ـ 1 ـ
الرواية التي حازت جائزة البوكر عام 2020 للروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي، والتي وصفها محسن الموسوي رئيس لجنة التحكيم، بأنها «تتميز بجودة أسلوبية عالية، وتعددية صوتية، في تاريخ الاحتلال الفرنسي للجزائر وملابساته، وكيف تتشكل المقاومة بأشكال مختلفة، وهي بنظامها السردي العميق لا تسكن الماضي، بل تجعل القارئ يُطل على الراهن القائم ويسائله». وكذلك وصفها ياسر سليمان رئيس مجلس أمناء الجائزة، بأنها «ساحرة باستنهاضها للتاريخ بأبعاده السياسية والاجتماعية، لخدمة العمل الروائي الذي يتجاوز هذا التاريخ برمزيته».
وهي رواية تاريخية، لأنها تستمد موضوعها من التاريخ، في الفترة من 1815، وحتى 1833، وهو عصر الانقلاب الاستعماري للجزائر، في 1830، وفق «ميثاق الحرية والنور لهؤلاء العرب ضد مضطهديهم المستعمرين العثمانيين»، بعد أن حكموها لمدة خمسة قرون، عبر تعدد الأصوات وأفكارها وانفعالاتها الداخلية، وخلافاتهم تجاه الواقع القائم، مستقلين عن الروائي، بالتشكيل البوليفوني، الذي رسمه المفكر الروسي باختين.
تبدأ الرواية مع «كافيار» وهو الشخصية الرئيسة، والقائد العسكري الذي انهزم مع نابليون في واترلو، حيث تم إرساله إلى الجزائر في 1816 ليكتشفها بصفته تاجرا، وتعرف إلى شعبها وشوارعها وخيراتها، وألف كتاباً عن إسبرطة حتى يحكمها كقائد عسكري. واستطاع العثمانيون اعتقاله وحولوه إلى عبد لمدة أربع سنوات. وعاد إلى فرنسا قائداً للحملة العسكرية لاحتلال الجزائر، بحجة ضرب الباشا العثماني للقنصل الفرنسي بالمروحة، بعد أن أهانه هذا الأخير. ولم يعتذر الباشا عن فعلته. وكانت المعركة بسيطة لهزيمة العثمانيين وسيطرة الاستعمار الفرنسي، الذي حوّل الشعب الجزائري إلى عبيد، ومن يعترض سيواجه الموت أو السجن. وكان أصحاب القبائل مقاومين للفرنسيين، لكن العرب هم الخطر الأكبر، لأنهم كانوا يقاومون الأتراك والفرنسيين، وكان «المور» أقوياء مع نسائهم، وجبناء تجاه حكامهم. «وكان المور يفضلون الكلاب على المسيحيين»، وكان لليهود قوانينهم الخاصة، بألبستهم الزرقاء، وكانوا ممنوعين من حمل السلاح، أو اقتناء الخيول، مع إنهم كانوا يشرفون على صك النقود والعملات. وهدم الفرنسيون المساجد وحولوها إلى كنائس أو متاحف، ونهبوا القمح وخيرات البلاد، حتى أنهم نبشوا القبور وسيطروا على عظام الموتى، عظام الأطفال والشيوخ والنساء، وشحنوها إلى معامل السكر في فرنسا، لاستخدامها في تبييضه. وكان يردد مع ديبون بأنه «لا شيء هنا لله، وكل شيء للقيصر»، «وحتى البابا نفسه لم يعد يؤمن بالمسيح، من أجل سلطة المال»، «وأنه ليس هناك جدوى من إراقة الحبر، بعدما أريقت الدماء». «إن الشيطان إله هذا العالم يا صديقي ديبون، وإني لمشفق عليك مما يحمله رأسك من أوهام، أنت الذي لا تزال تعتقد أن كل النساء هن المجدلية، وأن كل القادة تجلّ للمخلص».
و«ديبون» الصحافي الفرنسي الذي رافق الحملة، كان مؤمناً بنشر الدين المسيحي والمحبة للشعب الجزائري، وتخليصهم من الاستعمار العثماني، تحت راية الحرية، والإخاء والمساواة، إلا أنه تعرض للصدمة من أفعال القتل والتدمير الذي يمارسه كافيار، بحجة أنه علينا أن نترك المسيح، وأن نفكر بمصالح فرنسا الاستعمارية من خيرات وأموال. وكان يصف كافيار «بالشيطان في هذا العالم». «فالشيطان ليس إلهاً لهذا العالم، بل نحن نغيره على طريق الرب». «ونحن كي نغير العالم نحتاج إلى أفكار كبيرة نؤمن بها، ونقبل على الموت في سبيلها بسعادة». و»ابن ميار» التاجر الجزائري الذي رفض الذل والهوان الفرنسي، كان على علاقة جيدة مع العثمانيين، وحاول فرض شروط لدخول الفرنسيين للجزائر، بحفظهم للأموال العامة والخاصة ودور العبادة. إلا أن ذلك لم يحصل. وحاول في باريس وقف الحملة الدموية للفرنسيين، وسلم موظف الملك كتاباً بذلك، لكن لا جدوى. وكانت السفن الفرنسية تحمل القمح من المحروسة إلى باريس، والناس يتضورون جوعاً ويأكلون خبزاً من القمح الأسود.
و«حمة السناوي» هو الجزائري الثائر ضد الاستعمار العثماني، لأنه لم يكن معبراً عن إرادة الله، فكان جنوده يمارسون الاستعباد والضرائب، وكانت «الحياة في المحروسة شكلا آخر للموت كما يراه في أعين الناس». ونحن الرجال عندما يضطهدنا الحكام نبحث عن أقرب امرأة لنثبت لأنفسنا بأننا أقوياء، مع أن البغاء الحقيقي هو بيد الحكام، حيث كانوا يضاجعوننا بالضرائب والإتاوات. فكل الرجال يتحولون إلى أطفال في أحضان النساء، وأصبح المبغى ملاذهم لأنهم يشعرون بظلم الأتراك. فليس البغاء أن يكون جسدك مشاعاً، بل أنْ تبيع روحك للذي بغى عليك وعلى أهلك. وكان البغاء وسيلة للتسلط على النساء وبيع أجسادهم، وكأنها أجساد الجزائر كلية، الذي يمتهن كرامتهم.
هل يفيدنا العنوان بأن نظام الاستقلال عسكري واستبدادي قاهر للحريات التي نادى بها الشعب الجزائري عند انطلاق ثورته المجيدة، ويعتقل أصحاب الرأي، ويتحكم بالسلطة والدولة باعتباره الوريث الوحيد؟
و«دوجة»، هي الأنثى الوحيدة في الرواية، وهي من عائلة فقيرة، توفيت والدتها، وأخاها الصغير، ووالدها كان يعمل لدى القنصل النمساوي، اعترضه كافيار وضربه وتوفي إثر ذلك نتيجة القهر والإهانة. فحملت صرتها وذهبت إلى السوق، كي تنظف البيوت والدكاكين، كي تعيش. إلى أن صادفها المزوار وأخذها إلى بيته واغتصبها وحولها إلى غانية يقدمها للباشا، وبقية الحكام، إلى أن انتزعها منه السناوي، لأنه عشقها وأخرجها من دار البغاء، وكانت جميلة وقلبها مثل عصفور الدوري لا يتوقف عن الرفرفة، وعندما تغني بصوت ملائكي تكون باللباس الأبيض، وتغطي شعرها بخمار مشنشل تتدلى خيوطه الوردية على جبهتها. وأسكنها في بيت ابن ميار. وقتل المزوار، ولجأ إلى بيتها كي يشفى من جروحه، حيث غادرها إلى الأمير والجيش الثائر، واعداً إياها بالعودة والزواج بها.
وكان واقع الشعب في المحروسة بائساً للغاية. فهم مهزومون على الدوام، ومتخاذلون يجعلون الدين حجة يتبصرون بها. ويطاطئون رؤوسهم، أمام الأتراك والفرنسيين، والمدينة تجعل الناس أكثر جبناً وتقبلاً للغزاة. ويهمسون «إن كل شيء مكتوب من الله»، وهي قدرية الشرقيين، حيث يرددون أن الله هو سبب منع المطر عنهم وبوار تجارتهم، واغتصاب نسائهم، ولأنهم لا يصلون كفاية، ولا يزكون أموالهم، وليس المستعمر الذي يسرق خيراتهم، وسيدعون يوم الجمعة بالفرج القريب، ويرفع عنا الغبن، ويهزم أعداءنا.
ـ 2 ـ
عنوان الرواية «الديوان الإسبرطي» هو مفتاح اللغة السردية للروائي. وفيه يجد القارئ تفاصيله على المستوى الاجتماعي والنفسي لعموم الشخصيات. فالديوان هو مجموعة من الكتابات والأفكار والأوصاف لشيء ما. والاستعارة الشعرية من إسبرطة اليونانية العسكرية، وإيحاء من الروائي بأن المحروسة، أي الجزائر ستتحول إلى منطقة عسكرية ليس موفقاً، حيث كان من الممكن أن يكون العنوان «الديوان الافريقي»، أو «الديوان الشرقي»، أو «العربي». وهل من الممكن أن يكون المحتل ليس عسكرياً وطاغية، وناهباً للخيرات. علماً بأن العنوان لا يتقاطع مع مقدمة جوتة الجميلة، وهو مفكر غربي كتب في الديوان الشرقي، حول توافق الشرق والغرب بأن يقدموا أشياء طاهرة للتذوق، لغير العابرين، وبدون أن نرى أي أثر للمقدمة خلال الرواية، وضرورة التفاعل بين الغرب والشرق وليس النهب والاستعمار. والتشكيل البوليفوني معقول في السرد الروائي، بلغة شعرية جميلة، تصف الشخصيات وتفاصيلها ومنظوراتها وخطاباتها المتعددة، والأمكنة، لكنها مرهقة للقارئ، مع تعدد الأحداث، مع الشخصيات نفسها، بحيث إن الحشو واضح في الكثير من المواقف، وكان للروائي بأناقته الشعرية صوته متردداً مع الشخصيات، ولم يصلنا صوت الشخصية مستقلة. مع أن حبكة الرواية خماسية للأشخاص الفاعلين في الرواية، حيث يتم نفي ديبون وابن ميار إلى فرنسا وإسطنبول، وحمة إلى الجيش الثائر، ودوجة تنتظر الزوج الثائر، بدون أن نرى في الرواية العشق وآهاته مع الحرب، وهذه نقيصة واضحة في الرواية.
العثمانيون مستعمرون وليسوا حماة للإسلام، والفرنسيون مستعمرون أيضاً، وليسوا دعاة للحرية. وحقوق الإنسان، وبالتالي الدعوة للحرية منهم واضحة على يد عبد القادر الجزائري، وحمة التي تنتهي الرواية بالتحاقه بالثوار، وهي ثورة استمرت حتى حصول الاستقلال بعد أن أصبحت الجزائر فرنسية بلغتها وتقاليدها، إلى أن حصل التعريب وأصبحت الجزائر دولة عربية، وبدأت الروايات باللغة العربية التي تتحدث بلغتها الفنية، حول تاريخ الجزائر، ونحن بالحاجة إلى مثل هذه الروايات التي تكتب المسكوت عنه، واللامنطوق والمخفي في نفوس وأفئدة الجزائريين الذين يبحثون عن الغد الأفضل.
والأهم في الرواية، ما تثيره من أسئلة الهوية التي تعاني منها الجزائر؟
هل يفيدنا العنوان بأن نظام الاستقلال عسكري واستبدادي قاهر للحريات التي نادى بها الشعب الجزائري عند انطلاق ثورته المجيدة، ويعتقل أصحاب الرأي، ويتحكم بالسلطة والدولة باعتباره الوريث الوحيد؟ والإسلاميون لم يستفيدوا من رعايتهم «الإخوانية العثمانية»، لوقف تمردهم المسلح، كما تم في العشرية السوداء، بعد خرق الديمقراطية وإلغاء الانتخابات البرلمانية، التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وهل الجزائر دولة عربية وتنتمي إلى الأمة العربية المهزومة، أم افريقية؟ بعد أن أثبت التاريخ مقاومة العرب للمستعمرين، وبعد أن تم التعريب، وما هي علاقة العرب بالمور، أو الأمازيغ؟ وهل استفاد المتملقون للاستعمار ومازالت أجنداتهم فرنسية، بعيداً عن الوطنية الجزائرية؟ وقد يكون للثورة التي أطاحت بالديكتاتور دعماً للحرية والديمقراطية، التي استفادت من الثورة على المستعمر.
٭ كاتب وباحث سوري
يالروعة القراءة