يُحاول حسن أوريد في رواية «الحديث والشَّجن» التي كتبها بين سنتي 1991 و1993 أن يتصدّى لقضيتين أساسيتين ما فتئتا تثيران حمأة وضجيجا في صفوف المغاربة، ونعني هنا: البون الشاسع بين الطّبقة الأرستقراطية التي تعيشُ تطرُّفا في البذخ والغضارة، وتنعمُ بحياةٍ يسيرة وسهلة، وكلُّ ما تبتغيه يتحقق دونما لأيٍّ أو مكابدة، والطّبقة المهمشة – المسحوقة التي عانت شظف العيش وتكالب تصاريف الحياة عليها، حتى صارت بعض التفاصيل البسيطة التي يعيشها الأرستقراطي في يومه العادي حلما لدى المنتسبين إلى هذه الطبقة، التي لفظَها التاريخ واستغنت عنها عجلة الحياة.
تتجلى ملامح هذا الصراع، حينما ارتبط يوسف، الذي استبسل أمام تقلُّبات الحياة ليظفر بعملٍ يصون مروءته ويحرس كرامته، باعتبارهما مقوّمين لا يمكن للمرء العاقل أن يستغني عنهما وهو مرتحلٌ في الحياة، حيث ارتبط بأمينة التي عاشت مرتمية في حضن بحبوحة العيش، وبعدما أعماهما الحبُّ في البداية، أخذت هذه الفوارق التي تمخضت عن التراتبية الاجتماعية تطفو وتظهر مولِّدة احتقانا بينهما. لنأخذ من باب التمثيل لا الحصر: يوسف هو شابٌ نشأ في كنف أسرةٍ فقيرة في مدشرٍ من أرياف الجنوب الشرقي، الذي تنعدمُ فيه ملامح العيش الكريم والهانئ، تخلى والده عن أمه راحلا صوب الجزائر وتركه يتيما يجابه عواصف الدّرب، فتح عينيه على تربيةٍ محافظة وأصيلة قوامها الخجل والاحتشام والتوقير وهذا التأثير الذي تمارسه التربية يدعونا للقول إن: «التربية تغلب دائما التجربة» (من ديوان السياسة، 2010). في حين أنّ أمينة التي فتحت عينيها على تفكك أسري هي الأخرى إلّا أنّها عاشت حياة هانئة يُمكن اختزالها في أنّ ما طمحت إليه قد أحرزته بيسرٍ بادٍ، وبعض التفاصيل التي كانت بمثابة خطٍّ أحمر لدى يوسف كالذهاب إلى السهرات المختلطة وقرع كؤوس النّبيذ مع طائفةٍ من أصدقائها، كان أمرا عاديا دأبت عليه.
سلّط أوريد الضوء في هذا النّص على قضية سال مدادُ المفكرين والكُتّاب عنها، لكونها عُدَّت من أكثر المشكلات تأريقا في الثقافة العربية المعاصرة؛ والمقصود هنا: إشكالية الماضي/الحاضر- الحداثة/القدامة؛ وتتمظهرُ هذه الإشكالية في النّص من خلال احتماء يوسف بالماضي كلّما غلبه الواقع؛ حيث تفور في صدره مشاعر متأرجحة بين الشجن والحنين والتولُّع بالحياة الريفية التي نشأ وسطها بعيدا عن الصخب والازدحام، فضلا عن شوقه الجارف لوالدته، والحسرةُ أيضا كانت تأكل شغافه كلّما داهمته ذكريات الطّفولة التي افتقد فيها حنو أبيه؛ فالذكرى عند السارد هي «شاعرة تشطح كيف تريد». كان الماضي يُثقل يوسف، ولم يتركه في مندوحة من أمره للتفكير بالتروي والتمهل اللازمين لإيجاد حلولٍ للمآزق التي لفّته وأحاطت به، بينما أمينة كانت نزقة، متخففة من ثقل الماضي، متحررة، تعيش الحياة بإقبال كبير جدّا، دون أن تلتفت إلى الماضي تحت أيّ ظرفٍ كان. هو يعيشُ الحاضر متكئا على تأويل الماضي وربطه بما يقع آنيا، وهذا الثقل تحكّم بصورة واضحة في قراراته واختياراته وأعدم لديه القدرة على المبادرة والفعل الحُرَّين، في حين أنّ أمينة كانت تعيش الحاضر بما هي عليه دون التفكير في ما مضى وانقضى وهذا ما جعل نظرتها إلى الحياة تُجافي وتتنابذ مع النظرة التي كان يبصر بها يوسف واقعه.
قَسَّم أوريد روايته، الواقعة في 285 صفحة من القطع المتوسط، إلى قسمين أساسيين؛ القسم الأول رواه يوسف ساردا حكايته وهو يجابه الأيام العصيبة طامحا لبلوغ أمانيه، مسهبا في وصف عقابيل فقد أبيه وعلاقته بأمه التي وجدها تعويضا لهذا الفقد، مستفيضا في روي التحول الذي طرأ عليه حينما انتقل من المدشر إلى الرباط؛ حيث وجد قيم المدينة تتباين مع القيم التي تشرّبها في الريف إلى أن وقع في عشق أمينة بشكلٍ جارف والزواج بها قبل أن تنكشف حقيقتهما: أولا؛ أمينة لم تفتر عن خيانته، ثانيا؛ كانت بينهما فوارق ثقافية كبيرة؛ فيوسف كان عارفا بالاشتراكية العلمية ومطّلعا على أهم النظريات الاقتصادية، وعالما فذّا بالتاريخ والفلسفة والأدب والسياسة، بينما هي كانت محدودة جدا ولم تكن تُطالع إلّا بعض النصوص البسيطة، والفارق الآخر هو أنّها سعتْ بشكلٍ دائبٍ إلى التحكم فيه وإخضاعه لأهوائها، والمعلوم أنّ البدوي – الريفي يكون حادّ الطباع، صعب الإذعان، وفي نهاية المُطاف وصلا إلى طريقٍ مسدود وافترقا. ثالثا؛ التراتبية الاجتماعية أزَّمَت وضعيتهما.
أما القسم الثاني فقد انفردت برويه المثقفة فوزية التي قادتها الأقدار إلى معرفة يوسف، بعد تجربته الفاشلة مع أمينة، وقد تكوَّنت بينهما علاقة عاطفية بدا فيها يوسف وكأنه ينتقم من الماضي، حيث شرع يخونها مع نساء فرنسيات ومغربيات، وصارت العلاقة متوترة بينهما، وبذلك كان يُقلِّد تصرفات أمينة معه؛ ففوزية أحبّته وكانت صادقة معه، وهو صار يُلاعبها، بينما أمينة لم تكن عاشقة فذة ومخلصة بينما هو كان وفيّا، وتلك داهية الدواهي.
ملاحظات على النص:
يُعدُّ الإقناع مدماكا أساسيا في النّص الرّوائي، وعاملا لا غنى عنه في نجاح النّص. بيد أنّه لم يتوفر هذا العُنصر في مجمل رواية «الحديث والشّجن»؛ إذ أحسست، أكثر من مرة، وكأنني أقرأ قصّة مقتبسة من مسلسلٍ تركي؛ فالتماسك المنطقي غائب، والصدق منتفٍ بشكلٍ بائن، وأحداثٌ لعلّ أي مغربي يسعد بالنزر اليسير من التعقُّل قد لا يستسيغها. هل يعقل، أولا، أن تنشأ علاقةٌ بين متحدرةٍ من عائلة إقطاعية تنعمت بغضارة العيش، وشابٍ لفّته الفاقة وشظف العيش بتلك السهولة واليُسر، ونحن نعلم طبائع المغاربة وتولُّعهم بالطبقية، فلو افترضنا جدلا حدوث ذلك فلن يكون بمنتهى السهولة. ثانيا هل من المعقول أن تكون مدة العلاقة ما ينيف عن الأسبوعين فقط وتسأله الفتاة الإقطاعية: «هل تحبني يا يوسف؟». هل يُستساغ أنّ الفتاة هي من تُبادر بطرح هذا السؤال في ظرف وجيز؟ من الممكن أن تتخيل أي شيء لكن في حدود المعقول والمنطق؛ إذ لا يُمكنك أن تتعدى الواقع ولو كنت ممتطيا صهوة التخييل.
اتّخذ حسن أوريد من رواياته فضاء لتصفية حساباته الفكرية، وكم من مرةٍ استجليتُ أنه يقصد العروي وأكتفي بهذين المثالين: معروف على العروي أنّه هيغيليٌّ متشرٍّبٌ لفكره، وظلّ يؤمن بإيجابية المثقف، وبأنْ يكون هذا الأخير في صفِّ الحاكم حتى ينجح الإصلاح. وهذا أسٌّ من أسس منهج التاريخانية التي آمن بها العروي، وذاد عنها في مشروعه الفكري؛ إذ أنّ الإصلاح في ألمانيا المتأخرة خلال القرن 19 ما كان ليُحرز لولا التلاحم الذي حصل بين السلطة والمثقفين الألمان وتضحياتهم الجسيمة، ولنا في أدلجة ماركس الشّاب مثالٌ جليٌّ لذلك. لعلّ أوريد يتبنّى موقفا مغايرا ألا وهو أنّ المثقف يجب أن يكون مناضلا، مستقلا، غير تابعٍ للسلطة. ومن أين أتى أوريد؟ جميعنا نعلم تفاصيل حياته. تزكية لهذا الزعم نقرأ ما جاء في الرواية: «منتهى التاريخ لدى هيغل هو الدولة. ليس للفرد وزن أمام مسيرة الدولة. لذلك فالهيغليون خطرون. سواء كانوا مثاليين أو ماديين».. ونسوق من النص مثالا عن هذه الردود الفكرية الملغزة التي احتمى فيها أوريد بدواليب التخييل والإغراق في الترميز العابر والتلميح السريع: «ألم تكن تقول دوما إنّ المجتمعات العربية مجتمعات لا تاريخية قوامها الفولكلور والبهرجة». ليس بخافٍ على أحد أنّ العروي بنى أطروحة التأخر التاريخي لدى العرب على أنّهم لم يعرفوا إلى التاريخ سبيلا؛ حيث بقيَت الكتابة التاريخية عندهم، مثلا، كتابة تقليدية تنبني على السّرد الشفهي للأحداث والوقائع دونما تحليل أو نقد لها حتى صار المؤرخون عندنا يسردون الملاحم والأساطير دون الأخذ في الحسبان أنّ التاريخ له غاية، ألا وهي نفع الحاضر والمستقبل، فضلا عن أنّ المؤرخين العرب كان يَرْوُونَ هذه الوقائع، دون أن يدركوا أنّ ما يحدث في الماضي له تأثير على الحاضر، ويُمكن لهذا الأخير أن يستفيد منه، لا أن تروى الواقعة من أجل أن تروى فقط (للاستزادة: راجع الإسلام والتاريخ لعبد الله العروي). يُلخص العروي غياب التاريخ لدى العرب: «بين كلمتنا وكلمتهم، بين مفهومنا ومفهومهم يوجدُ فارقٌ فاصلٌ هو بكلّ بساطة التاريخ» (مفهوم العقل).
أمّا بالنسبة للفولكلور فإنّ العروي شنّ هجوما شرسا عليه لكونه رأى فيه معيارا من معايير التأخر التاريخي؛ إذ أنّ الثقافة الشعبية لا تشحذ الوجدان ولا تقوّي التخييل ولا تغذي العقل، وبالتالي هي مظهر من مظاهر التخلف، وبالتالي وجب الاستغناء عنها والاتجاه صوب الفنون الأصيلة والآداب الجيدة، كما فعل المثقفون الألمان حينما استشعروا عبء التأخر فأحيوا اللغة الألمانية العتيقة وانكبوا على الآداب لرتق فتوق الحاضر وتضميد جراح الواقع. ألم يتنبّه أوريد إلى أنّ أشكال الثقافة الشعبية مثل ترويض الأفاعي وموسيقى عيساوة مثلا لا تزيد الصورة النمطية لدى الأجنبي على المغربي إلّا عمقا؛ حيث يصير لفظ «مغربي» مقترنا بهذه الأنشطة التي لا تعكس صورة المغربي الحقيقية.
أثقل التكرار هذا النّص وجعله مترهلا، وكأنّ أوريد يفترض عسر الاستيعاب في قارئه. أسوق مثالا من النص. أمينة، الشخصية المحورية في الرواية، تقول، إنّ والدها مدمن على الخمور، فهل يقتضي الأمر أن تردفها بعبارةٍ هي تحصيل حاصل: «أبي مدمنٌ وهو الآن مصاب بالإدمان». وأتصور أيضا أنّ أوريد لا يؤمن بأنّ الرواية الجديدة – الحديثة تتكئ على تقنية الإظهار بعدما استغنت عن خاصية الإخبار، ومنح فسحةٍ أوسع للقارئ ليملأ البياضات ويسدّ الفراغات؛ فقد وقع أوريد في هذه المصيدة أكثر من مرة. أكتفي بهذا المثال: «يرتدي جلبابا ويدخن مالبورو وعلى مكتبه علامة ممنوع التدخين. أثار انتباهي هذا التناقض». هل كان من الضروري أن يكتب الجملة الأخيرة أم أنّ التي سبقتها قد أوصلت المعنى؟ لماذا هذه الزيادات المُثقِلة؟
لعلّ المزيّة، من بين عدّة مزايا، التي يُمكن استجلاؤها من هذا النّص هي سعة المعلومات التاريخية – الجغرافية التي تضمنها، فضلا عن الزاد المعرفي الكبير الذي يسعد به أوريد، حيث كانت ينطُّ بسلاسة مبهرة على الفلسفة والتاريخ وتاريخ الأفكار السياسية، ويستعرضُ أيضا معرفته الواسعة بحقل الأدب، ويبدي حينا آخر، بحصافة بيّنة، رأيه في جملة من القضايا التي كان ينضح بها المغرب والعالم العربي خلال القرن المنصرم: الصراع المستعر على الصحراء بين المغرب والجزائر وقد عالج هذا الانشقاق باعتماد قصةِ رحيل والد يوسف إلى الجزائر ليتزوج هناك ويُنجب أشقاء للبطل، سيتعرف عليهم حينما يكبر وكأنه يُشير إلى العواطف الأريحية والتقاطعات الفكرية والوجدانية التي تجمع الشعبين، غزو صدام حسين للكويت، الحرب الإيرانية العراقية، إلخ، علاوة على اللغة المسبوكة بعناية واضحة ومكتظّة بتعابيرٍ ألقةٍ طالها الانقراض من التأليف الروائي الحالي.