هناك صحافيون في العالم يكتبون الكثير من المقالات السياسية والاجتماعية ولكن الناس تنسى ما كتبوه بعد وفاتهم وحتى قبلها، وهناك فئة أخرى من أرباب الصحافة يتركون أثراً في بعض المواضيع التي نجحوا في تغطيتها، أما الفئة الثالثة والنادرة إلى حد ما فهي للأسف تضم حفنة قليلة يقرأ القراء ما كتبوه بتقدير واحترام بعد وفاتهم بسنين كما خلال حياتهم ويدركون أن معظم توقعاتهم وتحليلاتهم التي صحّت في الماضي ما زالت صائبة ومساهمة في تنوير الرأي العام المهتم بالشؤون السياسية الدولية الخطيرة التي يمر بها العالم ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.
الصحافي البريطاني روبرت فيسك، الذي رحل في عام 2020 عن عمر ناهز الـ74 عاما، قضى حياته في تغطية حروب وأزمات الشرق الأوسط في البداية كمراسل لصحيفة «التايمز» ثم في صحيفة «الاندبندت» المنفتحة نسبياً وتوفي في إيرلندا بعد إصابته بمرض الكورونا.
وقررت زوجته الأفغانية الأصل نيلوفير بازيرا فيسك جمع أهم المقالات التي كتبها في السنوات العشر الأخيرة عن الشرق الأوسط في كتاب بعنوان: «ليلة القدر: خيانة الشرق الأوسط» صَدَر مؤخراً في لندن مرفقاً بمقدمة كتبها صديقه وزميله في صحيفة «الاندبندت» باتريك كوبرن وبخاتمة كتبتها هي بنفسها.
مراجعة هذا الكتاب في صفحات قليلة قد لا تفي بما ورد فيه عن جميع دول الشرق الأوسط والعالم العربي التي عمل فيسك فيها علماً أنه عاش فترة طويلة من حياته في منطقة في رأس بيروت، لبنان. وبالتالي سنركز على المقالات الواردة في الكتاب عن فلسطين ولبنان والعراق.
أهم ما يقوله كوبرن في مقدمة الكتاب هو إن فيسك لم يكن صحافياً فحسب أو مراسلاً منتدباً في الشرق الأوسط، بل كان مؤرخاً يتطرق في مقالاته إلى التفاصيل الدقيقة ويرفض إدراج أي معلومات في ما يكتبه من دون التأكد المباشر من مصادرها، علماً أن فيسك كان يحمل الدكتوراه من جامعة ترينيتي الإيرلندية في دبلن في مادة التاريخ السياسي الحديث.
ويشير كوبرن أنه وفيسك أقاما في لبنان لفترة في منتصف سبعينيات القرن الماضي لتغطية الحرب الأهلية اللبنانية. ويعتبر أن قراءة كتاب فيسك المُراجع هنا مفيد لجميع المراسلين والمحررين على كافة المستويات لتحفيزهم على عدم نشر ما يرد إليهم من معلومات قد تكون «مبرمجة» مسبقاً من دبلوماسيين أو سياسيين لديهم أجنداتهم ومشاريعهم السياسية. كما كان فيسك ينصح هؤلاء الصحافيين برفض نشر أي معلومات واردة عن مصدر مهما كانت أهميته إذا رفض التعريف عن نفسه وذكر اسمه في المقال.
ويختتم كوبرن مقدمته قائلاً: «روبرت فيسك كان يكره الحروب ولكنه أدرك انها والكوارث الأخرى في هذا العالم ستظل معنا هي والأكاذيب التي تُلفّق حولها من قِبل السياسيين والرسميين، وعلينا كصحافيين أن نفضح هذه الأكاذيب والتوضيح للقراء ما يجري في هذه المناسبات بالفعل».
إذ كان بالإمكان استخراج مقاربة تمثل ما كان يدور في عقل وقلب فيسك لدى كتابته هذه المقالات فلعله موجود في تمهيد الكتاب بقلم فيسك نفسه حيث يقول: «إن المقاربة الأساسية في كتابي هي أن أشد خطورة على الإنسانية تكمن في تطبيع فكرة الحروب المدمرة والتي يذهب ضحيتها المدنيون الأبرياء والأطفال خلافاً للشرائع الدولية حيث تزهق أرواحهم عمليات غير أخلاقية قاسية جديدة مجرمة تعتنقها السلطات في العالم. وبالتالي أصبحت الشرائع والقوانين الدولية التقليدية بشأن تصرف الدول في الحروب غير ملائمة للحاضر وكأنها قد مر عليها الزمن». ويضيف فيسك في هذا التمهيد الذي كتبه قبل وفاته بفترة قصيرة قائلاً: «أنا لم اختر عنوان كتابي (ليلة القدر) هكذا وبدون دافع. ليلة القدر تعني الليلة التي نزل وحي الله على النبي محمد (صلعم) وبالتالي تكّون القرآن المُنزل. وهذه الليلة هي في السابع والعشرين من شهر رمضان الكريم، ومن يصلي من المسلمين في تلك الليلة تُغفر له خطاياه السابقة. وبالتالي لا يقبل ولا يجترع المسلمون المؤمنون كيف أنهم ما زالوا باستمرار يتعرضون للقمع السياسي والعسكري والاقتصادي حتى في تلك الليلة. وتتصاعد نقمتهم نحو الغرب ودوله وشعوبه بسبب ما يعتبرونه خيانة إخوانهم في الأديان والدول الموحدة الأخرى لهم من شعوب الشرق الأوسط والعالم العربي المسلمة وغير المسلمة».
وبالطبع عندما نتناول المقالات الواردة في الكتاب، ندرك بأن فيسك لم ينطلق من منطلق ديني تاريخي فحسب، بل من منهج سياسي علمي اجتماعي في عملية شجبه لما جرى ويجري حاليا في فلسطين ولبنان وسوريا والشرق الأوسط عموماً. غير أنه من المفيد الإشارة إلى احترامه للدين الإسلامي وتعاليمه وتقاليده برغم كونه غير مسلم. وهذا توجه من المهم التركيز عليه في هذه المرحلة من تاريخنا خصوصاً في المجتمعات الغربية التي تتصاعد فيها الحساسيات بين الأديان ومعتنقيها.
في الفصول الأولى يشن فيسك حملة فكرية مدعومة بالوثائق والوقائع على الحرب الأمريكية ـ البريطانية في العراق عام 2003. ومن الأمور اللافتة في الفصل الثاني من الكتاب ما يقوله فيسك عن أن أمريكا هي التي زودت العراق تحت حكم الرئيس صدام حسين بالأسلحة البيولوجية والكيميائية خلال حربه مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي. وأن حجة امتلاك صدام أسلحة الدمار الشامل التي استخدمت لتبرير الغزو الأمريكي ـ البريطاني للعراق والتي استغلها ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وأعوانهما تحت قيادة جورج بوش الابن يجب الخجل من استخدامها، فدونالد رامسفيلد زودها بنفسه كمبعوث للرئيس الأمريكي رونالد ريغان إلى العراق في عام 1983 وكان على علم بأن العراق يستخدمها في حربه مع إيران (1980 ـ 1988) وكان مدير الاستخبارات الأمريكية آنذاك وليم كايسي يشرف على عملية تزويد العراق بكافة أنواع الأسلحة للتأكد من انتصارها على إيران الخميني آنذاك. (ص 25).
ويضيف فيسك في مقال له آنذاك بعنوان «زمن الديكتاتور»: «زيارة رامسفيلد لبغداد في 19 كانون الأول (ديسمبر) 1983 كانت للتأكيد لصدام حسين الدعم المستمر له، ما دفعه لاعتبار نفسه يملك يداً حرة في التعامل مع خصومه. كما زاره رامسفيلد مرة أخرى في عام 1984 للتأكيد للقيادة العراقية بان استخدام الغاز السام ضد إيران لن يجمد المساعدات الأمريكية للنظام العراقي». (ص 27).
وعلى هذا الأساس، حسب فيسك، اعتبر صدام بانه إذا كانت أمريكا لا تمانع في ضبط تجاوزاته ضد إيران فلماذا ستعارض غزوه للكويت لاحقاً؟ علماً أنه كان يعتبر بأن الكويت تسرق جزءاً من ثروة العراق النفطية. وهذا برأي فيسك، ما أدى إلى التناقض في ملف فهم صدام لحواره مع السفيرة الأمريكية ايبرل غلاسبي، إذ اعتبر بان أمريكا لن تهاجمه إذا غزا الكويت، ولا ستفعل ذلك لاحقا إذا وجّه صواريخه نحو إسرائيل، أو أمرَ عميله صبري البنا (أبو نضال) بالقيام بعمليات ضد المصالح الإسرائيلية ـ الأمريكية وإلصاق مسؤوليتها على أجهزة أخرى.
يقول فيسك في الصفحة (33) إن أبو نضال كان يعمل لصدام ولكن صدام رأى بأنه كان يعمل للاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، وبالتالي تخلص صدام منه.
أطلق فيسك على الفصل الثامن من كتابه عنوان: «الإمبراطورية الإسرائيلية» وهذا الفصل يعبّر بشكل واضح عن موقف هذا الصحافي الذي يفتقده العالم العربي والإسلامي في هذه المرحلة لتنديده المباشر والصريح بممارسات إسرائيل ووحشيتها ومراوغتها في تطبيق أي اتفاقيات أكان ذلك على الصعيد الشامل أو على صعيد اتفاقيات وقف إطلاق النار المرحلية التي وقعتها إسرائيل سابقاً بعد تعدياتها المستمرة على القطاع ثم تراجعت عنها وخرقتها. ويذكر فيسك بالتحديد التواريخ التي تم فيها مثل هذا التراجع في الماضي.
ويؤكد في هذا الفصل بأن إسرائيل مكونة من مجموعة كولونيالية مستعمرة استولت وتستولي على أراضي الفلسطينيين بالقوة وأن المشكلة الكبرى هي كون الدول العظمى خصوصاً أمريكا وحلفائها من الأوروبيين والغربيين «يرون في هذه الكولونيالية والاستيلاء على الأراضي أمراً طبيعياً عادياً مع مرور السنوات والعقود، وأن هذه الدول الداعمة للكيان الصهيوني تعطيه خطوة فخطوة نوعاً من الشرعية إزاء ما يفعله. وبالتالي احتل تعبير مستوطنات إسرائيلية مكان مستعمرات إسرائيلية. ويستعمل الصحافيون المتغاضون عن حقيقة الاستعمار الإسرائيلي هذا التعبير الخاطئ عن قصد أو غير قصد» ص (236). ولم يعش فيسك السنوات الخمس الأخيرة حيث أصبحت هذه المستعمرات أو المستوطنات الإسرائيلية تسمى في الصحافة الغربية «القرى الإسرائيلية» في شمال الكيان وجنوبه لتبرير الكيان كدولة ضحية لإرهاب المقاومتين الفلسطينية واللبنانية.
ولكن فيسك يكرس جزءاً وافياً من هذا الفصل لشجب عمليات تدمير المنازل والأبنية الفلسطينية وتسويتها بالأرض ويصفها بمحاولات إلغاء تاريخ فلسطين.
كما يهاجم الطريقة التي «نفذت» فيها إسرائيل اتفاقيات أوسلو لتوسيع الاستيطان الإسرائيلي بدلاً من ضبطه وخصوصاً بعد اغتيال صهاينة متطرفين (ربما هم حلفاء وزراء في حكومة نتنياهو الحالية) لرئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين في عام 1995.
ويقول في هذا الفصل إن استراتيجية إسرائيل الملتوية كانت وما زالت «فرض الوقائع غير القانونية على الأرض ثم التفاوض حولها والتظاهر بصدق النية ثم التراجع عن تعهداتها».
ويصف خطة آرييل شارون بتراجع احتلال إسرائيل لمناطق من غزة بانها كانت خطة ماكرة للمزيد من الاستيلاء على الضفة الغربية، ولكن هنا أيضاً ربما كان فيسك سيدرك بان غزة أصبحت حالياً منطقة تركيز هام للاحتلال الإسرائيلي ولتهجير السكان الفلسطينيين من القطاع بعد اكتشاف الثروات النفطية والغازية على ساحل القطاع ورغبة الكيان الإسرائيلي في وضع يده على هذه الثروات بإقصاء سكان غزة من الوجود وتهجيرهم القسري بالوحشية التي تمارس حالياً.
ويؤكد فيسك في هذا الفصل أن معظم شرائح مجتمع الكيان الإسرائيلي الصهيونية الانتماء تؤيد مشاريع الاستيطان بطريقة أو بأخرى.
ويتحدث عن عدم قدرة الرئيس الأمريكي باراك أوباما على كبح جماح بنيامين نتنياهو ومشروعه الاستيطاني بسبب دعم عدد كبير من نواب وشيوخ الكونغرس الأمريكي لمشاريع رئيس الوزراء الإسرائيلي في عهده، ومن المتوقع ان يستمر هذا الدعم بشكل أقوى إذا فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نهاية هذا العام.
ويشير فيسك إلى أن لوبيات الضغط الصهيوني في أمريكا تصور الفلسطينيين وكأنهم أتباع الشيخ أمين الحسيني الذي يتهمونه بالانتماء إلى النازية في عهد القائد الألماني أدولف هتلر، بينما هم في الواقع أقرب إلى مقاربات وسياسات هتلر العنصرية. (ص 247).
وخلافاً لكثير من الصحافيين الليبراليين الذين كانوا اعتذاريين أو تبريريين لسياسات الرئيس باراك أوباما عندما كان في كرسي السلطة في أمريكا ولم يضغط بما فيه الكفاية لتطبيق المبادئ التي وعد بتطبيقها في الشرق الأوسط وفي فلسطين خصوصاً بشأن الاستيطان والتراجع عن التعهدات، فإن فيسك يلوم أوباما في أكثر من مناسبة وبينها إفشال محاولات الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحصول على دعم أوباما لتصبح فلسطين عضوة دائمة في الأمم المتحدة ولدى تقاعس أوباما في إنجاح هذا المسار بحجة انه لن يؤثر كثيراً على عملية السلام في الشرق الأوسط. (ص 249). وكذلك يؤكد فيسك ان عمليات الاستيطان الإسرائيلي ازدادت منذ توقيع اتفاقيات أوسلو بدلاً من أن تنخفض وخصوصاً في فترة رئاسة نتنياهو للحكومة في إسرائيل. ويتساءل ما نفع التمييز بين حكومة جمهورية أو ديمقراطية في الحيز الحزبي في الولايات المتحدة حتى ولو كان رئيس الجمهورية يقدم التعهدات الرنانة كما فعل أوباما في بداية مرحلة رئاسته؟
ولكنه يبدو أقل حماسة في انتقاده لمواقف وزير الخارجية السابق جون كيري الذي استمر ويستمر برغم حالته الصحية الصعبة في الدعوة إلى إنشاء الدولة الفلسطينية. غير أن نتنياهو (برأي فيسك) لا يبدو بانه يأبه لأي دعوات لإنشاء الدولة الفلسطينية وخصوصاً لأنه يحضّر مشروعه الملتوي لدعم عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في أمريكا. ويأسف أن أوباما ووزير خارجيته جون كيري لم يكونا أكثر صلابة قبل انتهاء ولاية أوباما في مواجهة إسرائيل. (ص 253).
يعتبر فيسك في الفصل العاشر من الكتاب أن معظم اللبنانيين يعتقدون بأن إسرائيل تريد تدمير لبنان وليس فقط الضاحية الجنوبية من العاصمة بيروت. كما يشاركهم هذا الموقف بعض القادة الأوروبيين. هذا ما قاله فيسك عندما قصفت إسرائيل منطقة حارة حريك في مناسبات سابقة (قبل القصف الأخير في عام 2024) أي عندما كان على قيد الحياة. كما يشير في مقاله الأخير عن لبنان أن التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي أجرته هيئة الأمم المتحدة لم يتوصل إلى أي نتيجة بعد خمس سنوات على انطلاقه. وكأنه كان يشعر بأن ما صدَر عن المحكمة الدولية في هذا المجال كان المطلوب محاولة المزيد من كشف خلفياته ومتابعته بشكل أفضل.
ولو كان فيسك حياً لدى الانفجار الضخم في مرفأ بيروت لكان بالطبع أول المتوجهين إلى مكان الانفجار والإصرار على التعمق والاستمرار في التحقيق الجاري حوله. ولكن للأسف، خسر عالم الحقيقة هذا الصحافي العملاق في كشف الحقائق قبل الموعد!
Robert Fisk: «Night of Power:
The Betrayal of the Middle East»
Harper Collins, London 2024
644 page.