رواية «النشيد الأولمبي»: حيث يمكن أن تكون الحرب أقلّ هولاً

حجم الخط
0

في البيت حيث تعيش مع أبيها، وحدهما بعد رحيل أخيها رواد، مقتولا أو منتحرا، اهتدت علياء إلى لعبة لتمرير الوقت. إسم اللعبة، حسبما اقترحت، هو «عجن الوقت». هي جملة عادية قد لا تعني شيئا يروحان هي ووالدها يستخرجان منها احتمالات معانٍ كثيرة. أهداها إلى اللعبة سماعها لجملة قالها أحد المتكلَّمَين على الطريق لرفيقة هي: لنتّفق قبل أن نلتقي بها». وفيما هي تكمل سيرها كانت تتردّد في رأس علياء المعاني المحتملة، أو المعاني الكثيرة التي من الممكن الوصول إليها من تلك الجملة. ثم خطر لها أن الإسم الذي اختارته لتلك اللعبة (عجن الكلام) عائد إلى شبهها بما يفعل الأطفال بقِطع المعجون محولينها إلى ما يحلو لهم من أشكال.
ثم هناك اللعبة، المولّدة لأفكار عن اللعب الذي لولاه لكانت نزعة الإنسان نحو الألق عبارة عن ضجر لا متناه. كل شيء لعب: النظرة الأولى لحظة وقوع الحبّ ما هي إلا بداية التقاء طفولي على اللعب؛ القتل أحيانا هو تعبير عميق عن الحرمان من اللعب؛ ثم الصدمة الأولى التي يتلقاها الإنسان في وقت مبكّر من حياته إثر رفض الأولاد مشاركته اللعب. علياء ووالدها تعلّقا بعجن الكلام، إذ كانا ما يزالان قادرين على الاشتراك فيه، على الرغم من الأخ المقتول أو المنتحر، وقد انضمّ إليهما في تلك اللعبة بديع، الرجل الآتي من خارجهما ليحلّ ضيفا أو حبيبا محتملا لعلياء.
كان بديع هذا قد استُبعد من قبل لجنة اختيار الممثّلين، هو المهجوس بأن يكون ممثّلا، وهذا ما شكل له صدمة ظلت تلاحقه إلى ما قبل انتهاء الرواية بقليل.
اللعب الأكثر قربا من البراءة هو الذي تفضّله علياء، من قبيل ذلك مثلا ترجيحها أن يكون أخوها رواد قد انتحر ولم يُقتل. بالطبع أن الانتحار أكثر قساوة من القتل، لكن هذا الأخير يولّد عداوة ليس من طبع علياء احتمالها. هي «تدين المخطّطات التي يسير عليها البعض لتحقيق أهدافهم الكبيرة، فهي تتحرّك ببطء يمنحها شعورا عارما بالحرية، وتتعاطى مع العالم كما لو أنه قبلة بطيئة ما بين السماء والأرض»، مع أنها تعيش في بلد لم تكن حربه قد توقّفت بعد. العالم أيضا من حول علياء رائق على الرغم من الزمن الدموي المضطرب. في الدائرة المكانية التي تعيش فيها من مدينة اللاذقية لا نقع، نحن قرّاء الرواية على الازدحام، سواء على الكورنيش البحري، أو في الأسواق. هي أمكنة قليلة تتنقّل بينها شخصيات الرواية، منزل علياء أولا، ثم مقهى زهرة عبّاد الشمس، وأيضا بوتيك الزمن الجميل، وأيضا الكشك الذي يقدّم فيه أبو ريحانة القهوة لزبائنه. المقهى يحمل اسم الابنة المقتولة غدرا على يد رجل من الأمن، أراد اغتصابها ربما. وفي المقهى نبتة ريحان يهزها والد الفتاة الراحلة، من أجل أن يعبق أريجها للحاضرين، ولتذكّره هو بمأساة ابنته.
هو عالم هادئ لا يتوقّف عن تلطيف مآسيه، كما يعمل أيضا على نزع شحنة الغضب تجاه القساة المتجبّرين، من ذلك مثلا عدم ذهاب ضابط الأمن صفوان إلى بالاعتداء إلى منتهاه. ينذر مهدّدا لكنه لا يذهب إلى أبعد من ذلك، وفي الجزء الأخير من الرواية يتحوّل إلى ما يشبه الاعتذار الذي يلي الإحساس بالذنب، فيجلس بين مَن جاء للضغط عليهم كأنه واحد منهم، ليكون بعد ذلك أول الخارجين من البيت الذي تعرض فيه بروفا مسرحية. صفوان صورة ملطفة عن ضابط في بلد أشهر ما عرف عنه قسوة رجال أمنه ووحشيتهم. أما المرحلة التي تنقلها الرواية فهي تلك التي أعقبت حربا مهولة استدعت أن تأتي جيوش ودول لتفتيت سوريا. للضابط صفوان نوع من الرفقة مع طيّار روسي مقيم في قاعدة حميميم، وهذا لا يظهر إلا محتجا على كونه طيّارا مقاتلا. أما الاختلاف بين الضابط السوري والطيار الروسي فلا يباعد بينهما، على الرغم من أن الأخير يظهر في الرواية كعاشق وبطل سابق في لعبة الشطرنج. تنتهي الرواية، بعد خطوة صفوان المسالمة، بجمع شمل الطيار مع علياء، كما جمع شمل الجميع هكذا، بما لا يتفق مع ما كانت الرواية قد بدأت به فصولها الأولى. لم تعد الروايات تنتهي نهايات مسالمة، كما كان يرغب قرّاء سابقون كانت بلدانهم أقل خطرا ودموية مما صارت إليه. لكن ما تميّز به عمل الروائي راهيم حسّاوي هو إبقاؤه القسوة حاضرة في ما تزخر به روايته من تأمل وتفكير بمفارقات العالم، وذلك بتمكّن لا يتراجع عن كلامه حول الكلام واللعب، وأشياء أخرى كثيرة احتوتها فصول الرواية.
«النشيد الأولمبي» رواية راهيم حسّاوي صدرت عن دار نوفل في 175 صفحة لسنة 2025

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية