لا شك أن رواية «الحي الروسي» للروائي السوري خليل الرز، التي تأهلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية 2020، رواية مختلفة، عميقة الدلالات، متعددة المستويات، بعيدة الغور، إشكالية بما تثيره من تساؤلات حول موقفها مما يحدث في سوريا، وبما تحفل به من رمزية وتأويلات، وبما تثيره من قضايا ما تزال حية ساخنة.
الرواية، وإن اتخذت مما يحدث في سوريا متكأ للسرد، إلا أنها ألقت الضوء على العديد من القضايا والأفكار، بهدف جعلها مادة للتفكير والتساؤل والبحث وإعادة النظر، ومنها: الحياد وسط لهيب الاقتتال، الدور الروسي الثقافي والعسكري في سوريا، سلطة القبضايات وعلاقتها بالسلطة الرسمية، دور المثقفين والفنانين ومعاناتهم، الإعلام وتأثيره، مشكلات المرأة، الحاجة إلى البطل الشعبي، الأمل المنتظر، خيبة الأمل، التوهم، وغيرها.
الرواية لم تتناول ما يحدث في سوريا بشكل مباشر، وإنما تأثيرات الأحداث وانعكاساتها وما أحدثته من تغيرات في المجتمع، وما آل إليه مصير الحي الروسي بعد أن دخل الأحداث رغمًا عنه، بعد أن تجنبها سنوات طويلة، في تأكيد أن لا منجاة لأحد عندما تشتعل النيران في الوطن، فإن لم تصبك نيرانها، فلا بد أن يصلك دخانها. والرواية أوضحت تعاطفها مع ضحايا الأحداث، وانحازت للمواطن، رافضة ما يحدث من الأطراف المتصارعة مهما كانت مبرراتها وذرائعها.
أبدعت الرواية في الوصف التفصيلي، الذي بلغ حد الملل أحيانًا، وأجادت في تجسيد المشاعر والعواطف، وما يعتمل في النفس من أحزان وهموم واضطراب وقهر وغضب وحب، ولم تستثن الحيوانات من ذلك، خاصة الزرافة والكلبة رئيسة بتروفنا والكلب موستاش. وتناولت بإطناب الكثير من القضايا والأفكار والمواقف والأحداث، وكل ذلك بلغة جميلة إلى حد ما، لم تخل من بعض المفردات العامية التي كان من الأولى أن تكتب ببدائلها من اللغة الفصحى، خاصة أن الراوي شخص متعلم ومترجم. تميزت الرواية بالسرد الجميل والمختلف والمثير أحيانًا، لكنه عانى من حمولة زائدة، والعبارات الطويلة التي يمكن اختصارها وإعادة صياغتها، بدون أن يختل المعنى، وكان بإمكان الرواية أن تكون أرشق وأكثر جاذبية لو ابتعدت عن «المط» والتطويل، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا، ومنها: وصف طويل جدًا للحي المحرر والمدمر، الذي يجاور الحي الروسي تمدد على اثنين وعشرين سطرًا، كان بالإمكان اختصاره في خمسة أسطر على الأكثر، ومثال آخر بعده مباشرة: «ومن وقت طويل جدًا إلى وقت طويل جدًا تمرّ سيارة أجرة أو سرفيس أو شاحنة صغيرة محملة بالخضار والفواكه».
أبدعت الرواية في الوصف التفصيلي، الذي بلغ حد الملل أحيانًا، وأجادت في تجسيد المشاعر والعواطف، وما يعتمل في النفس من أحزان وهموم واضطراب وقهر وغضب وحب
تورطت الرواية في ذكر تفصيلات وأحداث لا تقدم ولا تؤخر، والمثال الأبرز على ذلك ما ذكرته الرواية عن علاقة الكاتب الروسي المغمور أركادي كوزمتش مع زوجته، وحياته في موسكو وتقاعدة وأزمته المالية، ورحيله إلى دمشق حيث ابنته المتزوجة، على الرغم من أن هذه التفصيلات لا تمت بصلة للرواية، وأرهقت كاهلها، كما أن دور الكاتب الروسي نفسه محدود جدًا، إلا من فتح شهيته للكتابة، وتعديل روايته بعد أن اشتم حرائق الأجساد والبلاستيك على أطراف الحي الروسي، وكان بالإمكان ربط هذه الجزئية بشخص آخر مثل فيكتور إيفانيتش مدير حديقة الحيوانات، فهو كاتب أيضًا. اعتمدت الرواية على الراوي البطل الذي يروي الأحداث، وهو في الرواية المترجم السوري، الذي عمل سنوات طويلة في موسكو، إلا أن الرواية انتقلت في بعض مفاصلها إلى الراوي العليم، كما في الحديث عن الكاتب أركادي كوزمتش وزوجته ومعاناته وفشله في النشر، وبحث الكلبة رئيسة بتروفنا عن الكلب موستاش، وجولتها التي التقت خلالها بعدد من الأشخاص ودخلت العديد من الأماكن. ولا أظن أن هذا الخلط مستساغ، وكان بالإمكان تجاوزه ببعض الحيل السردية التي لا تخفى على مبدع كبير مثل خليل الرز.
توظيف الحيوانات في الرواية كان موفقًا جدًا، ورائعًا، خاصة الزرافة والكلبين، وتصرفات الحيوانات وأفكارها وسلوكياتها لا علاقة لها بالخيال، وإنما هي نوع من التوهم الذي أراده الراوي أو شخوص الرواية الآخرون، فهم فسروا سلوك هذه الحيوانات وأصواتها بما يريدونه ويفضلونه وينتظرونه ويتوهمونه، وإلا فالزرافة عمياء لا ترى، وما مشاهداتها للتلفزيون إلا نوع من خداع النفس، والوهم الجميل الذي يريح النفس، ويؤكد ذلك عصفور نونّا الوهمي، الذي انعكس وجوده إيجابيًا على الجميع، فاختلف سلوكهم وتعاملهم، وانبسطت أساريرهم، وتعدت إيجابيتهم إلى الآخرين الذين اتصلوا بهم من جيران ومارة في الطريق وزملاء عمل وحيوانات. وهذا يشير إلى أن الإنسان بحاجة أحيانًا أن يتوهم ويكذب على نفسه ليتجاوز أزماته وقلقه، ويتخلص من ضغوطاته النفسية، ولكن يجب أن يكون واعيًا لذلك، وإلا انساق وراء الوهم إلى حتفه، كما فعل سكان الحي الروسي، حيث انساقوا وراء الزرافة بدون وعي، فقادتهم إلى المجهول.
وبعد، فإن «الحي الروسي» رواية جميلة، إشكالية، أثارت وستثير كثيرًا من الاختلاف لها وعليها، وهذا يسجل للرواية وشهادة تميز لها، فعندما تكون الرواية مختلفة عن السائد، فهذا يعني أنها كسرت بعض القيود، ودخلت في فضاء أرحب وربما أرقى. وهي رواية قالت الكثير، وألمحت للكثير، وأوكلت المهمة الأخيرة للقارئ ليبحر فيها بروية وتمهل، وبعض جهد؛ ليكتشف عوالهما ودهاليزها السردية، التي قد يتفق معها أو يختلف، ولكنها تبقى محاولة تستحق المغامرة.
٭ كاتب أردني