رواية « الدولفين» في مختبر ثلاثة نقاد عراقيين

أسفرت قراءة وتحليل رواية القاص والفنان المسرحي الراحل عدنان منشد «الدولفين» عن إحدى إشكاليات الكتابة والتلقي في الرواية العراقية، ما ستدفع حتماً الظاهرة النقدية إلى تفسيرها والتصدي إليها، ومن ثم تجاوزها إذ أقلقت هذه الرواية عادات الاستقبال والقراءة والتحليل السائدة لدى عدد من النقاد والقراء معاً، وأدى هذا القلق الفني إلى تفعيل النقد إزاء نصوص منفتحة على قراءات متعددة ومنها، هذه الرواية، وكان من الطبيعي التغاضي وإهمال هذا العمل لولا الظروف التي أحيطت برحيل الكاتب، ونشر مخطوطة العمل غير المكتملة بشكل نهائي التي أودعها القاص منشد قبل رحيله لدى القاص والروائي جهاد مجيد.
وأسهم مجيد بوفائه المعهود في إعداد المخطوطة ودفعها للنشر، فضلاً عن تكليف اتحاد الأدباء بنشرها ضمن مطبوعاته الأخيرة، وإقامة أمسية استذكارية بحلول الذكرى السنوية الأولى على رحيله، بالتعاون مع مؤسسة «نخيل عراقي».
وعندما أقيمت الأمسية الاستذكارية قبل أسابيع قليلة، لم توزع الرواية بعد، ولم يطلع عليها أحد إلا القليل من القراء القريبين من ثلاثة نقاد، كانوا قد كلفوا بالحديث عنها، أي أن الرواية، دخلت في مختبر ثلاثة نقاد معروفين، أولهم الناقد فاضل ثامر الذي لخص العمل بايجاز شديد متقن، وأشار الى أنه، يمثل إدانة للأنظمة السابقة، في الوقت الذي تضمنت قراءته انفتاح النص على قراءات متعددة، وشاركته الناقدة الثانية نادية هناوي الرأي، بأن رواية « الدولفين» للراحل عدنان منشد، تمثل تحدياً لأدوات القراءة النقدية، سيجد الناقد مقتضاه ومقاصده في غمارها، بعدها، ركزت على الجوانب الفنية في الرواية مثل السرد المتناوب في استخدام الضمير السردي والتعدد الصوتي، إذ أجرت الناقدة مقارنة بين العمل ورواية «خمسة أصوات» لغائب طعمة فرمان، فيما قدم الناقد الثالث محمد جبير رؤيته القرائية بأن وقائع الرواية هي تمثيل خلاق للواقع بين نظامين السابق والآني وعدّها عملاً في سياق السرديات الأمريكية في العراق، ليس في حدود المرحلة حسب، بل بالتحكم بمجريات الوقائع نفسها.

قدمت رواية « الدولفين» للراحل منشد منظوراً جديداً من السرد الروائي، لم تألفه الرواية العراقية إلا في عدد بسيط من الروايات التي كتبت ما بعد 2003، أو في سياق سرديات المرحلة الأمريكية، كما أشار إليه الناقد جبير، وهو عرض وقراءة المواقف الإنسانية من خلال الضعة البشرية، أي كيف تنظر المشاعر السامية للقارئ إلى سلوك انحطاطي ناجم عن خراب شامل؟

لقد قدمت رواية « الدولفين» للراحل منشد منظوراً جديداً من السرد الروائي، لم تألفه الرواية العراقية إلا في عدد بسيط من الروايات التي كتبت ما بعد 2003، أو في سياق سرديات المرحلة الأمريكية، كما أشار إليه الناقد جبير، وهو عرض وقراءة المواقف الإنسانية من خلال الضعة البشرية، أي كيف تنظر المشاعر السامية للقارئ إلى سلوك انحطاطي ناجم عن خراب شامل؟ الروائي الراحل، أبرز بوضوح شديد مسوخاً ونفايات بشرية، تتحرك وتحلم وتسترجع حياتها، وتمضي هذه النفايات تتحدث بضمير الشخص الأول» أنا المتكلم» دون أن يرسم الكاتب خطاً موازياً بما يعادل ذلك لشخصيات مثالية أو إيجابية، لأنه أراد أن يوجه المحتوى السردي بمنظوره الجديد، إلى ما هو أبعد من البناء التقليدي المستهلك، أراد أن يقول شيئاً لا يخص مصائر الشخصيات حسب، بل طرح في اتجاه موضوع عام، يتصل بما يرزح تحت وطأته مجتمع بكامله، شهد خراباً عاماً، لم تكن هذه النفايات والمسوخ فيه إلا نسقاً عنفياً صغيراً من الأرض كلها غير أنه يشكّل استجابة فعالّة داخل مجرى الخراب العام، وهي بذلك – أي النفايات البشرية – تتخذ مساراً طبيعياً، يظهرها بدورين متلازمين معاً، الضحية التي رماها الدمار إلى أن تستجيب له، ومن ثم لتأخذ دور الجلاد، والقتيل الذي يتجنب القتل بالجريمة.
إنها أطروحة سرد إبادية Genoscide، جماعية كما يحللها علم الضحية Victimology، ويرزح في خضمها الضحايا المحايدين من المجتمع وسط الدمار كأنهم، يدون استجابة فعالًة ليغدوا بعد حين في أعقاب جلاديهم، (جون دوكر، أصول العنف، ترجمة علي مزهر، منشورات جامعة الكوفة 2018).

إن رواية «الدولفين» اعتمدت في إطارها السردي على أفراد وشخصيات نمطية مثل عالم البيولوجيا، الذي يخترع جهازاً لإذابة الجثث، والضبع كقاتل محترف، يدفع عربة الموتى يومياً أمام جهاز العالم البيولوجي، وغيرهما من الشخصيات التي تدور في طاحونة التحلل والانحطاط الى عناصرها الأولية لتُطبق هذه الطاحونة في النهاية رحاها على الجميع في دوران مأساوي دموي. وإذا كانت هذه الشخصيات – الأفراد- محكمة ومتماسكة الدلالة في البناء الروائي، فإن المحتوى السردي، جاء لكي يضمها في أطروحة سرد جماعية أكبر، يرافقها التعبير عن الإبادة الجماعية بوصفها سرداً أسود عبر الحصار الاقتصادي والاحتلال العسكري وتخريب الرموز الثقافية، وما تتواطأ عليه الدول الكبرى والصغرى، ويحبو على أنقاضه القانون الدولي منذ آلاف السنين. وبذلك فان الدال الفردي للشخصيات هو أثر المدلول الجماعي، لتعنيف المجتمع، ونسق عنفي في سياق الخراب العام، الإبادات الثقافية والاقتصادية والجسدية، ويضع مخطط علم الضحية الفرد أمام أكثر من تكيّف واستجابة في وقائع الإبادة مثل الخضوع السياسي أو المقاومة، والأثر الذي يتركه أفراد وشخصيات رواية «الدولفين» هو الاستجابة الاضطهادية الفعالّة لمحاكاة الجلاد، في ما يسعى محتوى السرد إلى التثبيت والتخطي، والوصول إلى الدلالة الأكبر بوصفها ضعة بشرية كاشفة عن السمو الإنساني الآخر.
ولو تسنى للمخطوطة الروائية أن تكتمل بشكلها النهائي، لما كانت بهذا العنوان الذي اختاره، كما ذكر في المقدمة القاص والروائي جهاد مجيد، صحيح أن عنوان «الدولفين» ينسجم تماماً مع البناء الروائي للشخصية المركزية، ويعد رقماً أساسياً إلى جانب الشخصيات المجاورة الأخرى، لكنه لا يتفق مع المحتوى السردي الذي قدمته الرواية القائم على منظور، يوصم هذه الشخصيات كونها أنساقاً عنفية صغيرة، في محيط إرهابي وإبادي عالمي واسع، لذا كانت الرواية تحتاج هذا العنوان الجامع.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية