رمضان في السودان: قرن من الزمان ما بين الابري والحلو مر

نهلة مجذوب
حجم الخط
0

الحلو مر أو الابري، نكهة تتحدى الزمن على مائدة رمضان أو صينية الفطور السودانية، فهو المشروب الأساسي عليها منذ أكثر من 90 عاما أو ما يقارب قرن من الزمان. وحسب المؤرخين فقد صنعته الجدات المبتكرات واهتمت بتصنيعه السودانيات حتى يومنا في كل عام في البيوت وذلك من خلال طقوس قبل حلول شهر رمضان المعظم. وهو مشروب ينقع بالماء لساعات ويناسب الشهر الكريم والصيام، ويعمل من مواد بسيطة تشكل في مجملها حسب أطباء التغذية فائدة كبيرة لجسم الصائم، أهمها الشعور بالارتواء.
ولكن يأتي رمضان هذا العام ويصير هذا المشروب المتميز غائبا عن معظم الأسر، والكل داخل السودان وخارجه متعطش لهذا المذاق الفريد ولكنه يغيب لسببين، الأول لارتفاع تكلفة صنعه ونتيجة لسوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي أدت لزيادة وصلت الأسعار فيها لإضعاف ما كانت عليه العام الماضي ما لم يمكن كثير من الأسر من تجهيز الحلو مر. والثاني حلول جائحة كورونا حول العالم لما يقارب من الشهرين والتي قادت الناس لأخذ الكثير من التدابير والاحتياطات تجنبا للإصابة بالفيروس، بعدم الخروج وترك كل ما ليس مهما وعدم الاختلاط وغيره. هذا إلى جانب فرض الحظر في السودان على التنقل بين الولايات والحظر الكامل في العاصمة الخرطوم والذي حال دون وصول الحلو مر لمعظم سكانها من قبل أهلهم وأسرهم في الولايات المختلفة. وسكان العاصمة ينتظرون الحلو مر بفارغ الصبر من أقاربهم خارجها نسبة لغلاء تكلفة تصنيعه في الخرطوم واختلاف نمط الحياة فيها ما جعل النساء لا يفضلن عمله في المنازل، إذ أنه يحتاج براحا واسعا وأيدي عاملة عديدة ويشترط فيها حسب العادات والتقاليد السودانية لمة نساء، أي اجتماع النسوة في يوم عمله. وتسود تفاصيل عمله جلسات الشاي والقهوة وتقديم ما لذ وطاب للاتي يقمن بعملية التصنيع والتي تسمى العواسة، وذلك دون مقابل مادي .
غير أن الحال تغير في طقوس عواسة النساء للحلو مر رغم أنهن ما زلن يتمسكن بتواجده على المائدة الرمضانية كمشروب مهم لا يحل مكانه أي عصير آخر مهما كان .
وتقول نعمات محمد بائعة الابري في سوق ود نباوي الشهير في أم  درمان لـ”القدس العربي” إن “رمضان هذا العام يمر دون طعم الأعوام الماضية حزينا” بحد قولها، مبينة إنها حاولت بقدر الإمكان ورغم تدهور الأحوال الاقتصادية في البلاد وزيادة أسعار حبوب الذرة والتوابل والبهارات بجانب أزمة الوقود وعدم توفر غاز الطهي، أن تقوم بعمل الحلو مر لزبائنها الذين اعتادوا على تذوقه من صنيعها داخل وخارج البلاد منذ 35 عاما. وتضيف إن لديها كمية من الحلو مر تأتي بها صباحا أثناء ساعات فك الحظر المسموح بها للسوق، وجراء الخوف من كورونا وبقاء الناس في منازلهم تقل نسبة الطلب كثيرا هذا العام، مبينة أن سعر الجردل الذي فيه 12 لفافة وصل هذا العام 800 جنيه وهو مبلغ كبير جدا يصعب توفره لشراء الحلو مر فقط.

البهارات والتوابل

وفي السياق ذاته تقول ريا الأمين المتخصصة في صناعة الابري لـ”القدس العربي” إنها لأكثر من ثلاثين عاما تحرص على عمل الحلو مر في منزلها في منطقة قري شمالي الخرطوم بمعاونة بناتها وجاراتها خاصة أن لديها حلو مر من نوع مرغوب في أوساط معارفها. وتوضح “أقوم بجلب أي نوع من حبوب الذرة الجيدة وأقوم بغسلها ووضعها في جوالات خيش في عملية تسمى الزريعة، إلى أن تنبت وتزهر لثلاثة أيام أو أزيد في مكان مظلم بعيدا عن أشعة الشمس ومن ثم تجفيفها وطحنها”. وتضيف “بعدها مباشرة أقوم بجلب أنواع من البهارات والتوابل المسحونة ذات النكهة الطيبة والمذاق الشهي كالكسبرة والجنزبيل والقرنجال والحلبة مضافة إليها القليل من المنتجات السودانية المغذية والصحية كالكركدي والعرديب. بجانب قليل من التمر لتخفيف حموضة هذه المواد وإعطاء المشروب لونا داكنا وطعما لذيذا”.
وتضيف أن عملية خلط هذه المواد مع الدقيق تسمى الكوجيين، وهي تحتاج لنساء خبيرات لتذويب المواد مع بعضها حتى تصبح عجينة متماسكة تترك لساعات ومن ثم تحضر الصاجات وهي التي عليها تصنع رقائق الحلو مر وتعرف بالعواسة، وعلى نار ملتهبة يعجن الابري ويلف ساخنا في شكل قطعة مربعة أو مستطيلة ويترك ليجف يوما أو أكثر، ويحضر مشروبه وهو جاف” وتوضح ريا إنه “في السابق كنا نرى فرقا طفيفا في صنع الابري والحلو مر، رغم أن الإثنين هما شيء واحد وفي الغالب الفرق هو في طريقة شكل (الطرقة) أي اللفافة”. وقالت إن الحلو مر دائما يعطي مذاقا حلوا ومرا في آن واحد نسبة للمواد التي تدخل في تكوينه، لذا يضاف إليه قليل من السكر لمن يرغب. وأضافت أنه مشروب ورثناه من جداتنا وأثبتت لنا التجارب أن تناوله يحدث شعورا بالراحة للمعدة أثناء الفطور، والشبع إذا تناول في السحور، وليست له أي أضرار إلا إذا كانت البهارات المضافة إليه كثيرة ومبالغ فيها  .
الوليد بابكر يقول إنه لا يتوقع أن يصوم رمضان دون الحلو مر، أما مي مجذوب فتوضح إن كرتونة حلو مر أرسلت لها من أهلها في الجزيرة ولكن لن تصلها قريبا، وهي ترى أن شيئا ما يغيب في رمضان هذا العام.
لم يغب الحلو مر أو الابري هذه السنة على مي وغيرها فقط، فقد غاب عن السودانيين في الخارج بسبب جائحة كورونا التي أغلقت المطارات مع دول الجوار والعالم  كله، وكان السودانيون في الخليج وأوروبا وحتى أمريكا ينتظرون بشغف كبير طرد رمضان من أهلهم في السودان يأتي محملا بأهم شيء هو مشروب الحلو مر. وفي ظل سوء الأوضاع الاقتصادية يبدو الحلو مر عصيا على المائدة الرمضانية السودانية، وتغيب عنها أيضا بسبب كورونا، ولكن هذا المشروب العريق سيظل صامدا في وجه كل المتغيرات والظروف.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية