انتابني فرح غامر عندما عرفت خبر فوز السير روجر بنروز Roger Penrose بجائزة نوبل للفيزياء لعام 2020، فهي في نهاية المطاف ليست سوى بعض اعتراف حقيقي ـ رغم أنني أراه متواضعاً مهما تعاظم ـ بجهود الرجل واكتشافاته في ميدان الفيزياء النظرية (الكوسمولوجية على وجه التحديد)، لكنْ ثمة أسبابٌ أخرى تجعل أمر الاحتفاء بنيل بنروز لجائزة نوبل أكبر بكثير من مكافأة علمية تقليدية اعتدناها كواحدة من التقاليد العلمية، التي تتكرّر كل عام، ولن يكون بالتالي أمراً مستغرباً أن نشهد التقريضات الاحتفائية بجهود هذا العالِم على مستوى العالم بأكمله، وإن كان الاحتفاء أخذ مدى أوسع، في نطاق الجزيرة البريطانية التي ينتمي بنروز لثقافتها.
مَنْ هم الفلاسفة الحقيقيون في عصرنا هذا الذي يوصف بعصر موت الفلسفة؟ سيكون أمراً متوقّعاً إذا ما تباينت الإجابات والأفكار بهذا الشأن، لكن ثمّة قناعة باتت تترسّخ بأنّ الفيزيائيين (والرياضياتيين كذلك) هم الوحيدون الجديرون ليوصفوا بكونهم فلاسفة حقيقيين. تتأسّسُ هذه القناعة على فكرة أنّ الفلسفة هي في جوهرها مساءلةٌ للموضوعات الكبرى في الكون، واستكشاف التأصيل الفكري الممكن لكلّ من الكينونات الثلاث الكبرى، بحسب ترتيبها المنطقي: الكون، الحياة، الوعي. تقنّعت هذه الموضوعات الثلاثة تحت مسمّيات وتوصيفات كثيرة، منذ عصر بداية الفلسفة الإغريقية حتى انتهت في يومنا هذا، لتتجوهر في هذه الثلاثية الإشكالية.
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة طفرة نوعية في المؤلفات التي تتناول هذه الثلاثية المعرفية، من قبل فيزيائيين صاروا يعدّون في طليعة الفلاسفة الفاعلين في المشهد الفكري العالمي، ويأتي السير روجر بنروز في طليعة هؤلاء الفيزيائيين الطلائعيين.
لطالما تساءلت: من يستحقُّ من البشر وصف المثقف الموسوعي، الذي يؤهّله ليكون سليلاً مقبولاً للتراث الأرسطي، وعلى نحو يتماشى مع اشتراطات عصرنا ومترتبات العلم والتقنية، التي تشكّلُ ترسيمته الوجودية والثقافية؟ وهل ثمة من معنى للحديث عن مثقف «موسوعي» في عصر نا هذا؟ ما شكلُ الموسوعية هذه؟ وما هي الخصائص الثقافية العاكسة لهذه النزعة الموسوعية؟ وقبل كلّ هذه الأسئلة: هل هناك من يرغبُ أن يكون موسوعياً في عصر التفجّر المعرفي، الذي نعيشه منذ عقود ليست بالقليلة؟ هنا تكمن الأهمية الجوهرية لشخصية بمواصفات السير روجر بنروز، فهو يقدّمُ لنا نموذجاً معيارياً صالحاً لتمثيل المثقف الموسوعي في عصرنا.
ولجتُ عالَمَ بنروز للمرة الأولى في حياتي عبر بوّابة ستيفن هوكنغ ، إذ قادني ولعي بهوكنغ بعد أن استحال أيقونة علمية وإنسانية، وعقب قراءتي لكتابه ذائع الصيت «موجز تأريخ الزمان» بداية تسعينيات القرن الماضي إلى متابعة كلّ منشوراته العلمية، وحصل بالفعل أن قرأتُ كتاب «فيزياء العقل البشري والعالَم من منظورين» الذي ألفه هوكنغ بالاشتراك مع بنروز وفيلسوف العلم أبنر شيموني، والفيلسوفة نانسي كارترايت، فأعجبتُ بمنهجية بنروز في عرض الأفكار، خاصة أنه أبان عن نفسه كائناً معرفياً رفيع الطراز، يسعى لتحقيق نمط خاص من التشبيك interdisciplinarity المعرفي بين الجبهات العلمية المتقدّمة. ورحت أفكّر وأنا منغمسة في قراءة مساهمة بنروز الثرية في هذا الكتاب: ماعساها تكون الفيزياء المعاصرة؟ أليست شكلاً من الفلسفة الأفلاطونية المحدّثة، بعد أن ألبَسها بنروز وهوكنغ وسواهما من الفيزيائيين ثياباً جديدة (كتب بنروز لاحقاً كتاباً سماه «عقل الإمبراطور الجديدThe Emperor’s New Mind « تناول فيه هذا التداخل المعرفي بين الفيزياء الحديثة وموضوعات الوعي والإرادة الحرّة وميكانيكية عمل الدماغ على المستوى الكمومي الدقيق).
الفيزياء المعاصرة تتداخل مع المباحث الفلسفية، تداخلاً بنيوياً حتى لم يعُد ممكناً تصوّر وجود فلاسفة أصلاء من غير أن يحوزوا تدريباً معقولاً في الفيزياء والرياضيات، وربما كانت معضلة (الوعي) واحدة من أعقد الفضاءات، التي تتداخل فيها الاشتباكات المعرفية، وربما كانت رؤية بنروز في كون الوعي البشري حالة من حالات الوجود الكمّي، الخاضع لقوانين ميكانيك الكمّ، هي التي أهّلته لحيازة صفة الموسوعية، فضلاً عن كونه أحد أهمّ فلاسفة العلم في وقتنا الحاضر.
ثمة بعض الأسئلة الجوهرية التي تتشاركها كل الحقول المعرفية: من أين جاء الكون؟ من أين نشأت الحياة؟ من أين انبثق العقل؟ تتمظهر الخلاصة المتحصلة من التفكّر في الأسئلة الجوهرية، التي تتناولها الثقافة الثالثة في نشوء فلسفة طبيعية تقوم على إدراك أهمية مفهوم التعقيد Complexity في تطوّر جميع النظم شديدة التعقيد، على شاكلة: الأحياء العضوية، الأدمغة، النطاق الحيوي، الكون ذاته، إلخ. وقد تطوّر الأمر إلى حدّ بات يستلزم معه اللجوء إلى مجموعة جديدة من المفاهيم الاصطلاحية (التعقيد أحدها) لوصف أنفسنا، وعقولنا، والكون، وكلّ الموجودات التي نعرفها في الكون، ووحدهم المفكّرون الحائزون هذا المخزون المعرفي من الأفكار والمفاهيم الجديدة هم القادرون – بواسطة كتاباتهم المنشورة – على إدامة البواعث البشرية، الدافعة إلى التفكّر الخلاق في الأسئلة الوجودية ذات الطبيعة الجوهرية، وليس من شكّ في أنّ بنروز هو واحدٌ من المفكّرين الطلائعيين في حقل العلم والفلسفة العلمية المعاصرة.
قدّم بنروز مساهمات أساسية في الفيزياء والرياضيات، فقد أعاد تفسير نظرية النسبية العامة للبرهنة على أنّ الثقوب السوداء يمكن أن تنشأ من النجوم المحتضرة، وهذا هو الاكتشاف التقني الذي أهّله لنيل جائزة نوبل، بالإضافة لهذا اكتشف نظرية دعاها نظرية الملتويات Twistor Theoryوهي طريقة غير مسبوقة في تعاملنا مع بنية الزمان ـ المكان، كما وسّع من فهمنا لطبيعة الثقالة Gravity .
إنّ كتب البروفيسور روجر بنروز التي تنتمي لفضاء الثقافة الثالثة لابدّ أن تُعطى أسبقية في الترجمة، لإشاعة هذه الثقافة الأساسية في أوساطنا العربية، وتحبيبها إلى القرّاء الشغوفين، وتشجيعهم على قراءتها وجعلها عنصراً إثرائياً لا غنى عنه في ثقافتهم العامة.
ألّف بنروز العديد من الكتب التي حقّقت أوسع مديات المقروئية (لم تفقها ربما سوى كتب هوكنغ)، وبهذا يعدُّ بنروز أحد أكبر مشيعي المعرفة العلمية في عصرنا عبر قدرته الفذة على مخاطبة الجمهور القارئ بلغة دقيقة وميسّرة في الوقت ذاته.
عمل بنروز (المولود عام 1931) لعقود عديدة أستاذاً شرفياً Emeritus في معهد الرياضيات في جامعة أكسفورد، وعاش حياة متواضعة جعلته يبدو كمن يسعى لتثبيت قدميه في الحياة الأكاديمية، كأي باحث مستجد حتى بعد أن بلغ مرتبة الباحث المتمرّس المعروف على أوسع النطاقات العالمية. من الأمور المعروفة عن بنروز أنه ظلّ يشغلُ في جامعة أكسفورد مكتباً تشاركه مع ستة أساتذة آخرين، ولم يسعَ أبداً للانفراد بمكتب خاص به، وكان في نهاية كلّ يوم دراسي يندفع بسيارته المتواضعة نحو مدرسة ابنه الصغير لكي يقلّه عائداً به إلى البيت. حافظ بنروز طيلة حياته المهنية والفكرية على ذلك الشغف الروحي، الذي دفعه للتفكّر والبحث في طائفة واسعة من الأسئلة الأساسية: كيف بدأ الكون؟ هل ثمة أبعادُ أعلى من الأبعاد المعروفة تقليدياً للمكان والزمان؟
عاش بنروز وسط عائلة معروفة بشغف أفرادها بالمعرفة بشتى أشكالها: كان أخ بنروز الأكبر عالم فيزياء نظرية مرموقاً وزميلاً في الجمعية الملكية البريطانية، أما أخوه الأصغر فقد حصل على بطولة الشطرنج لعموم بريطانيا عشر مرّات (رقم قياسي بالتأكيد)، أما أبوه ففضلاً عن عمله في حقل الوراثة البشرية، فقد كان فناناً محترفاً مثلما كان إخوته الأربعة فنانين محترفين. تقدّم لنا هذه الحقيقة برهانا لكيفية التأثير الخطير، الذي تمارسه العائلة في تشكيل المرتسمات الفكرية، وتنمية الشغف الطبيعي لدى الأطفال، باتجاه ترصينه وتحويله إلى مفاعيل منتجة ومفيدة ومؤثرة في حياة الفرد ومجتمعه.
يرى بنروز أنّ نظرية ميكانيك الكم Quantum Mechanics ذات قدرة مذهلة في توضيح الكثير من الإشكاليات الفيزيائية، التي استعصت على التفسير في نطاق فيزياء العالم الصغير Microwold، لكنّ المعضلة تكمن في أنّنا متى ما قبلنا بنتائج هذه النظرية في العالم الكبير Macroworld فسيكون علينا التخلي عن تصوّر بنية الزمكان، كما وضعتها قوانين النسبية العامة، وهذه هي إحدى أعظم المعضلات التي تقف بوجه توحيد الميكانيك الكمومي، مع نظرية النسبية العامة. لا حاجة للقول إنّ بنروز هو واحد من أنشط العاملين لبلوغ مقاربة مقبولة، تفكّك هذه الإشكالية في الفيزياء المعاصرة.
تنطوي كلّ عناوين كتب بنروز على مؤثرات سايكولوجية ذات تأثيرات درامية، تسعى لشدّ انتباه القارئ منذ اللحظة الأولى، ويروق لي في هذا الشأن، وعلى سبيل المثال، الإشارة إلى آخر مؤلفات بنروز المنشورة وهو كتاب «الموضة والإيمان والفانتازيا في الفيزياء الجديدة للكون Fashion, Faith, and Fantasy in the New Physics of the Universe ) المنشور عام 2016، إذ تمثل كل مفردة في العنوان فكرة أساسية في الفيزياء النظرية: الموضة تشيرُ إلى نظرية الأوتار String Theory، التي بات يراها كثير من الفيزيائيين هي المقاربة المعوّل عليها في بلوغ نظرية كل شيء؛ أما الفانتازيا فهي إشارة إلى النظريات الكوسمولوجية المتعدّدة، وأما الإيمان فهو نظرية الميكانيك الكمومي، التي ارتقت لمصاف الكأس المقدّسة عند فريق كبير من البحّاثة الفيزيائيين، حتى صار من المتعذّر نقدها أو التفكير ببدائل لها عندهم. يرى بنروز أنّ نظرية الميكانيك الكمومي هي أفضل نظرية بحوزتنا يمكنها تقديم تفسير مقبول للكون الذي نعيش فيه، على الرغم من قناعته بأنّ قوانين أخرى غير التي نعرفها هي التي تحكم العالم والوعي، ويرى أنّ الميكانيك الكمومي متى ما تمّ حلّ المعضلات المفاهيمية والإجرائية المزمنة فيه، فسيكون بمستطاعه تقديم مساهمات ثورية ترتقي بفهمنا للعالم، خاصة بعد تطبيق قوانين الميكانيك الكمومي على المنظومات البيولوجية، من أبسطها تشكيلاً وحتى أعقد تمظهراتها (الدماغ البشري مثالاً ). بقي أن أقول: إنّ كتب البروفيسور روجر بنروز التي تنتمي لفضاء الثقافة الثالثة (وقد نشرتُ مواد تعريفية بها في أعداد سابقة من «القدس العربي») لابدّ أن تُعطى أسبقية في الترجمة، لإشاعة هذه الثقافة الأساسية في أوساطنا العربية، وتحبيبها إلى القرّاء الشغوفين، وتشجيعهم على قراءتها وجعلها عنصراً إثرائياً لا غنى عنه في ثقافتهم العامة.
* كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن
انت سيدة الثقافة العربية المعاصرة بحق.اهل العراق مصابيح الامة في كل زمان.