تعد تجربة الروائية عائشة بنور من خلال عملها السردي الموسوم بـ«الزنجية» الصادر عن دار خيال للنشر والترجمة، ببرج بوعريريج ـ الجزائر 2020، إنجازاً فريداً من نوعه في مجال الكتابة الإبداعية، وخطوة حاسمة داخل المشهد الثقافي العربي، كون العمل يفتح نافذة جديدة، جعلتنا نطل على عوالم أخرى، رسمت لنا معاناة إنسانية من طابور مختلف، يتصل بالواقع الافريقي، أو القارة السمراء التي يشهد شعبها المغلوب انتهاكات بشرية، أخلت بضوابط المبادئ الأخلاقية والمعايير الاجتماعية، التي تصب في خانة حقوق الإنسان، ما أدخل هذه التجربة ضمن الأدب الافريقي الذي لا يزال تطاله أيادي التهميش داخل الخريطة الجغرافية الفكرية العربية سواء على مستوى الإبداع أو النقد، على الرغم من أنه يشكل حضورا لافتا للنظر على المستوى العالمي، نتيجة الإنجازات التي فرضت نفسها في الساحة الثقافية والأدبية شعرا ونثرا، إضافة إلى عدد من الجوائز المعتبرة التي حصدها أصحابها.
وكيفما كان الحال، يجرنا هذا الحديث السالف الذكر، إلى قضية بعينها بطلة الرواية «بلانكا» وهي تسرد أوجاعها وآلامها، في عالم جعلها تغوص في دهاليز العادات والتقاليد العمياء والصماء، التي سلبتها أغلى ما تملك كرامتها المهدورة، التي تحفظ لها وجودها كذات فاعلة تمنحها حريتها الإيجابية، نحو غايات تحمل في أحشائها المعاني الإنسانية السامية، لأن انشغال الفكر في دوائر الحق، يحيلنا هذا قطعا إلى قضايا الحرية والالتزام بمفهومهما الواسع، وتندرج ضمن هذا السياق ضمنيا قضايا العنف والشرعية والمشروعية والسلطة والاستبداد والديمقراطية وحقوق الإنسان بتعبير عز الدين الخطابي. وعلى أي حال، فإن هذه المطارحة، كما هو مجسد في عنوان المقال، يتكشف وجه المفارقة عندما تتجاوز الكينونة جدار العزلة والانطواء؛ لتبني صرحا عاليا يضمن لكلا الطرفين إقامة جسور التواصل في لغة إشارية وترميزية، من أجل الحفر والنبش في القضايا العالقة، وبطرق تخترق المعتاد والمألوف في معالجة الأوضاع الراهنة، ما يعني بشكل أو بآخر، أن الأزمة التي تواجهها اللغة المنطوقة أو المكتوبة، تعيش ظروفا بالغة التعقيد، من خلال العجز الذي يكتنفها، في ظل تطور الصراع الاجتماعي، ويتعلق الأمر، بالزنوجة عندما تصبح بؤرة للقمع والقسر، ويبرز هذا بجلاء، في الظروف المأساوية المنضوية، تحت سجن العنصرية والضيم، والعنف بشقيه الجسدي والجنسي كظاهرة ختان الفتيات، لكنه من زاوية مخالفة تكرس بصفة لصيقة مع لغة الجسد في سياق الحركات والإيحاءات والإيماءات، التي كانت بالنسبة للافريقي الدافع في إشعال فتيل المواجهة بطريقة غير مباشرة، وبلغة غير معلن عنها حرفيا، وتمثل هذا في الرقص لتجاوز الصدمة كمحصلة لعلاقات تاريخية «مرتبطة ببناء القوة» بتعبير بيير بورديو، ما يؤكد هذا الأمر، قول بطلة الرواية بلانكا «كل رقصة ترمز حركتها إلى الفرح والألم، كلاهما يسكننا إلى حدّ النخاع، نرقص ونرقص على أوجاعنا، التي لم تنته في الأمكنة نفسها» هذه الثيمة بالضبط والمتمثلة في موضوع الرقص، بما تحمله من خبايا وأسرار؛ هو ما حاولت الروائية التعرض إليه في عملها السردي، كبوابة تطرق من جرائها مساحة المسكوت عنه، لتأخذ بيدي القارئ إلى هذه البؤر المضيئة، ليقف على أعتابها، ويغوص في عمق جراح الأنثى الافريقية، وما تكابده من صعاب ومشاقّ محفوفة بأشدّ المخاطر.
يشكل الرقص النواة التي من خلالها نستنطق الأشياء بحمولته الرمزية المتدفقة على أمواج من المشاعر والأحاسيس والعواطف، التي من شأنها أن تفتح بابا من أبواب الحوار الذي يؤدي عدة وظائف، تكمن قيمتها في التواصل العقلاني المعبر في جوهرانيته بالاعتراف المتبادل بين الأنا والآخر.
وبناء على ذلك، فالرقص سلوك وتصرف إنساني، يعبر عن حالات نفسية متنوعة كالفرح والألم والحزن وغيرها، ويتشكل «من متواليات حركية وإيقاعية غير لفظية هادفة، ومنتظمة، تعتمد تلك المتواليات على إيقاع منتظم، وتتميز عن الأنشـطة الحركية العادية، وللرقص قيم جمالية وحمولة رمزية عميقة، من حيث الزمان والمكان والجهد ـ خلافًا للأنشطة البدنية المعتادة. فالرقص نشاط عضوي ووجداني معقد، مؤطر ثقافيا، ومُنمط اجتماعيا «بتعبير حسني إبراهيم عبد العظيم.
وتبعاً لذلك، يشكل الرقص النواة التي من خلالها نستنطق الأشياء بحمولته الرمزية المتدفقة على أمواج من المشاعر والأحاسيس والعواطف، التي من شأنها أن تفتح بابا من أبواب الحوار الذي يؤدي عدة وظائف، تكمن قيمتها في التواصل العقلاني المعبر في جوهرانيته بالاعتراف المتبادل بين الأنا والآخر، تقول الساردة على لسان الكاتبة الأمريكية الزنجية بيرل بريمياس «الرقص عند الافريقي هو حياته.. بالفعل كان يرقص وما زال وسيظل هو حياتنا التي نتشبث بها، ومن أجل الحياة الأفضل التي نحلم بها ونتوق إليها. كل شيء فينا يرقص، وكلنا يرقص، الأطفال والصبية والشباب والشيوخ، رجالا ونساء، في حركات ورعشات غريبة، نرقص على الطبول، والنفخ في الأبواق، ونصيح ونستصرخ على وجعنا».
وتكتسي أهمية هذه الصورة الحية في تحطيم المخيال المسكون بالتصورات العتيقة والبالية، إذ تحمل في ثناياها تلك الرغبة المصاحبة في توجهاتها إلى إلباس الفكر حلة جديدة كرؤيا للعالم، يحكمها منطق القيم الإنسانية المرجوة. ففي عالم يعج بإكراهات الواقع بشتى ألوانه، العنصرية والقهر والضياع والاستغلال الجسدي الذي فعل فعلته؛ جاء الجسد في محفليته كآلية للتعبير عن المواجع والمضايقات التي شكلت بالنسبة له عائقا أمام الاندماج الاجتماعي في أسلوب حركي راقص مشكلا علامة مميزة، كردة فعل نابعة من قوة باطنية تحقق له نوعا من الرضى والتوازن النفسي كمطلب للتغيير، بهدف الانتقال من بؤرة الصراع إلى ملامسة الخبرات الوجدانية، من خلال عقلنة العلاقات ضمن آليات انخراط الذوات في معالجة أمور المستقبل، بحيث يقودها إلى مراحل متقدمة كحالة من حالات العيش معا يمنحها القدرة على التكيف، وفضلا عن ذلك، تتأطر في خضم معادلة تأخذ بأيديها إلى أبعد الحدود، تقول عائشة بنور على لسان الشخصية الرئيسية بلانكا «في منطقتنا، نبتكر لحظة الدهشة في رقصات ملونة ومختلفة، وبطباع متنوعة كتلون بشرتنا السوداء، ولغة نحاكي بها وجعنا بارتعاشات الجسد الجنونية، نواجه بها بلادتنا وخوفنا، وأحيانا كثيرة نقاوم بها حتى جوعنا» فيأتي الرقص بكل أشكاله وأنواعه كمتنفس للذات المتطلعة، بحثا عن الراحة والسكينة في مواجهة المشاكل المطروحة على بساط الواقع المعيش، ليقف في اندفاعاته وهواجسه التي تسكنه ضد كل أشكال العنف المطروقة، بالتخلص من ضجيج الحياة اليومية وصدمة المستقبل.
كاتب جزائري