بيروت ـ «القدس العربي»: عندما قررت نهى مُحرّم تأسيس كاليري Art on 56th سنة 2012 في مبنى يفوق عمره 100 عام في منطقة الجميزة، لم تكن تدري أن يوماً مشهوداً سيجعل من المكان خراباً، ويخسف أرضيته، ويحطم لوحاته. حدث هذا في لحظة من يوم 4 آب/اغسطس 2020.
الترميم الفني الدقيق أعاد الكاليري إلى سابق عهده، وفي اطلالته على الخريف يحتفل بعيد تأسيسه العاشر مشرّعا مساحاته على دفق من الألوان الزاهية. تلك الألوان التي تلاقت فيها تطلعات نهى مُحرّم مع التشكيلي وسام بيضون، فكان معرض «اعادة تخيل بيروت». في هذا المعرض نثر بيضون بأسلوبه التجريدي ألوانه المائية المبهجة. كما رسم تمنياته من مدينته، بحيث تتيح استنشاق الهواء وتمنح الأمل لساكنيها ولكن.
معتمداً تقنيات مختلفة رسم وسام بيضون لوحات كبيرة، وأخرى متوسطة لبيروت التي وصفها بـ«مدينة عميقة تحت بشرتي مثل وشم قديم باهت. علاقة حب وكراهية مستمرّة خلال 47 عاماً. إنها خريطة، خريطتي الشخصية».
تميزت بين لوحات المعرض عدّة أعمال من ضمنها تلك التي تمثّل خريطة بيروت، وفيها المساحة الخضراء الأكبر المعروفة بـ«حرش بيروت». في حين أطلق وسام بيضون العنان لمخيلته برسم هذه الخريطة المبتكرة. زيّنها بما يتمنّاه، فزاد مساحاتها الخضراء، وتركها تزهو بالألوان. وأتاح لرئة ناسها نعمة التمتع الأوكسجين بعمق بمنأى عن كافة الملوثات والحواجز.
في «إعادة تخيل بيروت» حضرت الألوان المائية بقوة، كذلك الأكريليك والباستيل. وميز الكولاج بعض اللوحات، خاصة خريطة بيروت المرغوبة والمشتهاة من قبل الفنان.
مع وسام بيضون هذا الحوار:
○الإنسان في لوحتك تائه بين المدرسة التجريدية واللمسات الحسية. فماذا عنه؟
•أعمل ولا أفكر طويلاً في النتيجة. «إعادة تخيل بيروت» معرض يختلف كلياً عن مشاعري السابقة التي عبّرت عنها في أعمالي. كانت مرحلة اتسمت بالغضب وامتدّت من 2002 إلى 2006 لكني تركت تلك اللوحات تستريح جانباً. حتى أني لم أنجز أي عمل يعبّر عن 4 أب/اغسطس رغم تأثري بالفاجعة كما جميع الناس.
○تركت الغضب يستريح وها أنت تسبح في اللون الزهري وتدرجاته. ماذا يقول لك هذا اللون الفَرِح؟
•يضحك ويقول: جميعنا يرغب بأن تعود بيروت فَرِحة بمساحاتها الخضراء التي تتيح للإنسان حرية التنفس بعمق، وحرية المشي دون عوائق. ننشد مدينة لها نظام مُدُني يسهّل حياة من يسكنها، أو يقصدها بغض النظر عن الإزدحام.
○تكرر اللقاء بين المرأة والرجل في لوحات هذا المعرض. هل هي الصدفة؟
•هذا طبيعي وما من أحد بينهما يمكنه العيش دون الآخر.
○أين يلتقي هذا المعرض مع مناسبة عشر سنوات مرّت على إطلاق الكاليري؟
•لم ينجز المعرض لهذه المناسبة لكنّ صاحبة الكاليري نُهى مُحرّم وجدته متناسقاً معها كموضوع وألوان زاهية.
○مجموعة يمكن وصفها ببيروت المتخيلة. ماذا تريد من بيروت الجديدة؟
•أول ما أريدها منها كما سبق القول أن تستوعب ناسها بحيث يمكنهم إستنشاق الهواء. نحن الآن في حالة اكتظاظ ولا نظام يحكمنا.
○اللون الفاتح يمنح اللوحة مدى واسع. لكن إلى أين ستتوسع بيروت كجغرافيا؟
•قانون حضاري إنساني يمكنه تنظيمها. على سبيل المثال الحفاظ على المنازل المشابهة لهذا المنزل الذي يجمعنا. وإن كنا بصدد إنشاء بناء جديد فليكن وفق تخطيط مُدُني متناسق مع روح المدينة، لا أن يشهق في الارتفاع وبألواح من زجاج.
○هل ستتغلب الإنسانية يوماً على عامل الاستثمار في المدينة؟
•هذا ما نتمناه. حواري دائم مع المهندسين عن المخطط الذي يأخذ المدينة نحو الإنسانية بدل المال.
○الشركات العقارية تغزو بيروت لشراء المنازل القديمة الإنسانية؟
•بالتأكيد يجب أن تأخذ نقابة المهندسين دورها في هذا الجانب. هذا رأيي، وهذا تخيُّلي، وأتمنى انضمام مناصرين إلى هذا التخيُل.
○لديك مجموعة من المائيات موضوعها الإنسان الذي يبدو منهكاً. ماذا تقول لك قراءة الزوّار لهذه الحالة؟
•أترقب قراءة الزوار للعمل الذي ينظرون إليه. وهذا يقول بأن رسالة ما وصلت إلى هذا الزائر. تعبير الزائر يعني أن مشاعر ما راودته خلال تصويب نظره إلى العمل، أي أنه تفاعل معه. وبمعنى آخر للزائر أن يتواصل مع ما يراه.
○كيف تختار التقنية التي تستخدمها بين ألوان زيتية أو أكريليك أو مائية؟
•لا أرتاح إلى الزيت، والأكواريل يشدّني إليه دائماً. إنه العمل مع صبغة وماء. الماء هو أساس الحياة. نسبة المزج بين اللون والماء تنتح ألواناً متنوعة وسحرية. كثيراً ما أبلل الورقة وأضع فوقها نقطة لون وأتركها تشق طريقها، ومن ثمّ أكمل الرسم. ألوان الأكريليك جميلة، وأفضل منه نوعه السائل.
○في هذا المعرض لماذا أنت منحاز إلى الألوان المائية؟
•أجدها أكثر سحراً. إنها الكيمياء بين الماء والمادة الملونة النقية التي تعطي الكثير من الاحتمالات.
○هل اللون هو من يأتي إليك أم تفكر باختياره؟
•لاشك أن اللون والرسم يتبع مشاعري في لحظة محددة.
○ماذا يعني لك حضور الشجر والطبيعة في بعض رسوماتك؟
•في هذا المعرض بالتحديد تشكّل الطبيعة راحة أو واحة بعيداً عن مشاكل مدينة بيروت المتراكمة. للشجر تحديداً فعل علاجي. أن نلتف حول شجرة ونضمها، فهذا له فعل السحر على النفس. حين نحضن الشجرة فهي تنقل لنا كبشر احساس الانتماء، وصلابة جذورها التي تشكل مصدر قوتها. نحن نحتاج للجذور لتعزيز انتمائنا لهذا الوطن.
○هل جرّبت الهجرة؟
•تركت لبنان لسنة وبضعة أشهر فقط إلى دبي. عدت لأن الحياة فيها لم تقنعني. أظن أن جذوري هي التي شدّت بي للعودة مجدداً. من يقرر الهجرة عليه بتر جذوره، وبغير ذلك سيبقى في إياب وذهاب.
○وماذا يشكل حضور المرأة في لوحاتك؟
•إنها برّ الأمان. إنها الملاذ الآمن.
○لماذا تركتها هلامية من دون تكوين واضح؟
•أترك للمشاهد أن يتخيل التكوين أو التعبير الذي يرتاح له. برأيي عندما نجسد في عمل فني بورتريه كاملا، فهذا سيغطي على كل ما عداه في اللوحة.
○ماذا عن خريطة المدينة التي ترغبها؟
•جسدتها في لوحة كبيرة. الأماكن التي تشبهني تتناقص في بيروت وتتبدّل. التغيير طبيعي، لكن إلى الأفضل والأجمل. في هذه اللوحة لم أدخل إلى المعالم المعروفة. زدت المساحات الخضراء ليكون للمدينة رئة.
○صبية وشاب مشهد لطيف في إحدى اللوحات. ماذا ينتظران؟
•إنها أغنية جميس بوند «skyfall». إثنان قابعان بسلام بانتظار أن «تخرب الدنيا من حولهما» وسيبقيان سوياً.
○لماذا أخترت الفن التجريدي؟
•امتلاك القدرة على التجريد تحتِّم معرفة أساسيات الأشياء والأشكال والزهور، وما إلى ذلك. وعندها يمكن تحويلها إلى شكل بسيط. أعتقد أن اللوحة الواقعية تمثّل تحدياً تقنياً، ولكن التجريد يمكن أن يكون أكثر تحدياً. من الممل أن نصل إلى جوهر الموضوع مع بعض ضربات للفرشاة فقط.
○ماذا عن الإلهام بالنسبة لك؟
•الإلهام حصيلة حياة نعيشها بعيون مفتوحة. كذلك أن نشعر بكل شيء من حولنا. قد يأتي الإلهام من أغنية، من مشهد، أو من قضية اجتماعية. فالفنان يمتص كل ما حوله تماماً كما الإسفنجة.
كادر: تقول صاحبة كاليري Art on 56th نهى مُحرّم: تطابقت أفكاري مع أفكار وسام بيضون، بأن يشكل المعرض في هذا المكان بالتحديد إنفجار ألوان زاهية بدل التفجير القاتل الذي أصاب المدينة والكاليري من ضمنها. ترك وسام للمشاهد فسحة تتيح له أن يتخيّل بيروت كما يرغبها. هو معرض يشكل نوعاً من الشفاء. أعدنا بناء الكاليري لمنح الأمل والشفاء، وللتأكيد بأن بيروت ما تزال حية ونابضة.