رواية «أحاسيس مجروحة» للداغستانية أليسا جانييفا: هجاء لاذع للواقع الروسي

لم يكن من المفترض أن تولد أليسا جانييفا في موسكو، لأنها ولدت قبل الأوان لوالدين يعملان باحثين علميين في أكاديمية العلوم السوفييتية، وينحدران من جمهورية داغستان في أقصى جنوب الاتحاد الروسي. كانت والدتها تخطط للعودة إلى مسقط رأسها، مدينة غونيب الجبلية، لكن رحلتها لم تتم بسبب ولادة أليسا غير المتوقعة. أطلق عليها والداها – وهما من عشاق الأدب ـ اسما مشابها لاسم الشخصية الرئيسية في رواية «أليس في بلاد العجائب» للكاتب الإنكليزي لويس كارول. انتقلت أليسا مع عائلتها إلى داغستان، وعاشت في بلدة غونيب، ثم محج قلعة، عاصمة داغستان، حيث التحقت بالمدرسة قبل أن تنتقل إلى موسكو في عام 2002 للدراسة في معهد غوركي للأدب العالمي. عملت بعد تخرجها ناقدة أدبية ومشرفة على الملحق الأدبي لصحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» ومقدمة برامج تلفزيونية، وإذاعية، قبل أن تفاجئ الأوساط الأدبية الروسية بأعمالها السردية. وهي اليوم واحدة من أكثر الكتّاب الشباب الواعدين في روسيا، وقد فازت بالعديد من الجوائز الأدبية المرموقة في روسيا.
ركزت جانييفا في أعمالها الروائية الثلاثة الأولى على وطنها، ونشرت الأول لها بعنوان «سلام، يا دالجات» عام 2009 عندما كانت في الخامسة والعشرين من عمرها تحت اسم مستعار لكاتب وليس كاتبة، وهو جولا خيراتشيف، ولم يتم الكشف عن هويتها إلا في حفل توزيع الجوائز. تدور أحداث الرواية في أماكن مختلفة من القوقاز. وتصف الحياة اليومية لشباب داغستان في المدن، وعلاقاتهم الصعبة مع الإسلام، الدين التقليدي للشعب الداغستاني، وتدهور الحياة التقليدية. ولم ترغب الكاتبة في الكشف عن اسمها الحقيقي، لأن نظرتها إلى القضايا التي أثارتها الرواية لم تكن مقبولة في بلادها. وكان يُنظر إليها على أنها نشر للغسيل القذر، وافتقار إلى الروح الوطنية، خاصة بعد أن قامت بحملة ضد ختان البنات في داغستان.
وفي السنوات القليلة اللاحقة نشرت روايتين باسمها الحقيقي، حظيتا بنجاح نقدي مماثل وهما، «جبل الأعياد»(2012) و»العريس والعروس» (2015) اللتان تعكسان الصراعات التي واجهتها في الحياة كعضو في مجتمع الأقلية، وسط التوترات الاجتماعية والسياسية المتزايدة، والتطرف الديني، والتنميط العرقي.. في يونيو/حزيران 2015 قالت صحيفة «الغارديان» البريطانية إن جانييفا واحدة من أكثر الشباب موهبة وتأثيراً، الذين يعيشون في موسكو. وفي يوليو/تموز 2020 أدرجت الصحيفة ذاتها، رواية «جبل الأعياد «- التي ترجمت إلى الإنكليزية تحت عنوان «الجبل والجدار» – في قائمتها لأفضل عشر روايات تدور أحداثها في روسيا.

مجتمع الأقلية

كانت القوقاز بما فيها داغستان ذات جاذبية هائلة لكبار الشعراء والكتّاب الروس، كتب ليف تولستوي عدة أعمال سردية عن القوقاز، لعل أهمها رواية «الحاج مراد» التي تتميز بعمق وجمال تصويرها الواقعي، لأحداث حرب القوقاز في أوائل الخمسينيات من القرن التاسع عشر. كل من يقرأ هذا العمل ينبهر بقوة الصورة البطولية للحاج مراد، حيث تظهر حياته الصعبة على خلفية وصف عادات وتقاليد وأعراف سكان داغستان وأغانيهم الرائعة عن البطولة، والشجاعة، والإخلاص للأسرة والوطن، وحب الحرية. غالبا ما يرتبط القوقاز كإطار أدبي بالرومانسية الروسية. وتعدُّ رواية ميخائيل ليرمنتوف «بطل زماننا» (1840) – التي يجد بطلها البايروني نفسه متمركزا في القوقاز مثل مؤلفه – نصا أساسيا للتقاليد الروائية الروسية. يسلط هذا العمل الضوء على الطريقة التي كتب بها العديد من المؤلفين الروس عن القوقاز: دافئة وخصبة ورومانسية ومليئة بالمغامرة، على النقيض من سيبيريا المتجمدة. جانييفا تتحدى الهيمنة الروسية في الكتابة عن القوقاز، التي تعبّر عن وجهة نظر الغرباء الزائرين لداغستان، وتكتب عن الحياة في بلدها باللغة الروسية، وتغير الطريقة التي تم بها تمثيل داغستان في الأدب الروسي.

الواقع الروسي في رواية «أحاسيس مجروحة»

مع هذه الرواية الصادرة عام 2018، تتجاوز جانييفا البيئة الداغستانية، وموضوعات كتاباتها السابقة لمعالجة مواضيع معاصرة مثل، القومية والتدين الأرثوذكسي والجنس والفساد السياسي. وهي تعالج هذه القضايا المهمة بلمسة خفيفة، وفي بعض الأحيان بروح الدعابة. يمكن قراءة هذه الرواية المسلية والمحفزة للتفكير في الوقت ذاته على أنها قصة رمزية للمناخ السياسي والاجتماعي والديني والثقافي الحالي في روسيا اليوم. تشير جانييفا في «أحاسيس مجروحة «إلى أن الحياة الروسية المعاصرة هي نوع من إعادة المزج لأسوأ اتجاهات ماضي روسيا الإمبراطوري والسوفييتي. وأصبح أي انتقاد لماضي روسيا الشيوعي أو للنظام القائم مخالفة، يتم التعامل معها بقسوة. هذه الرواية قد تبدو ظاهرياً كرواية بوليسية، لكنها في جوهرها هجاء لاذع للحياة في روسيا البوتينية.

اليسا في احدى تظاهرات الاحتجاج

تدور أحداث الرواية في مدينة روسية إقليمية – لم يذكر اسمها – تعيش تحت وطأة الفساد المالي والأخلاقي وسوء الخدمات. في بداية الرواية نلتقي نيكولاي الذي يعمل في شركة إنشاءات ناجحة للغاية، ويرجع ذلك أساسا إلى أن رئيستها مارينا سيميونوفا، على علاقة غرامية مع أندريه إيفانوفيتش ليامزين وزير التنمية الاقتصادية الإقليمي. في يوم معتم، غزير المطر يقود نيكولاي سيارته راجعاً إلى منزله، وخلال توقفه عند إشارات المرور يتشبث بسيارته رجل بدا كأنه مخمور، متوسلا السماح له بالصعود. يحاول نيكولاي تجاهله، لكن عندما رمى الرجل عددا كبيرا من الأوراق النقدية من فئة (500) روبل عبر نافذة السيارة، أصبح من الواضح أنه لن يتزحزح من مكانه. يأخذه نيكولاي والضباب الكثيف يحجب الرؤية. يفشل نيكولاي في رؤية حفرة عميقة وتقع سيارته فيها. يخرج للدفع ويفتح الباب لراكبه ليساعده.

الأرملة الحزينة إيلا سيرجيفنا، تعرف جيدا خيانة زوجها، وهي مديرة مدرسة غير نزيهة، ولديها العديد من المعلمين في كشوف الرواتب، وجميعهم فازوا بجوائز، لكنهم في الواقع غير موجودين.

الرجل يسقط، على ما يبدو ميتا. يعرف نيكولاي أنه إذا اتصل بالشرطة فسيتم إلقاء اللوم عليه، لذا يلقي بالجثة في حفرة عميقة في حالة من الذعر بمجرد أن يدرك أن الرجل قد مات فعلاً ويهرب. يتوقف لشرب فنجان من القهوة في أحد المقاهي، ويرى على شاشة التلفزيون أندريه إيفانوفيتش ليامزين، الوزير الإقليمي للتنمية الاقتصادية، وهو يدلي بتصريح. يتعرف على الرجل. إنه صاحب الجثة التي ألقاها للتو. وفي اليوم التالي وجد، ورقة ملصقة على الزجاج الأمامي لسيارته كتب عليها كلمة، «قاتل!». وظل حائراً مضطرباً، يسأل نفسه: يا ترى من دس هذه الورقة؟ كان الرجل الميت قد تلقى خلال الأشهر الأخيرة من حياته تهديدات مجهولة. وتعرضت أرملته، إيلا سيرجيفنا، ونائبته، ناتاليا بتروفنا، للمضايقة أيضا. وفي الرواية، بالإضافة إلى مارينا سيميونوفا، المشتبهة في قتل عشيقها، مجموعة من الشخصيات المثيرة للاهتمام: كابوستين، المدعي العام الذي يريد نصيبه من أموال مارينا سيميونوفا غير المشروعة وجسدها. الأرملة الحزينة إيلا سيرجيفنا، تعرف جيدا خيانة زوجها، وهي مديرة مدرسة غير نزيهة، ولديها العديد من المعلمين في كشوف الرواتب، وجميعهم فازوا بجوائز، لكنهم في الواقع غير موجودين. هي والمحاسبة تتقاسمان العائدات. ومع ذلك، تصل الشرطة ليس بسبب ذلك، بل لأن سوباخين معلم التاريخ، قام بموافقتها، بوضع مسرحية مدرسية شوهت سمعة الجندي الروسي ضمناً عندما زعمت أن الألمان، في الحرب العالمية الثانية، هزموا بسبب البرد ولأنهم كانوا أقل عددا. نائبة الوزير الميت، ناتاليا بتروفنا، تعمل بعد وفاته ممثلة، لكن سرعان ما يتداول الناس شريط فيديو لفجورها، وهو الأمر الذي يعيق تقدمها في مسيرتها المهنية. ولينوشكا، سكرتيرة الرجل الميت، التي تواظب على حضور»دروس اصطياد الرجال» ويتم تقديمها على أنها فاتنة من العصر الجديد «تخرج في الصيف للتنزه دون ملابسها الداخلية لكي ترتفع القوى الأرضية الأنثوية وتنغمس في كيانها من خلال الشاكرات السفلية». والشاكرات هي مراكز الطاقة في النصوص الهندوسية. الشخصيات الأخرى في الرواية تتصرف بشكل سيئ أيضا، من الخادمة التي تسرق من عشيقها إلى عاملة المصعد التي تتجاهل الخادمة نفسها عندما تكون عالقة في مصعد.

الحياة الروسية

عادة ما تكون المدينة في حالة سيئة.. القمامة متناثرة في كل مكان، لا شيء يعمل، لكن فجأة يتم تنظيفها بالكامل، يتم نقل المرضى من المستشفيات واستبدالهم بموظفين أصحاء من أعضاء الحزب، الذين يتظاهرون بالمرض ويشيدون بجودة الرعاية، والسبب هو زيارة مسؤول كبير، يعرف فقط باسم الضيف. ترى غانييفا أن الفساد على جميع المستويات هو المبدأ المنظم للحياة الروسية. كما تشرح إحدى الشخصيات بشكل ملائم لشخص آخر: «إذا اتفق الملايين من الأشخاص في البلاد دفعة واحدة على عدم تقديم أو قبول رشاوى، وعدم سحب الأموال من الميزانية، وعدم محاولة محاباة أقاربهم وأصدقائهم، فعندئذ ستكون لديك سيادة القانون، لكن طالما أن شخصا واحدا يأخذ نصيبه، فمن مصلحة أي شخص آخر أن يفعل الشيء نفسه». تشجع الشخصية عشيقة الوزير المتوفى على عدم الحكم على نفسها بقسوة: «عليكِ التحدث من وجهة نظر نفعية، إذا كانت الأمور تسير على ما يرام بالنسبة لكِ، فهذا يعني أنكِ على حق أيضا. الغاية تبرر الوسيلة». يبدو أن هذه العبارات تلخص وجهة نظر أغلب شخصيات الرواية، تأتي المفارقة هنا من حقيقة أن من يقول هذا هو كاهن أرثوذكسي.

بدو أن جانييفا تسعد بفضح نفاق الطبقات الحاكمة. ففي رواياتها الثلاث السابقة لم تتورع عن انتقاد السياسة المحلية الداغستانية، ومظاهر الفساد والنزعة القومية المتشددة، والسلطة المتزايدة للأصوليين الدينيين.

يشير عنوان الرواية إلى قانون صدر عام 2013 يمكن بموجبه توجيه تهم جنائية ضد أولئك الذين يرتكبون أعمالا عامة تعتبر مسيئة للمؤمنين بالدين. إليوشينكو، المعروف بمعتقداته «المسكونية» يجد نفسه في وقت لاحق قيد التحقيق لادعائه على الإنترنت أن جميع المؤمنين المسيحيين متحدون في إيمانهم بالمسيح ـ وهو بيان حقيقة يهدد مع ذلك بتقويض قوة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. مثل كل الناس، يتفاجأ إليوشينكو الذي خدم في جهاز مكافحة الإرهاب، كيف أن هذا الجهاز انقلب ضده: «لماذا هذا الاهتمام بالأمن، هذا التركيز على أعداء غير مرئيين كما في الأيام الخوالي؟ إنهم خائفون من الأشباح، لكنهم يقومون بترويع الناس الحقيقيين، والمواطنين من أمثالي! إنهم يرعبونني شخصيا». شخصية أخرى، بالقرب من نهاية الرواية، تتذكّر «حكاية مروعة» سمعتها عن المجاعة الكبرى، التي حدثت في أوكرانيا خلال عامي 1932-1933 عندما كانت جزءا من الإتحاد السوفييتي، وأودت بحياة حوالي ثلاثة ملايين أوكراني. مع عودة «الأيام الخوالي» يتم التستر على جرائم العهد الستاليني، واعتبارها مجرد أكاذيب ملفقة . إذا كانت «أحاسيس مجروحة» تركز على روسيا، فإن من المستحيل عدم ملاحظة ظهور اتجاهات مماثلة في صفوف اليمين الأمريكي: أصولية دينية تهدف إلى الحد من حقوق الإنسان بما فيها الاستقلال الجسدي، وقومية متجددة مستعدة لتطهير البلاد من خلال العنف والقمع. وإعادة كتابة الماضي على نحو تتضمن معلومات مضللة وأخباراً مزيفة. هذا يعني أن «أحاسيس مجروحة» لا تتعلق فقط بروسيا، وإنما أيضا بالقوى التي تسمح للسلطوية بشكل عام بالازدهار».

الطبقات الحاكمة

يبدو أن جانييفا تسعد بفضح نفاق الطبقات الحاكمة. ففي رواياتها الثلاث السابقة لم تتورع عن انتقاد السياسة المحلية الداغستانية، ومظاهر الفساد والنزعة القومية المتشددة، والسلطة المتزايدة للأصوليين الدينيين. في تلك الأعمال، بدت رؤية جانييفا للحياة في داغستان جديدة ومقنعة، لأنها كانت وجهة نظر كاتبة داغستانية عن الحياة في بلادها. وفي «أحاسيس مجروحة» ترسم لوحة اجتماعية لروسيا المعاصرة، تتضمن مقاطع ساخرة تؤكد عبثية الرقابة وفتور الفن الذي تم اختزاله إلى بروباغندا على النمط البلشفي. وبعد قراءة الرواية وإغلاق الصفحة الأخيرة، يدرك القارئ أن الفساد شر جانبي تماما، فهو مجرد نتيجة لعدم المساواة واستئثار الأوليغارشية الروسية بالسلطة والنفوذ والمال. في رواية جانييفا جميع شخصيات الرواية فاسدة وحتى الضحايا الذين يدون أبرياء ومنهم، لينوتشكا ونيكولاي، ملوثون وسعداء بالاستفادة من الفساد عندما يكونون في وضع يسمح لهم بذلك.
رواية جانييفا ـ شأنها في ذلك شأن الأدب الحقيقي – تثير أسئلة جادة، ولا تقدم أي حلول للقضايا المطروحة، وإنما تحاول رسم لوحة مكبرة للأوضاع الراهنة في روسيا بأسلوب ساخر. لدى البعض فكرة ساذجة، وغير منطقية هي ضرورة وجود علاقة حب في الرواية. في كتاب جانييفا ثمة أكثر من علاقة بين رجل وامرأة، تبدو رومانسية، لكنها ليست علاقة حب حقيقي، بل هي قناع بسيط ومتسخ للغاية للعمليات الاقتصادية والفسيولوجية وحتى البوليسية». (الحب) كصفقة معروف جيدا في الحياة والأدب. لكن وصف عضة القبلة، التي لا تفصلها أي فواصل عن مضغ الطعام اللذيذ، وحتى مصحوبة بمحادثة لطيفة حول أساليب التعذيب، أمر صادم. ما تزال هناك صدمة أخرى في الفصل الأخير من الرواية، حيث يتحول مشهد ممارسة الحب فجأة إلى مشهد استجواب: «أريدك…أريد أن أقتص منك».

عنوان الكتاب دقيق للغاية (نحن نواجه أشخاصاً مصابين بأضرار نفسية أو معنوية مختلفة بسبب الواقع المحيط، أو مجروحين بسبب طفولة مروعة أو الشعور بالوحدة أو الاقتراب من الشيخوخة الكئيبة، لكنهم يؤذون الآخرين – أحيانا بلا تفكير، وأحيانا بسرور. «أحاسيس مجروحة» رواية كان الأدب الروسي المعاصر يفتقر إليها بشدة، لأن الأدب التجاري – المطعم بالبهارات الإيروتيكية ووصف النوازع البشرية الشاذة، المهيمن على سوق الكتب في روسيا اليوم – يخشى الحديث عما هو مهم، وما يشغل بال المثقفين الروس. وهذا على الأرجح هو الذي جعل كاتبة داغستانية شابة محل اهتمام الأوساط الأدبية ليس في روسيا وحسب، وإنما في الولايات المتحدة وأوروبا وبعض الدول الآسيوية أيضاَ. فقد تمت ترجمة أعمالها السردية إلى أهم اللغات العالمية، إضافة إلى اللغات التركية والكاتالونية والكورية والبنغالية.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية