولادها).
أرسل كنفاني في هذه القصة رسالة، تنطق بأحلام الشباب العربي، الذي عاش، وما زال، صراعا بين البقاء في مدينته العربية (الفلسطينية) التي يقهره بؤسها، وهجرها، لهذا يؤرّقه الصراع بين الرحيل وراء حلم، يلبي حاجاته الضرورية، وبالتالي يدفعه ليعيش مثل غيره من الشباب حياة أكثر إنسانية! وخيار آخر يدفعه لمواجهة واقعه البائس على أرضه، ومن سوى الشباب يندفع إلى تغيير هذا الواقع، لذلك يعاني هذا البطل أزمة داخلية بين الرضا بالتضحية بحياته من أجل الآخرين، والإصغاء للحظة أنانية، تدفعه إلى ترك حياة، تشدّه خيوط مأساتها إلى الأسفل، يكافئ الخيار النبيل (الأول) التمسك بالأرض، فتستيقظ مشاعر الحنين إليها، لتشدّه إلى أهله وذكرياته في وطنه (غزة) وهجرها، لكونها بيئة مغلقة على البؤس، فهي «أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر» (القصص القصيرة).
لكن هذا الشاب الفلسطيني، يحسم خياره، حين يقترب من نبض الحياة بين أهله، فيلمس صمودهم في هذه البيئة البائسة، التي تشعلها قذائف العدو؛ لتحيل حياة الفلسطينيين جحيما، لعل هذا العدو، يدفعهم للهرب منها!
بدت الرسالة التي يرسلها الفلسطيني (إلى صديقه، الذي دعاه إلى الهجرة، وهيّأ له أسباب السفر) مخالفة لأفق التوقع، فبدل أن تكون استجابة للهروب من غزة، تصبح دعوة لصديقه، كي يعود إليها من (كاليفورنيا) إذ شتان بين حياة بعيدة عن غزة، وأخرى تكتوي بنيران عدوّها، وقد اختار كنفاني لبطله معاناة هذا البؤس وتحديه، خاصة بعد أن سمع أن ابنة أخيه (ناديا، التي ما زالت في الثالثة عشرة قد أُصيبت، إثر العدوان الصهيوني) في المشفى، تريد رؤيته!
وثّقت الرسالة لمعاناة الشعب الفلسطيني، خاصة الشباب والأطفال، الذين كانوا وما زالوا أبرز ضحايا النكبة، إذ توجب عليهم مواجهة بؤس اللجوء، وحمل مسؤولية الرجال، في عمر مبكر، ما أنساهم أفراح الطفولة وعبثها!
وكي يبعد كنفاني القص عن اللغة المجردة، اقترب أكثر من معاناة الطفلة (ناديا ابنة أخ البطل) بسبب شظية، قطعت رجلها من أعلى الفخذ، سرعان ما يرى فيها المتلقي، دون أن يشعر، ممثلة لجيل من أطفال فلسطين، ما زال يدفع ثمن عدوان، تخلى عن إنسانيته، إذ وجد، وما زال، في طفولة هؤلاء تهديدا لوجوده في الحاضر وفي المستقبل، لهذا سعى إلى تدميرها بكل ما يملكه من أدوات وأسلحة، حتى جعل الحياة السعيدة لديهم ضربا من الشذوذ الاجتماعي! وقد تأكّد من ذلك الشاب (المرسل) حين اكتشف أن ابنة أخيه الطفلة، لن تستطيع تحقيق حلمها البسيط (ارتداء بنطال أحمر) في هذه اللحظة، خرج من المشفى؛ ليبحث عن عزاء له، فلم يجده إلا بالوقوف على أرضه، هنا تغيّرت نظرته السوداوية إليها، لهذا ليس غريبا أن تصبح (غزة) خير مشارك لأحزان الفلسطيني، تنتفض لوعة على ساق (ناديا) المبتورة، ولم تكتفِ بهذه المشاركة، بل تدهش المتلقي بمشاركتها له أيضا روح التحدي، كي تسعفه على مواجهة ظلم، يزداد قهره وظلمته مع كل قذيفة، عندئذ تتيح له حروف الرسالة معايشة وحشية العدو، الذي يتقصّد إصابة الأطفال، منذ نشأته إلى اليوم، وإلا ما معنى قصف المستشفيات؟ ما معنى قطع الكهرباء والوقود عنها؟ ما معنى قصف مستشفيات تحتضن الأطفال والخدّج؟

تبدو غاية الصهيوني واضحة من قتل أطفال غزة، وتشويههم، إنها قصف حياة كل فلسطيني، يتشبث بأرضه، لعل هذا العدو يقضي على إرادته وقدرته على الاستمرار في الصمود، لكن هل يمكن له أن ينجح في محو إنسان، يتشبث بأرضه، ويبذل من أجلها دمه؟ يخبرنا غسان كنفاني في ورقته من غزة، أن هذا العدو لن ينجح في تحقيق هدفه هذا، فحزن الإنسان على أحبته أمر بديهي، لكنه لن يكون حزنا عاديا، يضعف الإرادة، ويقتل الحلم بمستقبل، يرى فيه نفسه عائدا إلى أرضه، لهذا ستشاركه، رغم جراحها وحروقها، الدفاع عن أهلها، فتقف في وجه المعتدي، أي تشاركه التحدي، الذي يراه كنفاني مكافئا لـ»استرداد ساق ناديا المبتورة» تلك الطفلة، التي ألقت بنفسها، أثناء قصف بيتها، على إخوتها؛ لتحميهم من نار القذيفة! رغم أنها كانت تستطيع أن تنجو بنفسها، لكن روح الطفولة التي لا تعرف سوى الحب والعطاء، دفعتها لحماية غيرها، وعدم التفكير بأنانية، رغم أنه كان بإمكانها أن تنقذ نفسها، غير أنها رفضت خيارا، يحفظ حياتها دون أحبتها، وبذلك تبدو رسالة غزة موحية للمتلقي بأهمية التشبث بالأرض، التي لن تتجسد إلا في صحبة قيم عليا، أساسها التضحية، وبذلك تخبره بحقيقة أن الحياة الكريمة، التي تليق بالإنسان، لن تكون بمعزل عن الآخرين، لهذا لمن أراد هذه الحياة، لابد له من امتلاك روح التحدي والمقاومة، وقد جعل كنفاني طريقها، يبدأ بتعزيز قيم، تبني أعماق النفس الإنسانية، عندئذ تكون فاعلة، تربط الفلسطيني بأرضه وبأحبته معا!
أدرك البطل الشاب في رسالة كنفاني معنى التضحية، وأن القرابة الدموية، لا بد أن تكافئها رابطة روحية، تستمد نبضها من حب الأرض، التي يجتمع فيها الأحبة؛ ويسعون لبذل دمائهم من أجلها، وبذلك تدفع هذه الرسالة المتلقي، أيّا كان، إلى الثأر للكرامة المستباحة، ورفض ظلم، ما زال يحاصره بين أنقاض هزيمة بشعة، لن ينقذه منها، في رأي كنفاني، سوى شعور الانتماء إلى الأرض الفلسطينية، شرط أن يعيش قيم المحبة والتضحية من أجل الآخرين، وبذلك تحفّز رسالته المتلقي ليبحث عن معنى لحياته! الذي لن يكون بمعزل عن شعور الانتماء إلى أرضه والتجذّر فيها، خاصة أمام التضحيات، التي يقدمها أبناء غزة؛ لهذا كانت خاتمة قصة «ورقة من غزة» نداء، يدعو فيه البطل صديقه، الذي سبقه في الهجرة إلى أمريكا، بأن يعود إلى غزة؛ ليتعلّم من ساق نادية المبتورة معنى الحياة بكل دلالاتها السامية، فيتعلم أهمية أن يجد هدفا، يسير به نحو فلسطين، التي هي طريق السلامة!
ما زالت هذه الورقة، التي أرسلها غسان كنفاني، منذ أكثر من خمسة وستين عاماً، تخاطب ضمائرنا اليوم، وقذائف العدو، تنهال على الكبار والصغار في غزة، دون أن تنال من عزيمتهم، فهم من حمل رسالة دم الشهيد، ليلبوا نداء فلسطين. ما زالت هذه الرسالة وقد امتزج فيها الحرف بدم كاتبها، تعلّمنا معنى التحدّي! لعل سر حياة «ورقة من غزة» أن كاتبها ابن مدرسة الشعب الفلسطيني، تعلّم منه كيف تكون التضحية من أجل أرضه، حتى باتت نبض حياته، وبذلك كتب رسالة صمود، يواجه بها نزف الجراح ولهيب القذائف!

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    ستنتصر غزة العزة و الصمود والبطولة والشهادة رغم كل الجراح، ستنهض من تحت الرماد أقوى من النار في الهشيم بإذن رب العالمين وكان وعد الله مفعولا اقتربت نهاية دويلة السراب والخراب 🇵🇸🌴🤲🌴🤲

اشترك في قائمتنا البريدية