من المفارقات الغريبة في «قالت ضحى» دار الآداب، بيروت: 1999 لبهاء طاهر، أن العنوان مع أنه يوحي بدور أساسي لضحى، إلا أن من يقرأ الرواية يتوصل لنتيجة أخرى. فالدور الذي تؤديه ثانوي، بل هو أقل من ثانوي، والدور الرئيسي الذي يحتل موقع البؤرة في الحكاية، هو دور سيد القناوي، إلى جانب السارد الذي يأتي دوره في المرتبة الثانية.
يعود بنا المؤلف إلى بداية ستينيات القرن الماضي عندما بدأت حكومة الثورة – ثورة 23 يوليو/تموز- تتخذ قرارات التأميم، والتحول من النظام الإقطاعي إلى الاشتراكي. وسيد مواطن مصري متزوج ولديه أولاد، وهو صعيدي في الأصل، ذاق هو وأسرته الأمرين من الباشاوات وملاكي الأراضي حتى إنه، وقد بلغ من العمر ما بلغ، ما يزال يذكر كيف صفعه أحدهم لأنه لم يترجّل عن ظهر الحمار كأبيه عندما رأى أحد الباشاوات ماشيا من غير عربة أو دابة.
يعمل سيد هذا مناديا في موقف لسيارات الأجرة، مقابل قروش، والكل ينهره. خد يا ولد يا سيد، روح يا واد يا سيد، يا واد ياسيد تعال. ضاق ذرعا بهذا العمل فسعى للتخلص منه والبحث عن عمل في الوزارة، فجاء إلى السارد ـ وهو خريج كلية الحقوق، ويعمل في قسم التدريبات الإدارية، وطلب منه أن يتوسط له ليعمل في الوزارة أيَّ عمل كان. فوعده أن يتكلم مع حاتم بشأنه. فوعده حاتم خيرا. وتشعب الحديث مع هذا ليذكره بموضوع البعثة التدريبية لروما، وهي تقتضي أن يسافر لبضعة أشهر يتلقى بعدها مكافأة مالية تضاف لمرتبه، فتساعده على توفير المتطلبات الدنيا لزواج اختيه سميرة وسعاد. قال له حاتم تأخُّر البعثة سببه تقصيرٌ منك، لأنك لا تسعى لذلك. وسِّطْ ضحى. ثم تابع «هذه السيّدة مسنودة. عُيِّنت بمكافأة كبيرة خارج الكادر. وبقرار من وكيل أول الوزارة». كانت ضُحى هذه، مثلما يذكر السارد، رفيقته في المكتب، وهي تجيد عدة لغات كالإنكليزية والفرنسية والإيطالية. وتميل لقراءة الروايات، فقد ذكر أنها كانت تنكبُّ على قراءة رواية «الأمل» لأندريه مالرو. ومنذ ذلك الوقت، الذي تكلم فيه مع حاتم عن سيّد، تقاربا، ولا يكاد السارد يعرف لماذا. فقد اعتادا مغادرة المكتب يوميا معا، والسير مسافة قبل أن يفترقا هو للأوتوبيس المتجه للعباسية وهي لحي الجزيرة، ثم يتكرر الحديث عن لقاءات تجمع بينهما في مقهى، أو في حديقة لا تعوزها النباتات والزهور ونوافير المياه. ومع أن ضحى متزوجة، إلا أن السارد لم يبالِ بذلك. وذات يوم أخبرته بما يحتله زوجها شكري من مكانة في نفسها، فهو «أقرب إنسان لديها» كان واسع النفوذ قبل الثورة، وكان يعمل في الوزارة، لكنهم استغنوا عنه وأحالوه للمعاش. وصادروا ما يملكه من أراضٍ. لجأ بعد هذا للقمار ليعوّض ما خسره. فهو»يحاول أن يسترد بالحظ ما خسره في التاريخ». ولا يخفي السارد إعجابه بضحى، وبجمالها الخارق، إذ لا يستطيع من يقع بصره عليها إلا أن يهيم بها، عدا سيد القناوي الذي اتخذ منها موقفا آخر منذ رآها في المكتب. واتسمت علاقته بها بالعداء.
وبانضمامه للعاملين في الوزارة، بدأ سيد يثير المشكلات، انضم لنقابة المستخدمين، وخاض الانتخابات، وأصبح عضوا في المجلس. وتبعا لذلك طالب بإنصاف المستخدمين الذين تحسم من رواتبهم أيام الجمعة.. عملا بأقوال الرئيس: محاربة الفساد، وإنصاف المظلومين. إلا أن سيدا هذا لم يكن يتوقع استدعاءَهُ للخدمة العسكرية. وما هي إلا أسابيع حتى تم إرساله إلى اليمن مع الجنود للقتال إلى جانب الثورة ضد الإمام البدْر، وجنده. في الأثناء حان وقت السفر إلى روما. وفوجئ السارد بضحى، ولم تكن من المشتركين بتلك الدورة، تسافر معه، وكانت العلاقة بينهما قد تطوَّرت كثيرا. وقال لنفسه مرارا إنه غارق في حبها حتى (شوشته) وحاتم قال له شيئا كهذا «يا رجلُ. أنا أعرفك مثلما أعرف نفسي. أنت غارق في حبها. وعمك حاتم لا يخفى عليه شيء». وكان قد كشف عن ذلك عندما عرضت عليه شقيقته سعاد فستانا وطلبت إبداء رأيه، فقال «لا يناسبك هذا اللون يا ضُحى» فضحكت قائلةً ياه. من .. من.. هي الست؟».
من هذا يتَّضح أن سيدا هو الشخصية الرئيسة في الرواية لا ضُحى، ولا السارد، الذي يؤدي في الكثير الأعم من المواقف دور الشاهد، أو همزة الوصل بين الشخوص، أو الشاهد على ما يعتري الثورة من فسادٍ ورَشوة.
ويلاحظ السارد على ضُحى أنها هي الأخرى تحبّه، وذلك واضح في التماع عينيها «كنت أرى وأعرف. هذا المساء فقط أعترف لنفسي بأني أنا أيضا أحبك» لكن هذا الحب تراجع أثناء وجودهما في روما. على الرغم من أنّ كلا منهما ازداد معرفة بالآخر. عرفتْ مثلا أنه وحاتم درسا في مدرسة واحدة. وفي كلية واحدة. وتخرجا في دفعة واحدة. وأنهما كانا شقيَّيْن، لا تفوتهما مظاهرة. وأنه ضَعُف مرةً، وكاد يشي بمن حرضوا على التظاهر. أما حاتم فبعد الثورة انضم لهيئة التحرير. وأما هو فعزف عن النشاط السياسي، لأنه «ليس كبيرا بما فيه الكفاية». لكن هذا الذي ليس كبيرا واجه الإيطالية (باولا) بحسم عندما خاطبته بإنكليزية ركيكة قائلة: أنتم في مصر اشتراكيون. تطردون الأوروبيين. وتذبحون اليهود. إلى غير ذلك من أقوال راجت عن مصر في تلك الحقبة، فرد عليها ردا حازما، وقال: عندما كنتم أنتم في أوروبا تذبحون اليهود كانوا عندنا مواطنين عاديّين، وأكثر من عاديين. كانوا يملكون ثرواتٍ هائلة، ومنهم باشوات وَوُزراء».
وتبدو علاقة السارد بضُحى علاقة لا تختلف عن علاقاته بغيرها من نساء عرفهنَّ. وبما أن تلك العلاقات انتهت بالإخفاق، فإن علاقته بضحى لم تكن أحسن حالا، ولا مآلا. فعندما عادا من البعثة، وجدا في انتظارهما حاتم، وشكري زوج ضحى، وسميرة. وفي الوزارة وجد سيدا على كرسي من الكراسي الخاصة بالمعاقين. وفُجع بذلك. لكن سيدا قال ببساطة «يا أستاذ أنت المفروض أنْ تبارك لي. سآخذ تعويضا كبيرا. يكفي لأبني بيتا للأولاد. سيعطونني أولوية في قرعة الحج. سيركبون لي ساقا يقول الأطباءُ إنها أحسن من الطبيعية. ابتسمتُ. وقلت: كلّ هذا لا يساوي تضحيتك يا سيّد».
وعودا على بدء، يحاول سيد أن يقول الحقيقة عما شاهده في اليمن. اقترب من السارد الذي يؤدي في هذا الموقف دوْر الشاهد، وهمس في حذر: «رجالنا بعضهم حارب كالرجال. وبعضهم.. كانوا يشحنون الطائرات بالثلاجات والغسالات والسجائر الأجنبية إلى مصر. هؤلاء في ساعة الجدّ.. ولم يُكمل». وهذا الحوار له ما له من تبعاتٍ لاحقا. فإذا تجاوزنا هذيان السارد بعد رؤيته حاتما يقبل ضحى في مكتبه. وتجاوزنا ماعلم به من فتور العلاقة بينها وبين شكري، وبينها وبين الإدارة، فنقلت بقرار من وكيل أول الوزارة لمكتبه. وقطع علاقته بحاتم الذي خانه في أقرب الناس، إذا تجاوزنا هذا كله، ينصبُّ الاهتمام على سيد الذي كشف النقاب عن صفقة فساد ظنَّ لأول وهلة أنها ستودي بوكيل الوزارة في ستين داهية» فعمّال الوزارة يبنون له فيلا، وساعات عملهم تلك تحسب ساعات إضافية تُصرف أجورها من ميزانية الوزارة». وفي هذا الموقف يتذكر سيد كلمات الرئيس التي يكررها في كلّ خطاب: يجب أن نحارب الفساد. وسلطان بيك َوضُحى يتقاضيان الرشوة، وبدَلاتِ اجتماعاتٍ وهمية. ويخبر الساردَ عن إدارة ضُحى للقمار في بيتها «قلْ للأستاذ حاتم ألا يذهب ليلعبَ القمار في بيت مدام ضُحى. البوليس على علم بما تديره. بيتُها تحت المراقبة الآن».
يؤدّي سيد القناوي، الذي ظهر في بداية الرواية بصفة ولد، لا قيمة له، ولد هامشي، بدور ثانوي، دورا أساسيا إذ يوصف باليساري الذي يخشاه وكيل أول الوزارة. وعلى الرغم من ردع السارد له بسبب تدخلاته هذه، إلا أنه يواصل ملاحقة الفاسدين. ففي «صباح أحد الأيام جاء إلى السارد، وكانا على موْعدٍ، وهو مبتهج، وقال بسعادة: صاحبك سلطان وقع، وصاحبتك ضحى». والوقوع ها هنا معناه أنَّ دليلا توافر لإدانتهما بالفساد. فقد صُرف مبلغٌ كبيرٌ على رحلة وهمية لمستخدمي الوزارة إلى بورسعيد. وفي ذلك إيصالاتٌ، وفواتيرُ، بمبلغ 5000 جنيه. مع أنَّ الرحلة لم تتم، والمستخدمون لم يغادروا القاهرة «الرحلة يا أستاذ لم تخرُج أصلا. لم يذهب أيّ عامل لبورسعيد، سألتهم واحدا واحدا. لم يذهب أحدٌ منهم». ويضاعِفُ سيد جهوده لإدانة الاثنين، إلا أنهما أقنعا العمال بتغيير أقوالهم، والزعم بأن الرحلة قد تمت مثلما ذُكرَ في الإيصالات، والفواتير. وفي تحقيق النيابة كادت جهود سيد القناوي تذهب أدراج الرياح، بل كادت تدينه بتُهْمة القدْح، إلا أنَّ تحقيقا آخر قامت به السياحة أثبت أنَّ السيارات في ذلك اليوم لم تقم بأيّ حركة، ولم تنقل عمالا، ولا غيرهم، لا لبور سعيد، ولا لغير بورسعيد. ما أوجب إلغاء التحقيق السابق. وقد وجد سيد في هذا نصرا على الظالمين: «أتعرف يا أستاذ بماذا دعوت الله وأنا ممسكٌ بأستار الكعبة؟ دعوته.. وكرَّرْت الدعوة أنْ ينصرني على الظالمين. وها أنت ترى.. من كانَ يتوقَّع أنْ يظهر الحق؟».
من هذا يتَّضح أن سيدا هو الشخصية الرئيسة في الرواية لا ضُحى، ولا السارد، الذي يؤدي في الكثير الأعم من المواقف دور الشاهد، أو همزة الوصل بين الشخوص، أو الشاهد على ما يعتري الثورة من فسادٍ ورَشوة. ومن تثبيت للعهد السابق تحت مُسمياتٍ منها: الاستقرار، أو حماية مكتسبات الثورة، أو مَصْلحة الشعب. وهي شعاراتٌ اسْتُخدمت لإضفاء الشرعية على الفساد المؤقّت إلى حين تتحقق فيه أهدافُ الثورة. وفي مثل هذه الظروف يُصبح كلُّ من يطالب بالعدل، أو نظافة اليد، يساريا، أو عدوّا للشعب، مثل سيد القناوي الذي ضحّى بإحدى ساقيه في الحرب، فيما كان الآخرون يتقاعسون عن القتال، مشغولين بالمهرَّبات، أو استغلال النفوذ، أو القِمار، أو السَطْو على المال العام.
كاتب أردني