قد يختلف الكثيرون من غير رواد السوشيال ميديا معي، ويقولون لماذا تتعب هكذا. لماذا لا تبتعد؟ والإجابة هي أن الله أعطاني من العمر وفراغ الوقت، ما يجعلني أزور هذه المقهى التي أعرف منها أحوال البلاد والعباد، وكثيرا ما أجد في أنهارها أفكارا صالحة لقصة، أو رواية حتى لو كان الرافد صغيرا. منذ كتبت رواية «في كل أسبوع يوم جمعة» عام 2009 والسوشيال ميديا رافد مهم في أعمالي. رغم ذلك سأتحدث عن شيء آخر شعرت به أو أدركته فجأة هذه الأيام. لست ممن يستطيعون أن يمروا على الأحداث المؤلمة، دون أن أشعر ولو بقليل من الألم. الأمر نفسه مع الأحداث المبهجة، فسعادتي بسعادة أصحابها لا تكفيها تعليقاتي. للأسف لا تمكّنني الظروف برؤية المتألمين ولا السعداء لأشد على أياديهم مواسياً لهم أو سعيداً معهم. رأيت أن فيسبوك حافل بالأخبار المؤلمة وبالأخبار السارة. لم أتوقف عن التعليق. وطبعا يعلق الكثيرون بالمواساة أو السعادة. لكن هذا يحدث في اليوم نفسه، وفي الساعة الواحدة وربما الدقيقة الواحدة. فأنت تواسي صديقا في مرض، أو فقدٍ مريرٍ، وتنتقل على الفور تهنئ صديقا بعيد ميلاده أو صدور كتاب جديد له، أو زواج، أو غير ذلك من مظاهر السعادة. هكذا بعد ساعة أو اثنتين تكتشف أنك كنت روبوت يتجاوب، لأن مشاعر الألم لم توقفك عن مشاعر البهجة، أو العكس لم تأخذك مشاعر البهجة عن الألم.
ما يشغلني دائما هو أحوال البلاد التي لا أتوقف عن الحديث فيها والكتابة عنها، فكيف حقا صرت روبوتا أواسي أو أهنئ في اللحظة نفسها، وقد تكاثرت عليّ الهموم العامة والخاصة. أحاول أن أنشغل بالأجمل فسافرت ملبيا دعوة مكتبة الإسكندرية لحضور الدورة التاسعة عشرة لمعرض الكتاب السنوي. كان سفري في اليوم الأول، الاثنين الماضي وهو يوم الافتتاح، وبقائي ليوم ثانٍ أشارك فيه في ندوة عن الرواية الآن ومستقبلا مع الكاتب حسام العادلي، الذي في عمله كمستشار أو قاضٍ، يذكرك بكثيرين من القضاة الذين أبدعوا في الأدب العربي قديما وحديثا. كان من جمال الدعوة أني سألتقي به بعد سنوات من الفراق، فهو يعمل في سوهاج وقنا في الجنوب. كان آخر لقاء مباشر بيننا في مدينة الأقصر منذ حوالي سبع سنوات. لم يتركني في اللقاء أو خارجه يساعدني في الحركة حتى المطار. ذهبت قائلا لنفسي أخرج من حالة الروبوت وحالة الألم، فستلتقي بأجمل الناس، وإن كنت لن تمشي كثيرا في المدينة التي أصابها التشوه. وبالفعل قابلت أسماء مثل رئيس المكتبة العالم أحمد زايد ومن العاملين معه، محمد غنيمة ومحمد زكي وكذلك المخرجة دينا عبد السلام والروائي منير عتيبة وسارة قويسي وغيرهم. نقاد وكتاب كثيرون لا يتوقفون عن المغامرة. في حفل الافتتاح حضر وزير الثقافة الجديد وشخصيات كثيرة مهمة، بالإضافة لعدد من الصحافيين الكبار، أضفوا على الحفل بهجة واتساعا في الجمال.
كان أهم ما فيه الإعلان عن مشاريع جديدة ستقوم بها المكتبة على المستوى المصري والدولي، مثل مسابقة القراءة التي سيكون عدد الفائزين فيها مئة شخص من كل الدنيا، تتم دعوتهم جميعا للمكتبة بعد إعلان النتيجة في مؤتمر كبير يخص ما قرأوه، وما ستفعله المكتبة بكتاباتهم وبالكتب التي أشاروا إليها أو اختاروها، وهو عمل طموح جدا. تخيل أنت مؤتمرا يُقام لمئة فائز في المسابقة كيف يكون حدثا غير عادي. بعد الافتتاح صحبني الروائي والشاعر أحمد فضل شبلول ومعه الشاعر وكاتب المسرح الشعري فوزي خضر إلى مقهى سوتر القريب من المكتبة، ومعي زوجتي سندي في الحياة وفي الطريق. كانت جلسة أعادت لي مباهج الحديث عن كتّاب الإسكندرية عبر التاريخ، وكيف رغم أن العالم صار هاتفا نقالا، لا تزال مركزية القاهرة تحجب الجوائز مثلا عن كثير من كتاب الإسكندرية من كل الأجيال. الحديث عن الأسماء كبير، ولقد ذكرت الكثيرين منهم هنا من قبل في مقالات لي، لكنا وقفنا عند التجديد في الكتابة، التي كانت الإسكندرية دائما أو كثيرا في مقدمته عبر التاريخ. تحدثنا عن إسماعيل أدهم الشاعر والمترجم الذي انتحر في الأربعينيات.
عن فخري أبو السعود وكان من أعلام مدرسة أبولو وانتحر لكن ليس مثل إسماعيل أدهم لأنه لا يستطيع التواؤم مع العالم، لكن لخبر جاءه بوفاة ابنه غرقا في نهر التايمز في إنكلترا من زوجته البريطانية التي انقطعت أخبارها عنه مع قيام الحرب العالمية الثانية، وكانت هناك ولم تستطع العودة. تحدثنا عن محمد حافظ رجب مجدد القصة القصيرة. عن جماعة «الأربعائيون» التي دشنت في التسعينيات طريقا جديدا في الشعر، لكن مات راعيها الشاعر عبد العظيم ناجي صاحب ديوان «كعكة ذهبية في اليوبيل المحترق.. كعكة محترقة في اليوبيل الذهبي» كذلك رحل حميدة عبد الله صاحب ديوان «دم يرفع سقف الليل» وتفرق أصحابها التي يضيق المقال عن أسمائهم مثل ناصر فرغلي الذي يعيش في لندن، ومات منهم مؤخرا الشاعر مهاب نصر بعد رحلة اغتراب في الكويت من أجل حياة أفضل. كيف كانت المدينة ملهمة لعشرات الكتاب من العالم عبر التاريخ أحدثهم كفافيس وداريل وفورستر. حديث طويل عن المجددين من الإسكندرية في الأدب وفي بقية الفنون. كان الوقت ممتعا أخرجني حقا من حالة الروبوت لكن أيضا من ألامي، وقررت أن أستمر في الحديث بقدر ما استطيع فالعالم واسع لن يوقفه أحد.
ساعدني الفندق الذي نزلنا فيه على أن لا أكون روبوتا فشبكة الإنترنت ليست جيدة ومن ثم ابتعدت عن السوشيال ميديا ليلتين، ورغم ضيقي وشعوري بالحصار، إلا أني قلت: يومان تعود فيهما إلى طبيعتك القديمة، أمر جيد. كالعادة حين أسافر إلى الإسكندرية لا بد من زيارة صباحية لمطعم وكافتيريا أتينيوس رمز التاريخ الحديث للمدينة، ومقابلة صاحبه المثقف والإنسان يعقوب نصار. في اللقاء دعوت من يريد لقائي منفردا مثل الكاتبة المصرية السكندرية يونانية الأصل أنجيل عزيز صاحبة رواية «عازفة الماندولين الإيكارية» التي كتبتها بالإنكليزية عن هروب جدتها من اليونان إلى مصر في الحرب العالمية الثانية، والتي كتبت عنها هنا مقالا حين قرأتها بالإنكليزية منذ حوالي عام، كما لبت الدعوة اليوتيوبر النشيطة جدا موني سمير التي جعلتنا جميعا بودكاستات جديدة، ونحن نجلس في أتينيوس، كما دعوت الكاتب إيهاب بديوي صاحب الروايات الفارقة في الخيال، الذي كتبت عن روايته «عروس الحضْرة» هنا أيضا منذ شهر تقريبا، والمشغول بكتابة كتاب أسعدني جدا عن قصصي القصيرة سينتهي منه قريبا، وكذلك المهندس المثقف المحب لكتاباتي أحمد المرشدي. أحضرت أنجيل نسخة من روايتها ليعقوب نصار ففيها السهرات وعزف الموسيقى في أتينيوس عظيمة، فأسعدنا بقوله، إنه بعد أن قرأ مقالي عنها اشتراها من أمازون لكن استعارتها زوجة ابنه وانشغلا عن إعادتها، وتناول النسخة الجديدة سعيدا. كما أهداه إيهاب بديوي نسخة من روايته. جاء اللقاء الثالث في بيت المعماري والمفكر محمد عوض ومعنا الفنان والكاتب ثروت البحر وزوجته بستان إبراهيم المترجمة عن الألمانية، وابنة الشاعر والمؤرخ الموسيقي محمد إبراهيم مؤسس أول مدرسة للخط العربي في الشرق الأوسط في الإسكندرية عام 1936 ومعهم المهندس نصر الدين عمر، الذي يؤرخ باليوتيوب للإسكندرية أعظم تاريخ، وعدد آخر من الأصدقاء الذين يكونون في الصيف في القرية الدبلوماسية على الساحل. هكذا كنت ليل نهار متحركا بين الأحباء خارجا ليومين من أجمل الأيام عن حالة الروبوت التي عدت إليها الآن. هل يمكن أن لا نرى على السوشيال ميديا غير البهجة وتختفي البوستات المليئة بالآلام أو حتى العكس؟ لا يمكن طبعا وسنظل روبوتات ما دمنا نواكب العصر الحاضر.
كاتب مصري
اندهشنا كعائلة عندما زرنا عروس البحر الاسكندرية في العام 2011 من كثرة اكوام النفايات في الشوارع المحيطة بفندق شيراتون الذي اقمنا فيه ولاحظت ان الموظفين “يفشقون” فوقها اثناء ذهابهم لعمالهم في البنايات المجاورة كما استغربت من تعليق المحافظ وتحججه بعدم كفاية كوادر تنظيف النفايات وقارنت ذلك بعمان ونظافتها المشهود لها كما استغربت من تقبل المواطنين لذلك وخاصة مع سمعة وشهرة الاسكندرية السياحية واالثقافية…الخ