روسيا تلقي بكرة مفهومها للأمن الجماعي في ساحة منطقة الخليج

قدمت وزارة الخارجية الروسية بتاريخ 23 يوليو 2019 مفهوم الأمن الروسي في الخليج. وهو في الواقع صيغة متطورة لأفكار كانت قد طرحتها في السنوات السابقة بهذا الخصوص. ومن بين التدابير التي اقترحتها لأمن الخليج، رفض نشر قواعد عسكرية أجنبية في المنطقة. وتم تقديم الوثيقة إلى ممثلي الدول العربية وإيران وتركيا والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية ودول البريكس المعتمدة في موسكو.
ويدعو المفهوم الروسي الدول الأخرى أيضا إلى الحماية المشتركة لأمن الطاقة، وقبل كل شيء في الخليج.
وتمت دعوة جميع القوى المهتمة بتصحيح الوضع في المنطقة وتحسينه لاحقًا، إلى «تحالف مكافحة الإرهاب»: تصفية التطرف في الشرق الأوسط، والحرب بين الأديان، والتسوية السياسية في سوريا واليمن ودول أخرى. كافة المؤشرات الموضوعية تؤكد على صعوبة تنفيذ هذا المفهوم، رغم أنه يحمل نوايا طيبة، ويعود بالفائدة والمنفعة على دول وشعوب المنطقة، واستقرارها، ويخلق في حال دخوله حيز التنفيذ، المناخ الملائم للتنمية المستدامة، والتعاون المثمر والبناء، لما فيه مصلحة جميع الأطراف. بيد ان تناقضات المصالح، واختلاف أهداف ونوايا أنظمة دول المنطقة، وتأثير الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لا يدع مجالا لدخول مفهوم الأمن الروسي الى حيز الوجود.
وكانت موسكو قد طرحت اقتراحات مماثلة في التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفين، لكنها لم تُنفذ. فلماذا تعتقد روسيا أن فرص نجاح تجسيد مفهومها عن أمن الخليج العربي، أصبحت في ظل الظرف القائم أفضل من السابق؟ وتعتزم روسيا من أجل تجسيد مفهومها للآمن الجماعي في منطقة الخليج، في الاتصالات مع الدول الإقليمية، التحرك باتجاهين: المساعدة في التغلب على التناقضات في مواقف الأطراف، خاصة دول الخليج العربية وإيران، وشرح دور نظام الأمن الإقليمي، في ضمان استقلال وسيادة دول المنطقة، والتصدي الناجح لأعمال المتطرفين والإرهابيين. ويتزامن طرح المفهوم الروسي، مع تصعيد التوتر الخطر بين ايران من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى.
ووفقًا لتقييم الدبلوماسية الروسية، فإن أسباب عوامل الانقسامات والمواجهات الناشبة في منطقة الخليج، لاسيما بين دول الخليج العربية وإيران، والدول العربية في ما بينها، مصطنعة إلى حد كبير، وإنها نتيجة للسياسة التقليدية للغرب «فرق تسد». وعلى بلدان الشرق الأوسط أن تكون أكثر حذرا بشأن تلقين الغرب. ووفق ما قاله الدبلوماسي والمستعرب الروسي اندريه بكلانوف في حديث صحافي: إن إيران ليس لديها أي رغبة، ولا تملك القدرة على الهيمنة في منطقة الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، كما توجد لدى إيران ودول الخليج مصالح متقاربة ومشتركة مهمة للغاية، مصلحة مشتركة في تحقيق الاستقرار في سوق النفط والغاز، والإنماء الاقتصادي المستدام، ورفع مستويات معيشة الشعوب وتطويرها، وإلحاقها بركب التطور العالمي، وبناء دول عصرية، وان أي حرب في المنطقة ستنسف إنجازات العقود الماضية.
ومضى الدبلوماسي الروسي بالقول» لقد قدمنا ​​أول مفهوم للأمن الجماعي في منطقة الخليج أواخر التسعينيات، عندما ظهر خطر الغزو الأمريكي للعراق. ثم ركزنا بشكل أساسي على حل الوضع حول العراق، في محاولة لمنع تطور الوضع، وفقًا لسيناريو القوة». وأضاف «لسوء الحظ، اتخذت الولايات المتحدة والدول الغربية موقفا مدمرا بشأن هذا الاقتراح: لقد دفعوا بالأمور الى غزو العراق، الذي كان من المفترض حسب خططهم أن يكون مقدمة لإعادة التنظيم الديمقراطي للشرق الأوسط بأكمله، ومنطقة الخليج. ولسوء الحظ، لم تستطع بلدان المنطقة التغلب على تناقضاتها – لذلك توقف الترويج لخطتنا، والنتيجة معروفة». ووفقا لرأي الدبلوماسي الروسي، الذي عمل فترة طويلة سفيرا لبلاده في السعودية: لقد كان العدوان، الذي يصفه بغير المبرر، الذي قامت به الولايات المتحدة، وحلفاؤها، ضد العراق الدولة ذات العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، بذريعة زائفة (بزعم أن بغداد تمتلك أسلحة دمار شامل) كانت بداية لثورات الربيع العربي في الخليج والشرق الأوسط ككل. كما أدت الحرب في العراق إلى تكثيف غير مسبوق لصعود المنظمات الإرهابية الدولية في المنطقة، ومقتل الآلاف من الناس.

وفقًا لتقييم الدبلوماسية الروسية، فإن أسباب المواجهات الناشبة في منطقة الخليج مصطنعة ونتيجة للسياسة الغربية «فرق تسد»

وتجدر الإشارة إلى ان الدبلوماسية الروسية لا تبرئ ساحة النظام الديكتاتوري، وممارساته التي عادت بالكوارث على المنطقة بشن حربي الخليج الأولى والثانية العقيمتين، واستخدامه الأسلحة الكيماوية ضد الشعب الكردي، واستخدامه أساليب القمع والإبادة ضد المعارضة بكل أشكالها. وعلى حد قوله إن روسيا بذلت على الأقل محاولتين أخريين، في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، للتوصل إلى مقترحات لاحتواء المواجهات والنزاعات والخلافات بين الدول في الخليج، وإنشاء نظام أمني في المنطقة. وقامت الدبلوماسية الروسية بإجراء تغييرات على مفهومها للأمن الجماعي لمنطقة الخليج، ركزت على تنظيم حوار بين الدول العربية في الخليج وإيران، وحاولت أن تشرك في هذه العملية منظمة إقليمية – مجلس التعاون لدول الخليج العربي. وأكدت بشكل خاص على الحاجة الملحة لتوحيد الجهود على جبهة مكافحة الإرهاب.
وبدأ ظهور بعض مؤشرات التطورات الإيجابية، ففي عام 2003 ، تم إعداد اتفاق للتعاون الأمني ​​بين المملكة العربية السعودية وإيران. ولكن تم تعليق الحركة نحو السلام، وتفاقمت التناقضات، بشكل رئيسي بين طهران والرياض.
ويرجح بكلانوف أن العوامل الخارجية لعبت دورًا سلبيا في عرقلة تجسيد المبادرة، موضحا «إن تحركات القوى خارج المنطقة، لعبت على التناقضات بين دول الخليج من أجل تعزيز مصالحها، وتصعيد التوتر، والحصول على أرباح من إمدادات الأسلحة». قائلا إن أكثر من نصف الأسلحة في دول الخليج تم توريدها وشحنها من الولايات المتحدة. وعن فرص نجاح تجسيد مفهوم روسيا للأمن الجماعي في منطقة الخليج قال بكلانوف: نأمل أن تكون دول المنطقة، التي نتعامل معها بشكل أساسي بشأن هذا الاقتراح، مقتنعة بأنه كان من الضروري، في وقت من الأوقات، دعم مقترحات روسيا بشكل أكثر نشاطًا لتجنب الحرب والفوضى. وحسب تقديره «ان واحدة من أصعب القضايا التي يجب حلها هي إنشاء آلية لرصد الوضع العسكري والسياسي والتغلب السلمي على التناقضات التي تنشأ». «وسيكون نظام المراقبة عنصرا رئيسيا في مجال الأمن الإقليمي». ويرى أن الأحداث التي تسارعت في الخليج العربي، «جعلت تقديم مفهوم الأمن الروسي في الخليج العربي أكثر إلحاحًا، ليكون بديلا عن إغراق المنطقة في نزاع آخر». وأضاف «نرى كيف يزداد الوضع حدة حول إيران، وكذلك تتضاعف الأعمال الإرهابية الاستفزازية، التي يمكن أن تكون بمثابة سبب لبدء الأعمال العسكرية».
ووصف رئيس مركز أوروبا والشرق الأوسط بمعهد أوروبا، ألكسندر شوميلين في تصريح لصحيفة « فيدومستي» بتاريخ 26 يوليو، المفهوم الذي اقترحته وزارة الخارجية بأنه «غير واقعي». وفي رأيه أن نقاط الضعف في الوثيقة تكمن في عدم وجود أي أحكام أو أفكار جديدة، والتأكيد على «اتفاقات دولية غير قابلة للتحقيق». وقال: إن «المفهوم هو مجموعة من التمنيات الطيبة، ونشره هو عامل إيجابي، يهدف إلى لفت الانتباه إلى نهج روسيا. وان المفهوم خطاب بلاغي، وسياسي، ولكن بشكل عام لا يمكن تحقيقه، وإن القضية الرئيسية في هذا المفهوم تكمن في المكافحة المشتركة للإرهاب، باعتباره عاملاً يوحد جميع الأطراف. لكن ظهرت في هذه القضية بالتحديد خلافات خطيرة في السنوات الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بسوريا». ومضى شوميلين بالقول: «إذا كان هناك من يتعامل مع إيران أو حماس أو حزب الله على أنها حركات تحرر وطني، أو قوى مشروعة في المنطقة، فإن بقية الدول والنخب السياسية في المنطقة، ترى إن هذه مجموعات إرهابية». ويشير إلى أن أكبر وأهم تحالف لمكافحة الإرهاب ضد «داعش» المؤلف من 70 دولة بقيادة الولايات المتحدة لم يستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي (وإلا فإن روسيا كانت ستدخله) وتشكل بناءً على دعوة من الدول التي أصبحت ضحية للإرهاب، بينما يقترح المفهوم الروسي أن يلعب مجلس الأمن الدولي الدور الرئيسي في إنشاء نظام أمن جماعي في الخليج وفي الشرق الأوسط ككل.
وكانت الصين أول من أعرب عن دعمه لمفهوم الأمن في الخليج، الذي اقترحته وزارة الخارجية الروسية في 23 يوليو. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشونينغ « يرحب الجانب الصيني باقتراح الجانب الروسي لضمان الأمن في الخليج. ونحن على استعداد لتعزيز الاتصالات والتفاعل بشأن هذه القضية مع الأطراف المعنية»، وأضافت أنه ولضمان الأمن في الخليج، يجب على دول المنطقة تطوير علاقات حسن جوار على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وينبغي للمجتمع الدولي أن يساهم في هذا ويلعب دورًا بناءً.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية