تبدو اعمال زهير دباغ، النحات والمصور الحلبي المعروف، متشابهة وهي ترتصف إلى جانب بعضها البعض، لا لعدم قدرة الفنان على التجديد، بل بسبب وحدة الموضوع الذي امتد مع دباغ منذ تل الزعتر وحتى اللحظة الراهنة، فموضوع زهير هو الإنسان السوري منذ انكساره الأول في السبعينات وحتى اليوم.
في لوحات زهير الكثير من الوجوه والكثير الكثير من الصمت؛ لا تلتقي وجوه زهير دباغ، وتكاد تضمحل وتختفي، يد النحات القاسية يمكن أن نشعر بها على سطوح صوره، خطوط قاسية ترسم حدود الأشياء، تلطف من قسوتها قدرته على مزج الألوان وتوظيفها بطريقة تثير الدهشة؛ إذ مع زهير دباغ لم يعد اللون الأزرق رمزا للبرودة ولا اللون الأحمر رمزاً للحرارة، هنا علينا أن نكتشف قواعد جديدة وأدوار مختلفة تلعبها الألوان كما الشخوص في مجمل أعمال زهير.
يحل اليوم زهير دباغ ضيفاً على بيروت، يقيم معرضه وينثر حكايته في أرض الغواية، أرض بيروت، التي خصها بلوحة كبيرة (140/ 160 سم) تزدحم بالنساء المغويات واللامباليات عمداً، بيروت المليئة بالبارات والنساء ‘الجميلات’ والمعارضين السوريين!.
يبدو الترحال القسري عنصراً مرافقاً لأغلب الصراعات الاجتماعية؛ يرحل الفرد مرغماً عن مكانه وذاكرته، ويخلف وراءه أحبابه وعالمه الحميم. شعور بالانخلاع واختلال في التوازن، فالأمكنة لا تشبه بعضها، ولا الوجوه ولا حتى اللغة السائدة، عندما يرحل الفرد مرغماً عن مكانه، يترك خلفه جزءا من روحه، ويحمل ما امكن معه من ذكريات قد تعينه في طريقه الطويل.
في حلب وتحديداً في حي الأتارب، يترك النحات زهير أعماله النحتية، ويرحل مجبراً نحو بيروت، يحمل معه ما أمكن من أعماله الفنية والكثير الكثير من الذكريات المليئة بالتفاصيل والرؤى.
على مقربة من بحر بيروت يقيم مشغله الجديد والمؤقت، إذ لابد لهذه الرحلة من نهاية قريبة، (هكذا يحدّث نفسه).
في أواخر السبعينات اطلق على مشروع تخرجه الجامعي اسم: ‘تل الزعتر’، وتابع لسنوات بعدها في العمل على المشروع، في أواخر الثمانينات ينجز ثلاثة عشر عملاً نحتياً، ويقرر المتحف الوطني اقتناء واحداً من تلك الأعمال، وعندما تعلم السلطات بعنوان المشروع ‘تل الزعتر’، تقرر إقصاءه كأنها تسعى إلى إقصاء ذاكرة جمعية قد تهدد وجود السلطان في سدة العرش، وتقرر وضع المنحوتة في زاوية مهملة في إحدى ممرات المتحف.. بعد سنوات طويلة وفي ظل ثورة الشعب السوري، وفي مشغله في حي الأتارب ستدخل بعض الفصائل الاسلامية المتشددة إلى مشغل النحات، وترى ‘تماثيل’ توحي لها بما توحي، وتقرر: صاحب هذا المكان كافر وملحد ويهدر دمه، بينما المنحوتات الاثنتا عشرة المتبقيات من مشروع تل الزعتر، فسيباشرون في تحطيمها بالكامل.
تتغير الوجوه على مر الزمن، ويبقى الطغيان كبينة – واحداً رغم اختلاف الزمن وشخوصه، تتغير الوجوه والبنية هي ذاتها، يقول النحات، لا فرق بين الأسد في الأمس والفصائل المتشددة اليوم، فالاستبداد واحد، يتابع القول.
تتكثف كل هذه التفاصيل والمفارقات وتتجلى أعمالاً فنية تتراوح .. أجساد منحوتة بدقة الخبير، وجوه مرسومة وتكاد تتلاشى تفاصيلها، وجميع الشخوص يجمعهم خيط رفيع: شعور بالانخلاع. الجميع متعب، وتكاد العيون أن لا تلتقي، تعب حتى التداعي في هذه الحرب اللدود التي آن لها أن تنتهي.
يجمع زهير في معرضه ‘كتلة’ من التناقضات التي تحاول أن تشي بأمر ما، إلى جانب عمل نحتي من البرونز يطلق عليه النحات اسم: ‘يوم همس لها أحبك’، نجد عملاً آخر من البرونز اسمه: ‘سقوط من السماء’، امرأة تسقط على دائرة من البرونز وتتكأ على مرفقها ورأسها إلى الأسفل. حصان من البرونز تتلاشى أطرافه ويتهيأ للقفز إلى العدم أو إلى فراغ ما، وفي كل الحالات تبدو حكاية زهير قديمة قدم الوجع السوري.
معرض زهير دباغ عبارة عن ‘فلاش’ مكثف أشبه بالتجريد يسلط الضوء على جزء يسير من حكاية النحات، حكاية خاصة جداً وشخصية جعلت منها الحرب الدائرة اليوم في سوريا عامة ومشتركة لدى الكثير من السوريين، حكاية من أجبروا على الرحيل مرغمين.
‘ ناقد سوري