كلما رأيت على صفحات الميديا تغريدات وصور عن الإصدارات الجديدة لدور نشر عربية ومصرية أكون سعيدا، وأكون أسرع من يبدي إعجابه بالتغريدة، أو يقوم بمشاركتها وتكرارها، لكن يقفز إلى روحي سؤال.. أين يذهب هذا كله؟ أعرف أن هناك قراء يتوزعون بين الجدية والتسلية، وليس عندي مشكلة، فهذا وضع المستهلك في كل أنحاء الدنيا، لكن السؤال يأخذني إلى عشرات من الكتّاب والمفكرين العرب، الذين مرّوا على هذه البلاد وما زالوا يمرون، أرادوا لها التقدم والازدهار، بدءا من رفاعة الطهطاوي في مصر، إلى عصرنا الحاضر.
عشرات إن لم يكن مئات الأسماء العظيمة، التي أرادت لهذا الوطن أن يكون في المكان اللائق به.. وطنا للحريات والديمقراطية والتعليم والصناعة والزراعة، وكل مظاهر الجمال. بعضهم وجد عنتا وبعضهم وجد هجوما، وبعضهم وجد محاكمات، وبعضهم عرفتهم السجون ولم يتخلوا عن أفكارهم. الأمر نفسه حدث في العالم العربي من المغرب إلى الخليج، لكن الذي حولي يعني أن أحدا لم يمر على هذه الأوطان غير الحكام الذين أوصلونا إلى ما نحن فيه الآن. بينهم من حاول أن يبني وطنا حقيقيا، وأكثرهم حاول أن يبني وطنا، كما يفكر هو فقط، كأنما ليس حوله من يفكرون. وهكذا صرنا دولا تعاني من فقدان العدالة وفقدان الديمقراطية، ودولا تدخل حروبا لا معنى لها، ودولا تصاحب العدو الحقيقي للعرب، وأعني به إسرائيل، وتبشِّر بالرخاء المقبل، الذي بَشَّر به السادات.
الحنين يأخذني إلى ما قرأت يوما لرفاعة الطهطاوي والكواكبي وطه حسين وأحمد لطفي السيد وأحمد أمين وحسين فوزي ومحمد شفيق غربال وعثمان أمين ونصر حامد أبو زيد وحسن حنفي، وكثيرين جدا من المفكرين، ثم أنظر حولي فلا أجد صدى، فمظهر واحد مثل الانتخابات يدمر كل شيء. الانتخابات التي كانوا يعايرون الفترة الملكية بأنها تتم برشوة للناخبين، فيعطون الناخب عشرة قروش ورقية مقطوعة إلى قطعتين يسلمونه قطعة قبل أن يدخل إلى اللجنة ليدلي بصوته والقطعة الثانية بعد أن يخرج، انتهت بعد 1952، ولم تعد هناك حاجة لإعطاء الناخب قطعة نقدية، فالنتيجة توضع سلفا بنسبة 99% في الاستفتاء، وبنسب أقل في الانتخابات البرلمانية، فأصوات الغائبين توضع بدلا عنهم، وأصوات الموتى وصار الأمر مضحكا.
حدث تطور ما في بداية فترة السادات، لكن ما لبث أن عاد كل شيء إلى ما كان، وظهرت الأموال تُعطى علنا لمن يقومون بمظاهرات استقبال للسيد الرئيس، أو لأي ضيف أجنبي يمر بسيارة مع السيد الرئيس. استمر الأمر في زمن حسني مبارك وزاد، وظهرت قوافل البلطجية أيضا. ظهر الإخوان المسلمون واستخدموا الطريقة نفسها بإعطاء الناخبين الفقراء طعاما وأموالا تافهة، وصار الأمر كله مركزا على ما يفعله الإخوان كأنما الدولة لا تفعله. حدثت ثورة يناير/كانون الثاني وفي عاميها الأولين انتهت هذه الظاهرة، ثم عادت بكل أشكالها. وهكذا مثال واحد كأن أحدا من الكتّاب والمفكرين لم يمر على البلاد.
ليست الكتابات التي كانت تطلب وطنا يتمتع بالحرية، ومقاومة تابوهات التراث الديني والسياسي بعيدة عن رفض هذه الأشكال من التدخل في العمليات الانتخابية.. الوقوف عند القضايا الكبرى الخاصة بشكل الحكم والحياة يعني إدانة للمظاهر الصغيرة السيئة، حتي لو لم تتم الإشارة إلى ذلك في الدراسات الفلسفية والاجتماعية. تستطيع أن تنظر إلى مؤلفي الكتب المدرسية في التاريخ واللغة العربية والنصوص الأدبية، أيام الملكية وحتي نهاية الخمسينات ومؤلفوها بعد ذلك. كيف كان الطالب يرى اسماء شهيرة وكيف صار يرى اسماء لا يعرف عنها أحد شيئا، غير أنهم ربما يعملون في وزارة التعليم.
كيف تجد في إسرائيل مقالات ضد التطبيع مساندة للفلسطينيين، وكيف في عالمنا العربي لا تجد فرصة لذلك. ورغم ذلك سأظل سعيدا بما يُنشر من كتب رغم النهاية المتوقعة لها.
تحولت العملية التعليمية إلى حفظ فأغنت الكتب الخارجية الطلاب عن كتب المدرسة، التي لا يعرف أحد من هم مؤلفوها، وأصبح الامتحان لا يحتاج إلا شيئا من الحفظ. خلت كتب التعليم من أي حديث عن السينما ونجومها والمسرح ونجومه، إلا أحاديث قليلة عن بداية المسرح في مصر، وخلت من دراسات عن الأدباء المعاصرين وغير ذلك، فصارت منفصلة عن كل تطور. مؤكد تجد ذلك في الدراسات الجامعية لكني أتحدث عن المراحل الأولي للتعليم. وبعيدا عن التفاصيل فالسؤال ما هذه الحروب القائمة، وهذه العداوة بين دول عربية بعضها مع بعض؟ لقد انتهي عصر القومية العربية، الذي أطاح في مصر بكل الأبحاث والأفكار عن مصر المنفتحة على البحر المتوسط، والذي استُخدِم خطأ في ترسيخ الديكتاتورية، أكثر منه في فهم أن القومية لا تعني دولة واحدة، لكن تعني اعترافا بالاختلاف، وتعاونا في كل مجال وكل دولة حرة هي وشعبها في شكل نظام حكمها. كذلك انتهي تقريبا عصر الشعارات الإسلامية، وتوحيد الشعوب تحت راية القرآن، الذي فتك بفكرة القومية التي كما قلت فتكت من قبل بفكرة الخصوصية، ولم يتبق منه غير حروب بين السنة والشيعة، وبين الفصائل المختلفة، ولا اعتراف بالحرية في الاعتناق والاختيار، وأصبحت الكتب التي كتبها المفكرون في تجديد التراث الإسلامي شيئا ينتمي إلى الرفوف الخشبية في المكتبات إذا وجدت. إذا مددنا الحبل أكثر فقد كان الكفاح تحت الاستعمار البريطاني أو الفرنسي يعني نزوعا إلى الحرية، وبعــــد الاستقلال قامــــت النظــــم الجديدة عسكرية وغير عسكرية، بوضع حدود وقيود لا نهاية لها، أكثر مما كان يضعه الاستعمار. اختلفت بعض الدول في ذلك لكن في النهــــاية انتهي الأمـــر إلى حكم الفرد والقبضة الحديدية.
لن استطرد في مظاهر ذلك كله فهي أمام المواطن وسأعود إلى حالة الحزن التي تتملكني كلما وجدت خبرا عن كتاب جديد، وفرحة الناشر وفرحة المؤلف الذين لا أختلف عنهم في فرحتي بكتاب جديد لي، لكن هذا كله يعيدني إلى السؤال الأول أين ذهب كل ما كُتب من أجل أوطان أفضل. وأفضل لا تعني الاقتصاد فقط، لكن تعني الحريات. شيء آخر يقفز إلى ذهني وهو التآمر العالمي لقيام دولة مثل إسرائيل، وكيف ساندها كل من أقاموا المذابح لليهود في بلادهم، ويساندونها حتى الآن ربما تكفيرا عما ارتكبوه، وبلاشك لتمكين الخازوق في العالم العربي. هذا كلام معروف وإعادته كوميديا، لكن سؤالي هو كيف لا يدرك المطبعون أن أهمية إسرائيل بعد أن خوزقونا بها، تأخذها في العالم من كونها البلد الديمقراطي الوحيد في المنطقة. طبعا ديمقراطيتها لا تخص العرب في الضفة الغربية وغزة، فهي تفعل ما تشاء فيهم من قتل أو استيلاء على أراضيهم وبيوتهم إلخ، إلخ، لكن تخص سكانها. في النهاية هذه الصورة من الديمقراطية التي تجعلك ترى أعضاء في الكنيست من كل الأحزاب يمينية ويسارية وحتى من عرب 1948، تجعل العالم يقارن بينها وبين العالم العربي ويتضامن معها. السؤال هو لماذا لم يتأثر أو يأخذ المطبعون من إسرائيل هذه النزعة الديمقراطية؟ كيف تجد في إسرائيل مقالات ضد التطبيع مساندة للفلسطينيين، وكيف في عالمنا العربي لا تجد فرصة لذلك. ورغم ذلك سأظل سعيدا بما يُنشر من كتب رغم النهاية المتوقعة لها.
٭ روائي من مصر