رواية «قابض الرمل» لعمر خليفة: مرويات النكبة… ماذا بعد؟

في روايته الصادرة حديثاً يتوجه عمر خليفة، إلى مخزون الوعي الكامن في معضلة الهوية، التي لا تنسحب على ذاته، بوصفه فلسطينياً وحسب، إنما تقع في مجال الأنا الفلسطينية الجمعية، عبر اجتراح تصور سردي جديد يخالف السائد – وربما يكون صادماً إلى حد ما – حيث تتبنى الرواية نزعة ناقدة لوضع مثالي بات أقرب إلى خطابات السلوى، التي تحتفي بالجرح، ولا تبحث عن خلاص منه.

الهوية ومرويات ما بعد الحداثة

ضمن قراءة تفكيكية فإنه يمكن القول بأن قبضة الذاكرة والهوية وثنائيتهما تبقى إشكالية على مستوى التخيل والغايات السردية، على الرغم من أن عمر خليفة يسعى إلى نقضهما، بيد أنه وقع في شركها، انطلاقا من مبدأ الاختيار – وإن اتخذ استراتيجية هجائية – وهذا ينتج عن موضوع الرواية، وثيمتها التي تتجه في خطابها إلى بناء سردية مضادة لخطابات الارتهان لمرويات الذاكرة، وبكائية الماضي، حيث يعلق الوعي الفلسطيني بالمنقضي من الحدث، والذاكرة، واستهلاك الحدث الذي لا ينفك أن يُعاد إنتاجه ضمن واقع أرشيفي أو متخيل، عبر تمظهرات متعددة من الصيغ التعبيرية.
القارئ للرواية يلاحظ بنية مغايرة لا على مستوى الخطاب الأيديولولجي، والقناعات التي تنطلق منها الرواية بوصفها نصاً متخيلاً – بمعزل عن قناعات (الروائي لا الراوي) – فهي تحتمل وجهة نظر ربما تتخذ طابعا توافقياً من لدن المؤلف، أو ربما تبقى صيغة أقرب للتأمل لا غير. يكتب عمر خليفة في مناخات ما بعد الحداثة إذا ما أردنا أن نمارس نوعاً من الاقتحام لسياقات العمل، ومتعالياته الدلالية، كما المنطلقات التي بُنيت عليها فكرة الرواية، ولكنها مع ذلك تبقى صيغة قابلة للانتهاك والأفول، كونها تستجيب لتأويلات النقاد، ومحاولتهم تلمس لاوعي الكتابة، وحدودها سواء أكان في علاقتها مع ما يكمن خلفها، أو في تحررها النهائي من الأيديولوجيا.
لا يمكن أن ننكر بأن مقولة تجاوز الذاكرة، والوعي الضيق لسرديات الهوية قد بات أقرب إلى شبهة ما بعد حداثية، فالأخيرة تسعى لتذويب كافة الخطابات الجامدة، وتمييعها، والتحرر منها بوصفها لا تستجيب لصيغ العصر، وهو ما يتعلق بمفاهيم القوميات الضيقة والجماعات، وإذا كان عمر خليفة في روايته «قابض الرمل» – الصادرة عن الدار الأهلية للنشر في عمان 2020- يعلن عن نوايا (المعنى) كون قابض الرمل لن يملك شيئا سوى الفراغ، بعد أن تتسرب ذرات الرمل من بين يديه، وهنا نقرأ إدانة للوعي الضيق، العالق بصيغ الخطابات التي تسعى لاجترار حكاية النكبة، وسقوط فلسطين، كونها تقع في مجال من السلبية التي تختزل الوجود في رؤية ماضوية استرجاعية، لا تحفل بالفعل، أو أي منظور استراتيجي للمستقبل.
وإذا ما نظرنا إلى هذا الوعي المتولد فإنه لا يمكن لنا أن نحاكمه، أو أن نرفضه كونه يقترب من الصواب، فالرواية تعلن في غير موقع، ولا سيما عبر بنيتها المتخففة من أنماط الرواية العربية الشائعة، أو التقليدية ذات الطابع الآمن، أو المتناغم مع وعي القارئ، خاصة على مستوى مغايرة بنيتها، ونبرتها، ولغتها القائمة على محاولة خرق النمط المثالي لمتخيل شائع، أو كما التخفف من تحقيق الإيهام، انطلاقاً من كلاسيكية الرواية على النمط البلزاكي، فعمر خليفة يدرك أنه متحرر من هذه الرغبات، التي تسكن بعض الروائيين؛ فيكتب نصاً متخففا (سردية مضادة) تقترب من تصورات ما بعد الحداثة، التي قوامها حبكة تحتمل نمطاً من أنماط الصدمة على مستوى الفضاء الكلي، في حين أنها تنطوي على سخرية تمارس سطوتها من الشكل، والصيغة، وبالتحديد التهكم من منظورات جمعية، كما الادعاءات التي تثقل كاهل المكون الفلسطيني المتصل بهويته؛ عبر تأكيد الانتماء المستمر في أوطان اللجوء، ومنها حساسية التعبير، التي تتجسد أو تختزل بالكوفية، ولونها، أو عبر رموز الطعام، والموسيقى، والتراث الفلسطيني. إنها متعلقات الفلسطيني التي يتوارثها جيل بعد جيل، ولكنها باتت أقرب إلى طاقة فقدت طاقتها الكامنة، وأمست شكلانية تستهلك هذا الوجود المهدد بالتلاشي، ولا سيما مع التحولات الجديدة التي نشهدها حالياً من حيث التواطؤ على فكفكة قداسة القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى قضية منجزة لا تستحق تلك الهالة التي سكنت في الحاضنة العربية، التي آمن فيها الفلسطيني لعقود، غير أنه ـ مؤخراً- اكتشف هشاشتها، ولا حقيقيتها. ولعل هذا النير على عاتق الفلسطيني يبدو مجسداً في متلفظات سردية تحملها الشخصيات ومنها:
«وجدت نفسي أخبرها برغبتي ألا أكرر تجربة أبويّ، لا أريد أن يتحول البيت إلى حكاية فلسطينية أخرى، ننام ونصحو ونأكل ونشرب ونتشاجر ونشتم على أخبار فلسطين».
ثمة تجاوز لكسر نمط الشخصية الفلسطينية، التي تتشابه في وعيها، حيث تنتفي الذاتية عنها كونها دائمة الارتهان لقضية ما، في حين أن القضية تبدو أكثر عمقاً من فكرة الانتماء لإحدى الفصائل، أو قراءة أشعار دوريش، وروايات غسان كنفاني، ثمة إزاحة لتمكين الفلسطيني بوعيه المجرد، أو الإنساني لحياة عادية ربما تخلو من النضال، لكنها لن تعني عدم الإيمان بفلسطين، ربما نقرأ هنا تساؤلاً مدفونا في وعي الكثير من الفلسطينيين، أو كما تعبر عنه إحدى الشخصيات: «بقيت رجلا عملياً لا أنخرط في السياسة كثيرا، وأظن أن موقف أبي من ماضيه أثر سلبياً فيّ. أحببت القراءة وقرأت بعض أعمال غسان كنفاني ودرويش ومذكرات قادة فتح وغيرها، ولكنني لم أكون موقفا محدداً. لست «جبهة» ولا «فتح» ولا «حماس»، أؤمن بفلسطين كغيري من فلسطيني الشتات، لكن حياتي العملية ظلت خالية من أي شكل نضالي».

منطق الرواية يبقى قريباً جداً من إثارة النقد، وربما الرفض كونها تنقضّ على مركزية وجودية في الوعي الفلسطيني، ففعل السرد في إطار المروية لا يقل أهمية عن المقاومة، فثمة اشتباك لغوي وثقافي دائم، ولاسيما إذا ما نظرنا إلى النتاجات الصهيونية، التي لا تفتأ تروي تاريخها، وتعلق بشكل خاص في مروية الهولوكوست.

استعادة المروية.. وماذا بعد؟

هذه الصيغ المجردة تحضر عبر شخصيات الرواية التي تتكون من مجموعة من الصحافيين الشباب والبنات، تسعى للقيم، بحوار مع رجل عجوز فلسطيني عايش النكبة في مدينة عمان الأردنية، غير أن مساعيهم تصطدم برفض العجوز سرد حكايته، أو سرد حكاية النكبة، فتتوالى المحاولات ضمن مفارقات وأحداث ذات طابع ساخر، يكاد يقترب من مشهدية النموذج المسرحي، حيث السرد يتحرك ويعلق بالفعل، كما الحوارات والسرد المشهدي.
يلاحظ أن عائلة العجوز الفلسطيني، ولاسيما الحفيد ينخرط في اللعبة، إذ يسعى لإقامة علاقة مع إحدى فتيات المجموعة الصحافية، أو لعله يشتهيها، مع بروز تداعيات تتصل بجده والتساؤل عن رفضه التصريح بذاكرته عن أحداث النكبة. تبدو علاقة الحفيد مع الجد ذات طابع إشكالي، فكلا الشخصيتين تقعان على طرفي نقيض من حيث الحكاية، فالأول يمتلكها ويرفضها، في حين أن الثاني يتوق لسماعها، وبينهما قضية تختلف طريقة معالجتها، أو النظر إليها، حيث الجد يؤمن بأنه لا فائدة من القول ما دامت فلسطين قد ضاعت، كما نرى في مشهد ختامي من الرواية، فلا جرم إذن أن يتحول الحفيد للبحث في ماضي جده، لا عن حكاية جمعية، إنما عن ذاتيه الجد، وحضور المرأة أو الحب أثناء النكبة، وكأن ثمة رسالة مضمرة تنص على إنسانية الفلسطيني، ومقاومة اختزال تاريخه بحدث تاريخي يكاد يطمس أي ملامح أخرى، حيث جاء على لسان الحفيد: «لا أريد معرفة شيء عن النكبة، ولا عن حياتك قبلها وبعدها. أود فقط أن أعرف عن علاقاتك مع المرأة».
ثمة حيرة في معالجة الحدث، هل نعتني بالكيفية؟ أم بالنتيجة، ومن هنا يتقدم هذا السؤال «وماذا بعد ذلك؟» فلا جرم – إذن- أن يضيق العجوز ذرعا بالأسئلة التي تؤذي وعيه، أو كما يطلق عليها نكبته، أو ذكرياته؛ فيتساءل عن أهميتها، ولاسيما بعد أن يخطف الصحافيون حفيده للضغط عليه، أو لإجباره على الحديث فيقول: «ماذا ستفعلون بها؟ هل ستضعونها في متحف أم تنشرونها في كتاب كي يطلع عليها الناس، ويضربون كفا بكف ويشعرون بالأسى تجاهنا؟ ذكريات. لم يثر حنقه في حياته بعد كلمة إسرائيل أكثر من هذه الكلمة».
الحفيد والصحافيون، أو معظم الشخصيات ينزع عنها أسماء الأعلام، وتعلق بالصفات، منها القائد والخائن والخائنة والمترجمة كما الحفيد والأب والجد وغير ذلك، وهنا نرى قيمة للتجرد بغية خلق نموذج سردي، لا يحفل بصيغ المطابقة للواقع، إنما ببناء تكوين منزوع عن العالم، الذي يماثل تمثلات الرواية الجديدة التي تسعى لنقض واقعية الشخصيات المباشرة، كون العالم لم يعد العالم كما ندركه، إنما هو نموذج مختزل لحيوات تتشابه في كل مكان، كما تحمل القدر نفسه من متخيلها تجاه أزمتها، فالفلسطيني يتماثل في كل مكان بالعالم عبر تعلقه برموز هويته؛ بوصفها محاولة التعويض عن تشقق هويته، وقضمها المتكرر من خلال تقادم الزمن، واغتراب المكان، وصعود المؤمرات و«محاولة الاستفادة من هذه القضية» كما جاء في الرواية عبر إحدى الحوارات.
تتخذ محاولات المجموعة الصحافية التي تبدو شخصياتها مأزومة، ومتنافرة إلى حد ما، فشخصية الخائن والخائنة بعلاقاتهما غير المشروعة، بالإضافة إلى القائد والمترجمة كلها تحمل وعياً مضمرا لنصية وظيفية، ودلالية ما، كالخيانة والقيادة والترجمة كونها تعاني من أزمات، وليست منتجة على المستوى الفعلي، فحتى علاقتهم مع فلسطين تبدو مضطربة من حيث الخلط بين ألوان العلم الفلسطيني، أو التعلق بطبق المقلوبة، هكذا تنشأ العلاقة مع فلسطين مختزلة، وحين تحضر النكبة لتكون تقريراً صحافيا تبدأ الأحداث ضمن سلسلة من الوقائع، التي تروى بنمط الراوي العليم الكلي، فتحمل وجهة نظر الشخصيات، ورؤيتها الكلية للمأزق الذي تعانيه، فهناك من يفسر رفض العجوز للحديث بأنه نتاج (الصدمة)، وهكذا فثمة تأويل نفسي لهذا الرفض، غير أنه يبقى أمراً هامشياً، كون النتيجة بدت أكبر من التأويل، والبحث في الأثر، أو كما يقول الجد، بأن ثمة من يسعون للحكايات، أو كما يطلق عليهم (لصوص الحكايات) عند وقوع أي مأساة. وهكذا فإننا نعلق بين وجهتي نظر، يبرزها الفصل الذي عُنون باسم «وبعدين»، فالجد يصر على عدم التحدث، في حين أن الأب يرى أن الصمت سيعني تلاشي الوجود الفلسطيني على مستوى اللغة: «إن الفلسطينيين خسروا كل شيء، ولم يبق سوى الذكريات، واجبنا هو أن نحافظ على ذاكرتنا ونورثها لأجيالنا القادمة كي يعرف العالم ما جرى». غير أن الجد يسارع للقول أو الرد: «عرف العالم شو صار وبعدين؟ ».
وختاماً، فإن منطق الرواية يبقى قريباً جداً من إثارة النقد، وربما الرفض كونها تنقضّ على مركزية وجودية في الوعي الفلسطيني، ففعل السرد في إطار المروية لا يقل أهمية عن المقاومة، فثمة اشتباك لغوي وثقافي دائم، ولاسيما إذا ما نظرنا إلى النتاجات الصهيونية، التي لا تفتأ تروي تاريخها، وتعلق بشكل خاص في مروية الهولوكوست، التي مارست نفوذاً كونيا للحصول على التعاطف، ولا يمكن أن ننكر أن أي تجسيد مادي ينبغي أن ينطلق من اللغة، والفكرة، ولكننا نؤمن أيضاً بألا تتحول هذه الخطابات إلى كيان يحجب عنه الفعل، وألا يتحول إلى مسألة تعويضية تختزلها استعادة المرويات.

٭ كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد العربي التونسي:

    في روايته الصادرة حديثاً يتوجه عمر خليفة، إلى مخزون الوعي الكامن في معضلة الهوية، التي لا تنسحب على ذاته، بوصفه فلسطينياً وحسب، إنما تقع في مجال الأنا الفلسطينية الجمعية، عبر اجتراح تصور سردي جديد يخالف السائد – وربما يكون صادماً إلى حد ما – حيث تتبنى الرواية نزعة ناقدة لوضع مثالي بات أقرب إلى خطابات السلوى، التي تحتفي بالجرح، ولا تبحث عن خلاص منه.
    قرأت هذه الفقرة عدة مرات ولم أتوصل إلى فهم مقاصد الكاتب، لا أعرف لمن تكتب هذه المقالات هل لتقرأ أم فقط ليقال عن كاتبها فلان كاتب.
    أقرأ للعقاد وطه حسين ومي زيادة وجبران وأقرأ لواسيني الأعرج فأفهم الكثير مما كتبوا.
    هل انحطت اللغة العربية حتى في نثرها بعد شعرها المليء بالتعقيد والرمزية فبات الأدب العربي يحتضر، أصبح بعض كتاب القدس العربي يتنافسون على التعقيد والإبهام وهذا بطبيعة الحال ينفّر القراء والدليل أن التعاليق قليلة جدا.

اشترك في قائمتنا البريدية