(الطموح، وأحلام الشباب، والهجرة) هي ما يناقشه الروائيُّ السوريُّ عبد الحكيم شباط في روايته «أيزات» التي صدرت مؤخرا عن دار الدليل للنشر في برلين. وصدر للكاتب عدةُ أعمال روائية منها: «حكايات شرقية من برلين» و«شارع بودين» التي تشترك مع رواية «أيزات» في معالجة تأثير بعض العادات والتقاليد في إعاقة الكثيرين من البسطاء عن تحقيق أحلامهم، خصوصا في المجتمعات الشرقية، وكذلك تسليط الضوء على أوهامٍ وصورٍ نمطية تناولها الأفراد، ورسخت بالذاكرة، إما بفعل الدور الذي يلعبه الإعلام، والسينما، ورجال الدين، أو بفعل مرور الزمن، ومحدودية ذاكرة الإنسان. ركَّزت أعمال شباط السابقة خصوصا، على المهاجرين من بلاد الشرق إلى المجتمع الألماني، إلا أن رواية «أيزات» انفتحت على آفاق مجتمعية، وكذلك قيم إنسانية مختلفة.
تقع أحداث روايه «أيزات» في 217 صفحة، وتدور حول رجل سوري ثري في العقد الخامس من عمره، يتنقل بين ألمانيا وقطر، حيث يلتقي بعدد من الشخصيات التي جاءت إلى الدوحة من بلدانٍ وثقافاتٍ مختلفةٍ؛ بحثا عن عمل لتحسين وضعهم الاقتصادي، أو مطاردة تحقيق طموح في فضاء الدوحة، ومن خلال تلك الشخصيات يرصد الكاتب أحلامهم، ومعاناتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم.
تبدأ الرواية حين يلتقي البطل الخمسيني ببطلة الرواية «أيزات» وهي فتاة فاتنة نشأت في دولة (قرغيزستان) في آسيا الوسطى، ورغم أن «أيزات» فقدت أمها وأباها، قبل أن تبلغ الثامنة، وتولَّت جدتُها تربيتَها وتربية أخيها «كيرات» إلا أنها نشأت بشخصية قوية مفعمة بالأحلام والبحث عن المعرفة في الأدب والتاريخ واللغات، التي تعدت حدود دولتها الجغرافية. وهو ما دفعها للانتقال بعد الانتهاء من دراستها الجامعية إلى الإمارات العربية، ثم قطر؛ من أجل تحقيق حلمها في أن تصبح مُضيفة للطيران على متن إحدى خطوط الطيران القطرية. تنشأ بين الشاب الثري القادم من ألمانيا وأيزات علاقة عاطفية، ومن خلال تلك العلاقة يتعرَّف على حياتها الشخصية، ومعاناتها، وأحلامها، التي تركت أهلَها ووطنَها لأجلها، وكذلك يسترجع ذكريات حبِّه الأول في قريته في سوريا، التي تركها مغادرا إلى ألمانيا؛ باحثا عن فرصة لحياة أفضل، حيث عاش لفترة طويلة قبل أن ينتقل إلى الدوحة حيث التقى «أيزات». وفي هذه المساحة يتحرَّك الروائي عبد الحكيم شباط سرديّا، مُسائلا عددا من المعاني والقيم في المجتمعات الاستهلاكية المعاصرة، وأهمُّها: الأسرة، العطاء، تطبيق القانون، قيمة العمل والوقت، المساواة والعدالة الاجتماعية، التحضر بين المجتمعات الشرقية والغربية.
الهجرة الاقتصادية:
تُعَدُّ الهجرة الاقتصادية الموضوع الرئيسي الذي تدور حوله الرواية، فأغلب النماذج التي تطرَّقَتْ لها الرواية، سواء في الدوحة، أو في ألمانيا؛ هي لشخصيات مهاجرة من بلدان آسيوية وافريقية يتفشي فيها المحسوبية والفساد، لكن ما حاولت الرواية تسليط الضوء عليه بشكل خاصٍّ هو موضوع، العمالة الآسيوية الوافدة في الخليج، وهو موضوع قليلا ما يتمُّ تناوله في الرواية العربية. فيستعرض الكاتب الفرق الشاسع بين الحياة المخملية للأثرياء في هذه البلدان، وتلك التي يعيشها العمال البسطاء، كما في حالة العمال الهنود برواتبهم الزهيدة، وساعات العمل الطويلة، مقابل مَنْ يسكنون قصورا وفنادق فخمة. فهنا مثلا: ثريٌّ هنديٌّ يستأجر فندقا فاخرا بأكمله لمدة ثلاثة أيام؛ لإقامة حفل زفاف، «في الوقت الذي يُشَكِّل فيه الهنود معظم فقراء العمالة الوافدة في الدوحة، بل معظم فقراء الكرة الأرضية».
الثراء بين الحضر والتحضر:
تُسَلِّط الرواية الضوء كذلك على التناقض بين الثراء، والمظاهر البراقة، والخواء الداخلي، والتمدُّن، فهنا لا التزام بالهدوء، ولا تطبيق فعلي للقانون حين يتعلق الأمر بالأثرياء، يروي لنا البطل أنه طلب من جميع النزلاء مغادرة الفندق فورا لأجل حفل الزفاف، وهو ما يخالف قانون الإقامة في الفنادق الراقية، كما أنه كذلك اضطُر لترك شقة استأجرها بعد أن فقد الأمل في أن يُطبَّق القانون مع جاره الذي لم يكفَّ عن إصدار الأصوات المزعجة للجيران، حتى في تلك المناطق الراقية. يستمر البطل في عقد المقارنة بين الفرد في المجتمع الشرقي الذي ينزع للتعميم، وعدم الوضوح، والخلط بين الجد والهزل حتى في أكثر الأوقات جدية، والفرد الألماني المباشر، والدقيق الكلمات والتصرفات، ذلك الشخص الألماني الذي حتى إن كان عاملا بسيطا ستجده يقضي بعض وقته، وينفق بعض ماله في إشباع عقله، بينما نرى الأثرياء، وحتى الأشخاص العاديين في مجتمعات شرقية ينفقون أموالا باهظة؛ لتجميل مظهرهم الخارجي، كما وصفت الروايةُ حالَ النساء اللاتي يرتدِينَ الذهب بصورة مُبالَغ فيها، وحالَ الرجال الذين يشترون سيارات بعدد أيام السنة.
يستعرض الكاتب الفرق الشاسع بين الحياة المخملية للأثرياء في هذه البلدان، وتلك التي يعيشها العمال البسطاء، كما في حالة العمال الهنود برواتبهم الزهيدة، وساعات العمل الطويلة، مقابل مَنْ يسكنون قصورا وفنادق فخمة.
تقاليد وشباب:
تناقش الرواية مسألة تكاليف الزواج، وما تفرضه العادات والتقاليد في المجتمعات الشرقية، فالتقاليد التي تسبَّبت في أن يفقد البطلُ حبيبتَهُ الأولى، فقط لاعتراض والدتِهَا على ظروف عائلته المادية، رغم مكانتهم العلمية، وسمعتهم الطيبة في بلده سوريا، هي نفسها التي فرضت على كيرات تحمل عبء توفير مهرٍ للعروس، وإقامة حفل زفاف يبلغ عشرة آلاف دولار، وهو مبلغ كبير جدّا بالنسبة لراتبه المتواضع في بلده قرغيزستان. وعلى الرغم من أن شباط حاول أن يصوِّر سلبيات المجتمعات الشرقية، حيث تنتشر صفات؛ مثل: المبالغة في الاهتمام بالمظاهر، والصفات الشخصية التي كثيرا ما يغلب عليها عدم الدقة، والالتزام، والوضوح، إلا أنه لم يهمل تبيين الإيجابيات الموجودة كذلك؛ مثل: الكرم، والتعاطُف، والترابط العائلي، خصوصا في القُرَى.
العطاء والتكافل:
للحظة يعتقد القارئ أن الرواية تتناول قصة عاطفية لشخصين نهايتها، إما الارتباط، أو الفراق، لكن الكاتب فضَّل أن يصنع مشهدا لعاشقين تجمعهما مشاعرُ إنسانية مختلفة؛ ليفتح الآفاق لإيحاءات وقيم مختلفة، أهمُّها: التكافل، التضامن والعطاء، فقد قرَّر البطل أن يدعم «أيزات» ويكون لها ناصحا كأخ أكبر، وهو ما جعله يبحث لها عن زوجٍ مناسبٍ من بلدها؛ ليكون بجانبها في حياتها، كما نصحها بألَّا تتخلى عن الإيمان بحلمها، والاجتهاد لتحقيقه. أما البطلة «أيزات» فهي كذلك تدعم جدتها وأخاها، وتخصِّص كذلك جزءا من راتبها الزهيد لمساعدة الفقراء في بلدتها. يمتزج الخيال بالواقع في أعمال شباط الأدبية، ربما ليثبت شيئا لذاته ولمَنْ حولَه، وهذا التحدِّي وإن كان يخصُّ فكره ودراسته للفلسفة بصفة خاصة، إلا أنه كذلك يخصُّ المجتمع الإنساني بصفة عامة، ولذا يمكن تمرير كتابته كآلية لإيصال رسالته التي أراد أن ينقلها من خلال روايته، وهي تلك المشاعر الثلاثة «البسيطة العميقة» التي وصفها الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل بأنها تحكم حياته، وهي: اللهفة إلى الحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لا تُطاق لمعاناة البشر. يمكن القول: إن حبكة هذه الرواية بدأت مبكرا، من خلال صراع بين مشاعر الأبوة والحبِّ لفتاة تصغُر البطل بخمس وعشرين عاما، فقد كان التقاء البطل بالشابة «أيزات» التي رأى في روحها الطفولية والبريئة صورةَ حبيبته التي لم يستطع الزواج منها منذ أكثر من ثلاثة عقود؛ بمثابة إشعالٍ للصراع الداخليِّ في ذهن البطل والقارئ على حدٍّ سواء من أول صفحة، حتى إن ما رواه البطل من قصصٍ مختلفةٍ لشخصياتٍ مهاجرةٍ التقى بهم، ظلَّ أقلَّ وطأة على القلب من التشوُّق لمعرفة حقيقة المشاعر بين البطل وأيزات. أما بالنسبة للسَّرْدِ: فقد نجح الكاتب في صنع تفاصيلَ وقصـــصٍ كثــــيرةٍ ورغم أنها وقعت في بلدان وأزمنة مختلفة بطريقة إلا أن التشابك بين هذه القصص والتفاصيل نجح في سحب القارئَ بخفةٍ للصفحات التالية، بدون الوقوع في فخِّ الملل والرتابة.
٭ كاتبة مصرية