جاء استهداف سلمان رشدي، الكاتب البريطاني من أصل هندي، بالطعن ليضيف ألغازا عديدة لقضية شغلت بال الكثيرين على مدى ثلث قرن. ولا يبدو أن أيا من التفسيرات التي طرحت بعد صدور فتوى الإمام الخميني بحقه يحظى بأي نصيب من الواقعية والتحقق. فكما استمر اللغط حول الظروف التي صاحبت الهجوم الذي شنه رشدي على رسول الله في كتابه “أيات شيطانية” وردود الفعل الواسعة على ذلك، بقي الكاتب محميا من قبل الحكومات الغربية التي روجت كتابه بدعوى حماية حرية التعبير. وبرغم الحماس الإيراني في البداية لاستهداف حياته الا أن حكومة الرئيس الاسبق محمد خاتمي، أكدت انها لن تسعى لتنفيذ الفتوى المذكورة. ولذلك ثمة شكوك عميقة تلف حادثة استهداف رشدي وهو على خشبة المسرح في نيويورك، من وراءها؟ لماذا الآن؟ ومن المستفيد منها؟
على مدى العقود الثلاثة اللاحقة لم يتعرض رشدي لاستهداف من أية جهة، برغم أنه لم يتراجع لحظة عن آرائه ومواقفه، وتحدث كثيرا في المقابلات الصحافية بروح استعلائية لم تراع مشاعر المسلمين. وفي ما عدا اختبائه واتخاذه إجراءات وقائية لتفادي الخطر على حياته، فإنها لم تتأثر كثيرا، خصوصا بعد أن انتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة التي منحته حماية مشددة. بينما لقي العشرات مصرعهم في الاحتجاجات التي استمرت أسابيع بعد صدور الرواية، وحرقت نسخ من كتابه خلال احتجاجات في مدن بريطانية منها مانشستر وبرادفورد. ونظمت في لندن أكبر مظاهرة من قبل المسلمين شارك فيها عشرات الآلاف. كما هوجمت عدة مكتبات قامت بعرض الرواية؛ أما مترجمها إلى اليابانية فقد تم اغتياله، بينما تلقى زميله التركي، عزيز نيسين، تهديدات عنيفة. كان ذلك من وسائل ردع الاساءة إلى الأديان والمعتقدات، وإعادة تقنين حرية التعبير، وتأكيد حدودها التي تعارف العقلاء عليها.
وهنا تجدر الإشارة إلى عدد من الحقائق:
أولاها: أن صدور كتاب “الآيات الشيطانية” في العام 1988 كان صفعة موجهة للمسلمين لانه أساء إلى أهم شخصية لديهم. فرسول الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام يمثل الشخصية الأولى في الإسلام ويعتبر خاتم الأنبياء وعلى يديه نزل القرآن الكريم. ولذلك فهو يمثل الرمز الأول لوجودهم العقيدي وهويتهم كمسلمين. وما أكثر المفكرين الغربيين الموضوعيين الذين كتبوا بإيجاب عن تلك الشخصية. وما يثير الغضب إغماض العينين والعقل عن الحقائق والسعي للغمز واللمز ضمن السياقات القصصية والروايات المؤسسة على الخيال وليس الواقع. هنا يصبح كيل التهم جزافا، ويعطي للخيال دوره، بينما يتم تهميش العقل والبحث الرصين. ومن المرفوض أن يعتبر الخيال الموجه ضد الآخرين جانبا من حرية التعبير، لأن القانون يمنع إهانة الآخرين أو ازدراءهم او شتمهم او تشويه سمعتهم بدعوى حرية التعبير.
من المؤكد أن استهداف أي شخص بالأذى خارج القانون مرفوض لأنه يؤدي الى الفوضى والكراهية، وهذا لا ينسجم مع مستلزمات إقامة مجتمعات تنسجم مكوناتها البشرية والفكرية والعرقية
ثانيها: أن إعلان سلمان رشدي علنا ارتداده عن الإسلام لتبرير إصدار الرواية كان استفزازا للكثيرين. ومن المؤكد أن هناك الكثيرين ممن يرتد عن الإسلام لأسباب عديدة تتنوع ما بين تغير القناعة الشخصية او السعي لاسترضاء الآخرين او حدوث تغيرات فكرية ونفسية لدى الأشخاص. ولكن أغلب هؤلاء لا يستغل ذلك لشن الحملات على الإسلام والمسلمين، ولا ينطلق ليصبح رأس حربة في الحملات الإعلامية على دين الله وشخصياته المقدسة. خصوصا أن محمد بن عبد الله كان شخصية جامعة ونقل إلى العالم أطروحات إلهية تخاطب النوع الإنساني كله وتساوي بين البشر، وتعامل بالرأفة والرحمة حتى مع أعدائه، ولم يحارب الآخرين بسبب انتماءاتهم. وبرغم ما يردده الغربيون من مقولات بأن الإسلام انتشر بحد السيف، فإن شخصية الرسول لم تكن كذلك، ولذلك يسعى الآخرون لإلصاق التهم بالعنف بهدف منع انتشاره. ويعتبر استهداف رشدي شخصية الرسول خارجة عن المألوف خصوصا من شخص كان محسوبا على المسلمين قبل إعلان ارتداده.
ثالثها: أن إصدار الكتاب كان طعنة موجهة لخاصرة المسلمين، فانتفضوا ضده، وخرجت التظاهرات والاحتجاجات في بلدان كثيرة. وقتل العشرات في تلك الاحتجاجات خصوصا في الهند التي شعر مسلموها بفداحة ما فعله رشدي. واعتقل المئات. وبعد إصدار الإمام الخميني فتواه عن حكم المرتدّ عن الإسلام، قطعت بريطانيا علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية بعد صدور الكتاب والفتوى. الواضح أن رشدي لم يدفع إلا ثمنا نفسيا بينما كانت فاتورة المسلمين مكلفة جدا. وقد أكد رشدي نفسه ذلك في مقابلة مع “سي إن إن” 2019 قائلا: “انا متفاجئ أنني في حال جيدة”. وأصر على موقفه بدون أن يبدي أي نوع من الاعتذار وأضاف: “نعم، ربما كان العقد الأخير غير سار، ولكنها كانت معركة صحيحة، معركة حول أكثر الأمور التي أؤمن بها ضد تلك التي لست معجبا بها، وهي التعصب الأعمى والفاشية والرقابة، وعليه نعم خرجت من ذلك أوضح نوعا ما”.
رابعها: أن الدفاع الغربي عن سلمان رشدي مؤسس على مقولة “حرية التعبير”. ومن المؤكد أن هذه القيمة مقدسة في الإسلام بشكل ثابت وواضح، وقد أكدها الإمام علي بن طالب بشكل واضح. فبينما كان يخطب بمسجد الكوفة عندما كان خليفة، وقف إليه أحد الخوراج وقال: يا علي إني لا أثق بك ولا بعدالتك، ولا أصلي خلفك ولا طاعة لك في عنقي. فقال علي: لك كل ذلك إلا أن تعتدي على أحد. ويمكن القول أن الغربيين يمارسون سياسات متناقضة ويستخدمون مقولة “حرية التعبير” بشكل انتقائي. يؤكد ذلك أمور عديدة: الأول أنهم يعتبرون أن كل حرية شخصية يجب أن لا تؤثر على حقوق الآخرين. فالحرية تنتهي عندما تصطدم بتلك الحقوق والحدود. الثاني: أن الحرية مشروطة بأن لا تؤدي إلى توترات اجتماعية تؤثر سلبا على السلم والأمن المجتمعيين. والإعلام الحر محكوم بتلك الحدود، فلا يحق له أن يطرح ما يثير أية فئة او مجموعة. الثالث: أن غياب التوازن والاعتدال في الخطاب الغربي كثيرا ما أدى إلى توترات اجتماعية واختلافات وشعور بالغبن لدى قطاعات واسعة.
خامسها: أن العالم يعاني من تهميش الحريات العامة خصوصا حرية التعبير. فهل السجناء السياسيون في اغلب بلدان العالم إلا ضحايا التعبير عن مواقفهم وطرح مطالبهم السياسية بوضوح؟ هنا يتم استهداف السياسات الجائرة والقمعية التي تمارسها الأنظمة، ليس بأساليب الازدراء او استهداف عقائد الآخرين، بل طرح مناقشات عملية وسياسية بهدف تطوير الأداء السياسي واستعادة حقوق البشر المصادرة. إن سجون العالم تؤكد نفاق العالم الحر وتماهيه مع أنظمة الاستبداد والاحتلال خصوصا صمته إزاء سجناء الرأي الذين يضطهدون بسبب آرائهم او مواقفهم او تصريحاتهم. وتكفي تقارير منظمات الدفاع عن حرية التعبير مثل مؤشر الرقابة، ومنظمة المادة 19 ومنظمة القلم الدولية لتوضيح جانب من الموقف.
سادسها: أن الموقف الغربي الذي يتجاهل حق الجميع ومعتقداتهم في الحماية ساهم في توسع دائرة استهداف الأديان والمعتقدات. فحاءت أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول وإعادة نشرها من قبل “تشارلي هبيدو” الفرنسية وما نجم عن ذلك من اعتداءات أودت بحياة العشرات. فاستهداف المعتقدات يتحول إلى مشاعر ملتهبة تدفع البعض لتجاوز القانون والقيام بأعمال مخلة بالأمن وتتناقض مع روح الدين. ومن المؤكد أن استهداف أي شخص بالأذى خارج القانون مرفوض لأنه يؤدي الى الفوضى والكراهية، وهذا لا ينسجم مع مستلزمات إقامة مجتمعات تنسجم مكوناتها البشرية والفكرية والعرقية.
٭ كاتب بحريني
الدول الديمقراطية تقدس حرية إعتقاد وتعبير ولا يعتبر مخالفاً للقانون تصريح استفزازي أو حرق كتب أو نشر رسوم مسيئة الخ، وعلى عقلاء الأقليات الإسلامية فيها التصرف مع كل ذلك بهدوء ومنع منتسبيها من القيام بأعمال جنائية مثل إعتداء على أشخاص أو ممتلكات أو إشتباك مع عناصر حفظ الأمن العام فكل ذلك هدف للمستفز ليثبت همجية المسلمين، بل يجب إقتداء بمحمد (ص) حيث ناضل لحرية إعتقاد وتعبير وإقناع بالبرهان عبر 13 عاماً قبل إنشائه أول دولة مدنية بالعالم تتيح ذلك ولا إكراه بالدين ومن شاء فليكفر وجادلهم بالتي هي أحسن
” وقد أكدها الإمام علي بشكل واضح – حرية التعبير -.
فبينما كان يخطب بمسجد الكوفة عندما كان خليفة ، وقف
إليه أحد الخوارج وقال : يا علي إني لا أثق بك ولا بعدالتك،
ولا أصلي خلفك ولا طاعة لك في عنقي . فقال علي : لك
كل ذلك إلا أن تعتدي على أحد ” إهـ.
و من أدلة صون حرية التعبير في الإسلام عند أمير المؤمنين
علي أن رجلاً من الخوارج تطاول عليه و شتمه واصفاً إياه
بالكفر فوثب عليه أصحابه ليقتلوه فقال الإمام علي ” رويداً ، إنّما
هو سبّ بسبّ ، أو عفو عن ذنب” , و ذلك عملاً بقوله تعالى
” و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عاقبتم به و لئن صبرتم لهو
خير للصابرين ” .
إنه القرآن الناطق أمير المؤمنين علي عليه السلام و باب
مدينة علم النبي محمد و خير الخلق من بعده .