عملية تمثل النكبة في وعي الأجيال الجديدة لا يمكن أن يتأسس فقط على ذاكرة التاريخ أو عملية التأريخ، ولا سيما مع ما يكمن في التاريخ من تشوهات وتزييف. ولهذا، فإن النص الموازي، أي الأدب، يمكن أن يقدم منظورا آخر، انطلاقا من التاريخانية الجديدة.
ولا يمكن أن يتجلى ذلك إلا عبر الأدب أو الفن عامة بما في ذلك السينما، والرواية، والشعر، وغير ذلك. وتبقى الرواية جزءا من سردية الشعب الفلسطيني التي تأسست على وعي بالنكبة، وتكوينها لدى أجيال لم تختبرها فعلا إلا عبر عملية بناء ذهني وعاطفي وبصري، وهكذا تؤسس اللغة والصور ذاكرة النكبة، والوعي عبر عملية بناء مستمر.
ذاك أن الفرد الفلسطيني يعي ذاته من خلال صدمة أنه مقتلع من أرضه، وأنه يكمن في الطارئ من المكان والزمن، فيرتبط بمروية أسلافه، وفي الرواية الفلسطينية خاصة، والعربية عامة نقع على الزاد عينه من سردية النكبة التي عملت الرواية على تشييدها عبر جدلية الأرشيفي والمتخيل، وبينهما يكمن التاريخ.
وتتأسس النكبة عادة في الرواية الفلسطينية عبر قصص وحكايات أفراد كي تعمل بوصفها إحالة لوعي جمعي تتشاركه الذوات الفلسطينية، علما أنه، حين وقعت النكبة، سادت فترة صمت سردي في زمن كانت الرواية العربية في طور التكوين، في حين كان الشعر أكثر حضورا أو اتصالا بالأزمة، ومع ذلك، فإن الرواية سرعان ما برزت كي تمارس وظيفتها في حراسة الذاكرة الفلسطينية.
إدانة الخروج
تشكل روايات الآباء المؤسسين للرواية الفلسطينية جزءا من سردية النكبة، ونعني أعمال غسان كنفاني، وإميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، وإن اختلفت السمات والرؤى.
فرواية كنفاني «عائد إلى حيفا» 1969 تعنى بمعالجة أثر النكبة، ومعنى الالتزام بقضية، مع سرد مختزل لواقعة التهجير، ومن ثم الانتقال للعودة التي تحتمل شكلا من قيم الوعي بالقضية، فيما تعنى رواية «رجال في الشمس» 1963 الأسبق زمنيا بمقولة راديكالية تجاه الخروج.
ولعل هذا النمط من التشكيل السردي الذي دشنه كنفاني يمثل علامة من علامات تمثيل النكبة في الرواية الفلسطينية، وفي مقابل ذلك تستند مروية النكبة إلى منظور مغاير، فالإدانة للخروج، تقابلها رواية «المتشائل» لأميل حبيبي التي تنهض على صدمة الارتطام مع النكبة ضمن وعي مغرق بالسوداوية، وتمكين النمط المغاير متمثلا برفض الخروج، والإصرار على العودة، وفي مشهدية أخرى لرواية جبرا إبراهيم جبرا بعنوان «صيادون في شارع ضيق» 1960 ومن ثم «البحث عن وليد مسعود» نقع على وعي المهاجر الفلسطيني الذي عانى من تبعات النكبة لتشكل رؤية متقدمة تتمحور حول الذات أو الشخصية الفلسطينية البرجوازية، ولكن ما يجمع بين تلك الأعمال إصرارها على إدانة الخروج، والتأكيد على العودة.
تبقى الرواية الفلسطينية إحدى الأدوات المهمة في تمكين سردية النكبة
تمثل تلك الروايات جزءا من سردية الشتات الفلسطيني، لننتقل لاحقا إلى أعمال أكثر استقرارا في توصيف النكبة تخييلا، ولنصبح حيال مقاربات أكثر تأملا في ابتكار رؤى جديدة، وأهمها بناء التمكين المشهدي لرحلة الخروج والفظاعات التي ارتكبت.
وهنا أميل إلى اتباع لا تقسيم زمني، إنما تقسيم ثيمي لهذه المرحلة من خلال الملامح العامة لهذا النمط من الرواية ومنها: «وداعا يا زكرين» 2016 لرشاد أبو شاور التي سعت إلى توصيف فعل الخروج المعاين من وعي الراوي الشاهد، ونقله إلى مستوى تخييلي، كما نراه أيضا في رواية رضوى عاشور «الطنطورية» 2010 ، وإلى حد ما في رواية «باب الشمس» 1998 لإلياس خوري.
ثمة بين هذه الأعمال انشغال برسم ملامح التكوين القائم على فعل الشهادة للحظة الاقتلاع، وتمثيل أحداث تتصل بالمجازر، وما كمن فيها من صدمة، وتصدع المكان، أو غيابه، مع بدء الاستعانة بالذاكرة شيئا فشيئا لاستعادة المكان، وهي رواية مسكونة بشيء كبير من الخسارة والأسى، ويمكن أن نضيف للنسق عينه رواية أخرى للكاتب اللبناني إلياس خوري بعنوان «أولاد الغيتو».
في النسق عينه تمتلك رواية الكاتب وليد سيف «التغريبة الفلسطينية» جزءا من مدونة النكبة الفلسطينية التي تقدم صورة واسعة أو شاملة لوعي الخروج، وما يكمن بعد ذلك من تداعيات تروي حكاية الأسرة الفلسطينية لتختزل وعيا جمعيا متقدما، وهي في هذا تتوافق إلى حد ما مع منظور رضوى عاشور التي امتدت في مرويتها لما بعد النكبة بالتوازي مع قراءة التداعيات التي واكبت الذات الفلسطينية المعطوبة، ومعنى تكوّن حلم العودة.
وفي الإطار عينه تطالعنا رواية الكاتبة الفلسطينية سوزان أبو الهوى «بينما ينام العالم» لتكون جزءا من المحاولة عينها في قراءة وعي الخروج ونواتجه، مع تقديم بعد تأملي واضح تكاد تتشاركه بعض الروايات التي تمثل هذا التشكيل السردي.
الواقع والتاريخ
قراءة وقائع النكبة الفلسطينية في مرآة الرواية العربية ينبغي أن يتجاوز مقولة الانعكاس الذي سوف يسيء للذكاء السردي الفلسطيني، فليست غاية الرواية أن تكون فقط مرآة للحدث، إنما أن تضيف إليه. ولهذا فإن التفكير بنمط سردي آخر لمعاينة النكبة كان جزءا من هاجس الروائيين الفلسطينيين، ومنهم إبراهيم نصر الله الذي أخذ على عاتقه تشكيل الملهاة الفلسطينية ضمن مشروع سردي كبير. سعى هذا الكاتب لأن يتحرك بين أزمنة متعددة للوجود الفلسطيني قبل النكبة، وما بعدها، وأن يتوقف عند رصد قيم اللجوء والشتات، وحياة المخيمات في صيغة تشابه عمل كل من رشاد أبو شاور وإلياس خوري – إلى حد ما – مع تقديم مروية ناقدة للتاريخ الذي واكب النكبة في رواية «زمن الخيول البيضاء» ضمن سرد ممتد متصل بتفاصيل متعددة.
وفي مقابل ذلك، ثمة رواية أخرى للكاتب جمال ناجي بعنوان «غريب النهر» التي تختزل وقائع النكبة في مروية عائلة، وتتمحور حول شخصية الغريب التي تحتمل قراءة أثر النكبة عبر الاقتلاع والتهجير في سرد تخييلي متقن، وقادر على أن يبقى في وعي القارئ ويكمن فيه، نتيجة عمق الشخصيات وحيوية تكوينها.
ولا يمكن أن ننظر إلى الرواية التي عنيت بالنكبة على أنها حدث يحتمل معنى السرد الشاهد، وتداعياتها المباشرة من تهجير، إنما أوجدت النكبة أيضا منظومة تشتغل بتمثيل تداعياتها الطويلة الأمد، وأعني بالتحديد الرواية التي عبّر من خلالها الفلسطينيون عن مفردات تمثل الاقتلاع والنفي، ومن ثم الشتات، فأصبحت لدينا رواية الشتات الفلسطيني أو المنفى – كما يفضل البعض – وهي رواية تتقاطع مع مستوى تصور الارتطام مع المكان الطارئ، وبناء قيم التكيف، وتشظي الشتات مما يتطلب خلخلة البناء السردي، وتمكين وعي أجيال لم تولد أو تعرف فلسطين عبر متخيل ينهض على توريث المروية. هذه ثيمة تكاد تحضر تقريبا في معظم الروايات الفلسطينية، غير أنني أرى أن رواية «قبل أن تنام الملكة» لحزامة حبايب التي تشكل مثالا متقدما كونها عنيت بالشتات المركب لعائلة فلسطينية في الكويت، إذ تعاني مرة أخرى من الاقتلاع من وطن وطنت الذات الفلسطينية على أن ترى فيه مستقرا.
ثيمة المقاومة جزء لا ينبغي التخلي عنه مع أهمية تفعيل رؤى تكريس الحق الفلسطيني
سردية فلسطينية دينامية
وهكذا فإننا بإزاء خطاب يتعلق بالنكبة لا يتوقف عن إنتاج أبعاد جديدة تبعا للسياقات، فالنكبة لا تقتصر على ما حصل في عام 1948 إنما تختبر ذلك، وعلى الرواية أن تحيط بهذا ضمن ما يمكن أن ننعته ببناء سردية فلسطينية دينامية، ويمكن أن نحيل بهذا الأثر على رواية السجون، أو أدب السجون، وهي صيغة تتصل بالنكبة بصورة أو بأخرى، إذ نلمح رغبة الأسرى الفلسطينيين بكسر قيود الأسر عبر بناء فضاء لا يمكن للسجون أن تمنعه، أو تقيده، وأعني اللغة، ولا يمكن في هذا المجال أن أذكر جميع الروايات التي صدرت من لدن الأسرى أو تلك التي كتبت في السجون، ولكني أعيد تعريف هذه الرواية التي أرى أنها لا تقتصر على الأدب الذي يعالج الأسر أو ثيمة السجن، وإنما هي الرواية التي تخلقت داخل السجن، ولكنها عبّرت عما يكمن وراءه، أو خارجه، وفي هذا الصدد نشير إلى رواية الأسير الفلسطيني باسم خندقجي «قناع بلون السماء» التي حصلت مؤخرا على جائزة البوكر.
البعد الآخر
تبقى الرواية الفلسطينية إحدى الأدوات المهمة في تمكين سردية النكبة، ولعلها ينبغي أن تنهض بالدور الأكبر كونها معنية بالحكاية أو القصة. فالمدونة الشعرية الفلسطينية في تشكلها تجاه تمثيل القضية الفلسطينية، تمكنت من وضع علامات واضحة فيما الرواية الفلسطينية تمكنت من خلق علامات لوقائع النكبة على مستوى التخييل.
غير أنني أرى أنها ينبغي أن تعيد موضعة الأسئلة التي تتعلق بالنكبة، ومجمل المسألة الفلسطينية على مستوى التخييل، للخشية من أن تبقى المدونة الفلسطينية تجتر المفردات عينها، مما يخرجها من دائرة إثارة الانتباه، فتسقط اللغة في حكم المنجز، والتكرار، مع ضمور في ابتكار مقاربات تخييلية.
ولهذا عليها أن تبحث عن رؤى فنية، وقضايا أخرى غير مسبوقة. وفي ظني أن الرواية الفلسطينية، ولا سيما المعنية بالنكبة ما زالت واقعة في فخ التمثيل لزمن التهجير، واستعادة المكان، فالنكبة لا تختزل بمكان مهدور أو ضائع، أو زمن نقي لم يلوث بالاحتلال، ولا بمحاولة تأصيل تاريخ يؤسس للوجود الذي سعت السردية الصهيونية إلى نفيه، إنما هي أكبر، وأكثر تنوعا من هذه المداخل.
ما زالت ثيمة المقاومة جزءا لا ينبغي التخلي عنه، مع أهمية تفعيل رؤى تسعى إلى تكريس الحق الفلسطيني تاريخيا، ومخاطبة الوعي العربي والعالمي من خلال حبكات سردية، ومحمولات ثقافية وحضارية تقوّض السردية الصهيونية التي بدأت مع الحرب الأخيرة تفقد الكثير من صلابتها، وبناء عليه، يجب أن نستغل هذه اللحظة الزمنية كي نطور الخطاب الروائي الفلسطيني أو المعني بالقضية الفلسطينية ضمن هذا الإطار أو المنظور.