ـ 1 ـ
إن رواية «الحي الروسي» للروائي السوري خليل الرز، التي تأهلت إلى القائمة القصيرة في تنافسها على جائزة البوكر العالمية، تم وصفها من قبل لجنة التحكيم بأنها رواية «لأحد أحياء دمشق في مواجهة عنف الحرب، وتداعيات ذلك على بنية الفرد والمجتمع ضمن المستوى النفسي والوعي الاجتماعي».
في «الحي الروسي»، وهو حي يقطنه العديد من الروس، وفيه بائع الجرائد، والمطاعم، والكباريهات، والمركز الثقافي الروسي، وحديقة الحيوانات، بالإضافة إلى السوريين. وعلى سطح الحديقة، كان الراوي يشاهد المباراة القديمة بين الأوروغواي وإسبانيا، والمدافع كانت تنطلق من الحي باتجاه الغوطة، موقع المتمردين المسلحين، بدون أي شعور أو قهر من القتلى الذين يملأون الشوارع. وكانت الزرافة وهي أحد أبطال الرواية التي تُطل برأسها إلى السطح، وارتفاعها البالغ كان يمنحها الاستعداد الفطري للعطف على الجميع، والشوق إليهم. وتميز يد الراوي، وتشعر براحة الكف على رأسها، وكانت تخصه بين معارفها وزملائها، وتُصغي بشكل شديد إلى صمته. ونونّا صديقة الراوي تعيش معه، وقدمت للزرافة جرزة البصل الأخضر، حيث كانت تمضغ البصلة وتتلمظ بها وعيناها كانتا تتألقان بمشاعر وصور جديدة أشهى وأحلى. وتبين لها أن الزرافة تغني أحياناً في سكون الليل بصوت مبحوح منخفض جداً، يتسرب من أعماق رقبتها الطويلة، وهي تعبر في غنائها عن الانسجام وليس الوحشة، وهي لا تشرب الماء كل يوم، ولا تتثاءب مثل الكثير من الحيوانات، وهي «عمياء» كما يقول فيكتور إيفانيتش، لأنها لما أصيبت بالعمى أهدونا إياها من السيرك منذ خمس سنوات، وعمرها الآن عشر سنوات، وهي تكره السباع، بدون أن تراهم في الماضي. لكنها في رأي الراوي ونونّا ليست عمياء، تبعاً لخصائصها الشخصية والغريزية المجربة، فهي تميّز الأيدي، وتصغي إلى الطيور المغردة التي تأتيها من التلفزيون، وكانت ترى كل شيء؛ المسيرات والرؤساء وخطاباتهم. وكانت تشبه أمي التي تعرضت للاضطهاد من زوجة عمي بصنعها الشاي الدائم للضيوف، إلى أن بالت في الشاي وشربوه وتصالحت بذلك مع الشاي والشاربين.
وكان «بوريا» وهو من المافيا الروسية، يسيطر على الحارة، ويتعامل مع الأجهزة الأمنية، وكان يقاسم البشر أرزاقهم بالجبايات والقتل. وعصام هو البطل الشعبي الذي كان يقاوم بوريا، وهو عامل في الكباريه، وتزوج من رشيدة المغربية عازفة العود، لكنه لم يصطدم مع بوريا، بسبب انهيار الثلج عندما التقيا صدفة في الحديقة. ولكن عصام اختار الذهاب إلى الغوطة لأنه «بطل». وهناك تم اعتقاله ومحاكمته بتهمة: حماية الفحشاء والمنكر والبغي في الكباريهات، والزنا بامرأة مغربية والعيش معها، بدون عقد نكاح شرعي. وتم الحكم عليه بالإعدام. وعادت قطته غزالة بمفردها. وصالح أرسل الجثة إلى الراوي. وجرى تشييع عصام، ووضعت نونّا العصفور الذي حاكته فوق الجثة، تقديراً له ولشهادته. وذلك يعني تحدياً للنظام، وكانت الطائرات تحوم فوقهم. وحدث انفجار قوي في الحديقة، وأصبحت الزرافة خائفة خارج الحديقة. لكنها تحركت في الشارع، وكان الناس المندفعين وراءها يتمتعون بالحماسة المجردة من أي غرض أو موضوع. وهذه الحركة الجماعية ولّدت إحساساً مشتركاً ودافئاً وآمناً. وكان الراوي يمشي وراء الزرافة «ليس بإرادته، إنما هو حبل متين لا يراه، ولكنه يشعر به، وكان يربطني إليها من سرتي ويسحبني وراءها». وحتى وصلت الزرافة إلى المناطق المحررة، وساحة الأمويين، حيث انطلقت دبابة ورشقت الزرافة، ولوت رقبتها ورأسها ملطخ بالدماء، بانتظار الرافعة التي جاءت وجرفتها، وتفرق الجميع.
ـ 2 ـ
الحي الروسي برزخ هش، مفترض أنشأه الروائي كحي حيادي يرفض الحرب والقتال، ولا توجد فكرة واحدة يؤمن بها كل الناس، وإيمانهم بالمفاهيم الكبرى كان ضعيفاً، لكنه يعيش على حافة الدمار. وكان «دائماً أوصالاً حية مقبلة من أوطان بالية وعقائد بالية وطوائف بالية، تجمعهم الرغبة الأرضية الخالصة بالحياة». وقد انحذفت معتقداتنا حول التظاهر والحياة. لكن النظام والروس كانوا يقصفون الغوطة ويدمرونها، وهذا يعني أن سكان الحي يعيشون حالة التدمير، خاصة القنابل المقبلة من الغوطة، التي تدمر المدارس و»حضانات الأطفال». وبالتالي الحيادية مسألة غير مرغوب فيها في زمن الحرب والقتل.
وعندما تفتقد الرواية إلى الحرية وحقوق الإنسان والدعوة إليها، تصبح في مأزق كبير. وهذه الرواية لم تذكر حتى مفردة الحرية، وإذا أخذنا الحرية في التظاهر، والقتل المرافق لها، نجد أن تظاهرة الزرافة ضد قتل عصام المشين، وضد قتل الزرافة من قبل النظام، يجعلنا أمام المأزق السابق وهو رؤية الراوي، لانتفاضة الشعب الحر بأنها مجموعة من القتلة والإرهابيين كما يقول النظام.
تتميز الرواية بلغتها الشاعرية، بروحها وتوصيفاتها للأمكنة والشخصيات، كذلك باختيارها الرموز الحيوانية من أجل استنطاقها عبر التحليل النفسي، والتخاطر والحدس، وإضفاء عليها رغبة البشر. وكانت الزرافة هي الحيوان المؤهل لذلك، فهي كانت تُعلم نونّا والراوي عما هي عليه من مشاعر وغبطة وخوف وحزن. وكانت الأم الروحانية للراوي، الذي أراد أن يضمها، لأنه يمت بصلة رحم إليها، حيث فشل في حضن أمه. لكن هذه الزرافة لم تصل إلى حد الرمز الروائي. هل هي الشعب، الذي يقود المظاهرات ويتم قتله على يد النظام، كما يشير أحد النقاد؟ هي ليست كذلك كما تم وصفها بالعمى، وهي المحبوسة في حديقة الحيوانات. والشعب قام بتظاهراته مطالباً بالحرية والكرامة منذ زمن بعيد. أم هي رمز للأمل وتعطشهم المتهوّر المفاجئ له؟ والأمل تجاه ماذا، هل الأمل بوقف الحرب هو المناسب؟ أم الأمل بوجود العشق المفقود في الرواية؟ أم الأمل بالتظاهر؟ أم هي رمز للحرية، وحرية التعبير والرأي، للتظاهر السلمي ضد القتل؟ والزرافة قادت أهل الحي من غفوتهم، ومشاهدة مباراة لكرة القدم من الزمن القديم، بمظاهرة حتى ساحة الأمويين، حيث إن الناس أصبحت وجوههم وحركات أطرافهم أشد تعبيراً عن الرفض والتحدي والألم والاستعداد للتضحية، بدون أن يذكر الراوي أي شعارات تم رفعها، بصوت عبد الجليل الذي كان صوته يلعلع عبر التظاهرة. إنما التظاهرة كانت ضد «الإرهابيين»، الذين قتلوا الزعيم الشعبي «عصام»، وضد قتل الزرافة التي يمكن تسميتها بالوردة الشهيدة.
الحرب ليست موضوعاً للرواية، لأنها لا تتضمن تفاصيلها، لكنها خلفية، فالرواية كُتبت في زمن الحرب. والروائي يتمتع بإشكالية تجاه موقفه من الانتفاضة السورية، التي تدعو إلى الحرية والكرامة الإنسانية، والتخلص من المستبد. فهو لم يرها كذلك، ولم يوضح كيف كانت المظاهرات السلمية، وكيف تم قتل الأحرار المتظاهرين، الذين وصلت أعدادهم إلى نصف مليون، وتم تدمير بيوتهم وكل ما يملكون. إنما حصر المعارضة المسلحة على أنهم إرهابيون إسلاميون، يعدمون عصام بتهمة الفاحشة. وهذه وجهة نظر النظام، الذي يدعي مقاتلة الإرهابيين، في زمن تشكل الجيش الحر الذي لم يكن إسلامياً، ولا متطرفاً. وهذه النقيصة تجعل الرواية غير واقعية، والفانتازيا التي رسمت القبح بالمكان المشبع بالحدود اللامتناهية حول غرائبية سكان الحي والحرب السورية.
وتبدو المرأة في الرواية أكثر قدرة وتماسكاً تجاه حرب الشعب مع النظام. فكانت تقدم كل المعلومات عن الزرافة للراوي الذي يجهلها. وقد حاكت العصفور وهو فكرة من أفكار الزرافة التي «زرعت الأمل في النفوس، ولابدّ لهذا الحي أن يحلق يوماً في سماء زرقاء ووسط غيوم خضراء ونجوم ذهبية». وحين رأت الراوي وهو يعرج في التظاهرة، تركته وتحولت إلى مناضلة في التظاهرة، وهو يهرب من صالح الذي هرب من المناطق المحررة لإرساله الجثمان، إلا أنه ظل «يوقظه من نوم مخيف، وكان يحاول عبثاً الوقوف على قدميه، ولم يعد يرى شيئاً من حوله». وهكذا ينتهي الراوي شخصاً أعرج في المظاهرة لكنه لا يرى شيئاً.
جميلة هي الحبكة في الرواية، إنها حبكة الزرافة وما يطرأ على تطورها خلال السرد المتقطع، رغم وجود بعض الإضافات في الحي الروسي حول حياة بعض الروس القادمين إلى سوريا مدرسين، مثل نيقولاي، وفكتور، وبتروفنا، وهي لضرورة الرواية المفترضة، وما تولده من أفكار، خاصة عصفور نونّا، الذي يحلق في السماء متعالياً على البشر والحرب والقتل المجاني للبشر، وتشريدهم.
وعندما تفتقد الرواية إلى الحرية وحقوق الإنسان والدعوة إليها، تصبح في مأزق كبير. وهذه الرواية لم تذكر حتى مفردة الحرية، وإذا أخذنا الحرية في التظاهر، والقتل المرافق لها، نجد أن تظاهرة الزرافة ضد قتل عصام المشين، وضد قتل الزرافة من قبل النظام، يجعلنا أمام المأزق السابق وهو رؤية الراوي، لانتفاضة الشعب الحر بأنها مجموعة من القتلة والإرهابيين كما يقول النظام. وهذا استعلاء للمثقف الروائي على الشعب ومفاهيمه وقيمه، بأنه يتلقى مفاهيمه عن الزرافة من نونّا، ويبدو أعرج في التظاهرة، وبحاجة لثائر مثل صالح حتى يوقظه من سبات عميق. وهذه النقيصة الثانية في الرواية التي لم تدعو إلى الحرية التي يسعى إليها الشعب السوري، ومازال حتى الآن، منذ عشر سنوات، نازحاً في مخيمات الجوع والحرمان، أو مهاجراً عبر البحر «المميت» إلى أوروبا، أو لفظ أنفاسه الأخيرة عبر الطرقات.
٭ كاتب وباحث سوري