لِكُلّ من يحلم بالحرية وبالسُهول الخضراء الواسعة وحياة الريف الفرنسي، يُقدم الكاتب الفرنسي سيرج جونكور رواية «طبيعة إنسانية» (Nature Humaine) التي نالت رضا النقاد، وتلقفها الجمهور الأدبي المتعطش لمثل هذه الأعمال، وفازت بجوائز أدبية مرموقة منها، جائزة فيمينا عام 2020 وجائزة فرانسوا سوميه عام 2021 كذلك تمَّ اختيارها كأفضل رواية تتناول موضوع البيئة بشكل لافت.
تستعيد صفحات الرواية الأربعمئة، ثلاثين عاما من التاريخ السياسي والاجتماعي الفرنسي، والتحولات الجذرية لعائلة من المزارعين الفرنسيين «آل فاربييه» في إقليم لوت، وتربط بين الأحداث المحلية والعالمية كما تمزج بين القضايا الكبرى والمصائر الفردية بطريقة بارعة. يلجأ الكاتب في بداية الرواية إلى تشويق القارئ عبر مشهد جّسَّدَ فيه نهاية العالم عشية الألفية الثالثة، حين ضربت عاصفة قوية فرنسا، متسببة بانقطاع التيار الكهربائي ووسائل الاتصال عن مناطق عديدة، ونتعرف خلال هذا المشهد على بطل الرواية ألكسندر المزارع الأربعيني، الذي يوجد لوحده في مزرعة العائلة، وسط خزانات الوقود والأسمدة الكيميائية ويبدو عليه أنه يخشى قدوم الشرطة إلى مزرعته، وهنا يبدأ القارئ بالتساؤل عن أسباب وحدة الكسندر، وماذا حلَّ ببقية أفراد العائلة، ثم يبدع الراوي باستحضار الماضي بواسطة تقنية الفلاش باك؛ ليروي لنا أحداث الفترة الممتدة بين 1976 وأواخر التسعينيات، التي حفلت بأزمات سياسية مهمة وكوارث طبيعية عديدة، بالإضافة إلى التطور التقني الذي غيَّر كثيرا طبيعة الريف الفرنسي وجوهر حياة قاطنيه.
إنَّ اختيار عام 1976 لبدء القصَّة له دلالة مهمة؛ ففي هذه الفترة تسارعت العولمة بشكل مذهل، وغيرت من أسلوب عيش الفرنسيين، كما تميز هذا العام أيضا بموجة حر غير مسبوقة، فاقمت معاناة الفلاحين، الذين ذاقوا الأمَرَّين: فالأراضي الزراعية «تشققت من الجفاف» و«المروج الخضراء اختنقت» والمواشي «نفقت من القيظ والعطش». تقدم الرواية محاكاة ترتقي لمستوى الهولوجرام لمعيشة المزارعين القاسية، بعد أن ألقت التغييرات المناخية بظلالها على حيواتهم؛ فنشهد مع ألكسندر اندثار الزراعة التقليدية تحت وطأة المنافسة الخارجية المحتدمة؛ حيث يضطر آل فاربييه لإيقاف زراعة الزعفران في أراضيهم، بسبب عدم قدرتهم على منافسة البديل الصيني المستورد، الذي أغرق السوق الفرنسي وبأسعار منافسة جداً، ويلجأ آل فاربييه إلى التربية الحيوانية الكثيفة في مزرعتهم لزيادة الإنتاج، وليتمكنوا من المنافسة وبيع اللحوم للمتاجر الكبرى المُبرَّدة، التي بدأت باجتياح الريف وإغواء أبناء القرى؛ وهذا ما يدفع العائلة لتكثيف زراعة فول الصويا والذرة واستخدام الأسمدة الكيميائية، بهدف تسمين الحيوانات، ممَّا يُفضي إلى إفساد الأراضي بمادة نيترات الأمونيوم، ونتعرف كذلك على أزمة النزوح الريفي إلى المدن، التي تسببت بإهمال الأراضي الزراعية التي أصبحت بورا ، وفي المقلب الآخر يسرد الكاتب مشاكل الفلاحين مع الحكومة الفرنسية، التي حاولت مصادرة أراضي منطقة لارزاك لصالح الجيش الفرنسي، ويحكي لنا عن نضال المزارعين ضد هذا المشروع بغية إسقاطه.
سيرج جونكور هو في الحقيقة بارع في أدب النوستالجيا، وأستاذ متمكن من سرد حقبة زمنية بأكملها؛ حيث يكرر الإشارات إلى تاريخ أوروبا بشكل عام، وفرنسا بشكل خاص، كالمنافسة الحامية بين فاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران، إبان الانتخابات الرئاسية، ونجاح الاخير في الوصول إلى سُدَّة الرئاسة، وكما يُؤرخ لنا لحظة سقوط حائط برلين، وتوحيد ألمانيا الشرقية والغربية. يُلقي الراوي الضوء على عدة كوارث بيئية، منها حادثة تشرنوبيل، التي توجس الفرنسيون خلالها من وصول الإشعاعات النووية إلى بلدهم. وتعكس الرواية بشكل خاص ثقافة فترة الثمانينيات من انتشار هواتف الباكليت ذات اللون الواحد في كل البيوت الفرنسية، إلى ظهور أجهزة الميني تيل، التي أحدثت حينها ثورة في عالم الاتصالات، وسمحت للمستخدمين الاطلاع على أسهم البورصة، والدردشة بطريقة مشابهة للمحادثات التي تتم الآن عبر الويب؛ فيجعلنا الراوي نعيش مع الشخصيات فترة اقتحام محلات السوبرماركت الكبرى حياة الفرنسيين، وطغيان النزعة الاستهلاكية؛ فنرى عائلة آل فاربييه تنطلق بسعادة كل سبت لزيارة المتجر الكبير وشراء بضائع لا يحتاجونها فعلا، وكما لا تخلو الرواية من المواقف السياسية، حيث يُوجه الكاتب بشكل خاص من خلال هذه الرواية التحية إلى ميتران، ويعتبر وصوله للحكم انتصاراً كبيرا لليسار الفرنسي، وقيم العدالة الاجتماعية والعودة إلى الطبيعة ويقول عنه: «إنه مثقف ريفي صديق للأزهار».
سيرج جونكور يوقع هنا على كتاب مقدس وفير الثيمات، ويمزج بين الملحمة العائلية واللوحات التاريخية والاجتماعية لفرنسا، ويعكس القضايا السياسية والاقتصادية للعولمة. رواية تستحق التأمل، تغمرها الموجة الخضراء للمناظر الطبيعية الهادئة، والمروج المخملية.
رواية «طبيعة إنسانية» نابضة بالحياة مليئة بالسحر تعيدنا إلى ماضٍ جميل نفتقده اليوم، فبعد قراءة هذا الكتاب، ندرك أن كل ما نريده هو العيش في الريف واستنشاق حبوب اللقاح، وقيادة جرار زراعي وإبطاء الوقت. ربَّما نتمنى نحن كقراء لو أن بعض الموضوعات قد عُولجت بشكل أكثر عمقًا، لكن مشروع المؤلف هو استخدام التاريخ كإطار كثيف لمخططه الرومانسي، لأن هذه الرواية مليئة بالعواطف والأحاسيس. لقد تم إعداد الشخصيات بعناية، كشخصية ألكسندر المحببة، وهو إنسان رائع يمكننا رؤيته وهو يكبر وسط المروج الخضراء ويفكر ويتساءل عن ما قد يخبئه المستقبل. كان ألكسندر يعتقد أن عالم المزارعين غير قابل للتغيير، لكن التطورات التقنية والاقتصادية المتلاحقة تجتاح عالمه الصغير وتعبث به، وهو يمثل في هذه الرواية كبش الفداء الذي يضحي بنفسه من أجل عائلته، ويبقى في الريف بغية الاعتناء بمزرعة الأسرة، بعد أن استسلمت شقيقاته لإغراءات مدينة تولوز وهجرن المزرعة العائلية. بما أن الحب ليس دائما في متناول اليد، يقع الشاب في غرام كونستانز، وهي طالبة من ألمانيا الشرقية، تشترك في السكن مع إحدى أخواته في تولوز، ولإثارة إعجاب جميلته وعدم الظهور أمامها بمظهر الجاهل؛ فإن رجلنا سوف يتورط بشكل خطير مع ناشطين يعارضون محطة غولفيتش للطاقة، ويساعدهم بتوفير الأسمدة الكيميائية من أجل تفجير مواقع المنشآت النووية، ما يعرضه لمشاكل أمنية عديدة في ما بعد. هناك أيضا شخصية عظيمة أخرى من النوع المتمرد والمقاوم للتقدم، وهي شخصية العجوز كرايساك، أحد الجيران الذي شارك في كفاح لارزاك ضد الحكومة الفرنسية، وهو من المناهضين بشدة للتربية المكثفة، وللتطور التقني ويحاول الكفاح ضد العولمة، من خلال رفضه إدخال الهاتف وجهاز التلفزيون إلى منزله، وعبر محاولاته منع مشروع الطريق السريع الذي يربط فرنسا بإسبانيا، ولا ينفك يردد طوال الوقت بأنَّ «التقدم هو آلة سوف تسحقنا جميعا».
هذه الرواية هي ملحمة ريفية وترنيمة غنائية تحتفي بشعر الحياة والطبيعة الموصوفة بالرواية بشكل رائع. يعطي سيرج جونكور للأرض بُعداً روحانياً مشوقاً؛ فيشعر المرء بأنه على اتصال بالقوى المحركة للطبيعة. يحاول الكاتب من خلال سردية الانهيار البيئي أن يجعلنا نفكر في العالم الذي نعيش فيه، ويتمكن بمهارة من إيقاظ الضمائر ودفعنا لمواجهة مآزق عصرنا قبل فوات الأوان. يرفض الكاتب الرؤيا المركزية التي تعتبر الإنسان هو المخلوق الأهم على سطح الكوكب، الذي يحق له استغلال الأرض وموارد الطبيعة كما يشاء لتحقيق أهدافه الشخصية، ويدعونا لاحترام البيئة وعناصرها كافة، واعتبار الإنسان جزءا من هذه الطبيعة وليس سيدها ومالكها؛ لذا عليه التصرف بطريقة تحفظ التوازن البيئي من أجل مصلحته الشخصية ومصلحة الكائنات الأخرى من نباتات وحيوانات.
يثير الراوي أيضا مسألة الانجراف الحالي نحو الزراعة المُعدَّلة وراثياً، وإساءة استخدام المبيدات، وفضيحة العجول المغذية بالهرمونات، فنرى العجوز كرايساك يُعَبِر عن قلقه من الاستخدام المفرط لكل هذه المواد الكيميائية، محذراً من خطرها الكبير على البيئة. في أحد مشاهد الرواية، يأتي أحد رجال الأعمال إلى مزرعة آل فاربييه لتصوير إعلان عن اللحوم ويستغل كاتب الإعلان صور المروج الخضراء في المزرعة، لتسويق منتوجه، ونرى الوالد يشعر بالإطراء لرؤية ديكوره يُستخدم «لبيع الأحلام» لكن في الوقت ذاته فهو يشعر بالإهانة؛ لأن اللون الوردي في شرائح اللحمة هو نتاج التغذية القسرية «بالنترات والأصباغ».
رواية «طبيعة إنسانية» هي فرصة أيضا لعشاق الطعام الشهي، فهي تستثير حاستي الذوق والشم لدى القارئ؛ فيستمتع مع الشخصيات بمذاق الأطباق اللذيذة التي تحضرها الأمهات في المزارع: «الدجاج المشوي الذي تنتشر نكهته على جانب التل كله» و«بطاطس دوفين مع ضلع الخروف المشوي» و«فطيرة التفاح أو الكوسا الشهية» ورائحة الخبز الشهي التي تنبعث من الفرن… كلها أشياء لذيذة تُسيل لعاب القارئ. يخاطب الكاتب في روايته أيضا حاسة النظر من خلال رسم لوحات غنية بالألوان فنتخيل معه: «الشعر الأشقر المجعد لكونستانز» و«مروج الزهور الزرقاء من النعناع البري» وأيضا «جانب التل المطلي بلون الزعفران البنفسجي» و«عناقيد التبغ ذات الأزهار البيضاء».
سيرج جونكور يوقع هنا على كتاب مقدس وفير الثيمات، ويمزج بين الملحمة العائلية واللوحات التاريخية والاجتماعية لفرنسا، ويعكس القضايا السياسية والاقتصادية للعولمة. رواية تستحق التأمل، تغمرها الموجة الخضراء للمناظر الطبيعية الهادئة، والمروج المخملية. هذه الطبيعة التي لا يريد الفلاحون رؤيتها مشوهة بسبب التغييرات المناخية التي ترافق الانفتاح الاقتصادي والعولمة. رواية مفعمة بالحيوية، تضج بالحياة والحب، يخدمها إتقان الكتابة السينمائية والمتعة البصرية والذوقية .
كاتبة من لبنان