زوس

قبل أيام كنت أشاهد مقطعاً تمثيلياً لمشهد طلاق يوقعه رجل بإطلاق لفظة طالق على زوجته، لينتهي المشهد الدرامي بتعبير صدمة ساحقة على وجه الزوجة التي بدا وكأنها أدركت انهيار كل مفردات حياتها بعد هذه الكلمة. أخذتني اللحظة الدرامية للحياة الحقيقية ولموازين القوى الغريبة فيها، كيف ينكفئ الميزان لهذا الحد باتجاه الرجل حد إعطائه كل هذا النفوذ على حياة شخص آخر، نفوذ يبتدئ به العلاقة، نفوذ يسيّر به هذه العلاقة ونفوذ ينهي به هذه العلاقة إن أراد ومتى ما أراد. يا لها من سلطة ساطعة هذه التي يمتلكها الرجل في مجتمعاتنا والتي تتجلى حتى في مفرداته الكلامية، فبكلمة هو يصنع القدر، يغير الحياة والواقع، ينهي حكاية ويبدأ أخرى، يقلب تقييم المجتمع للمرأة وقيمتها فيه. ترى، بم تذكر سلطة الرجل المطلقة تلك؟
وقد كتبت أعبر عن هذه الفكرة عبر منصة «إكس» بتغريدة قلت فيها: «أي سلطة مطلقة للرجل أن يكون قادراً على إنهاء عقد الزواج بكل تبعاته الاجتماعية وارتباطاته الاقتصادية وأحماله القانونية بكلمة، ما كل هذه القوة المنوطة به أن «بكلمة يحيي وبكلمة يميت». مقدس الرجل في مجتمعاتنا، يملك البشر والحجر…»، لتنقسم الردود ما بين أغلبية كليشيهية تقليدية وأقلية نقدية تنتهي كلها إلى التأمين على الفكرة والتأكيد عليها. فمثلاً، من بين ما تجلى كليشيهياً كانت ردود مثل «ما عليك إلا أن تتصوري لو أن هذه الكلمة منوطة… بامرأة!»، والتي أتصورها تفصح عن تناقض عميق في الفكر العربي الإسلامي تجاه المرأة. ففي حين أن المجتمع يكرر «كليشيه» أن المرأة عاطفية ومندفعة ولا تقيّم الأمور بالمنطق، كما يتبدى من معنى التغريدة وكثرة علامات الترقيم فيها، إلا أن المجتمع ذاته يحمّل المرأة المسؤوليات الجسام للبيت والأبناء والزلات العظام «لرجل البيت» الذي ستتعدد علاقاته بسبب «بيولوجيته التي لا يستطيع التحكم بها» والتي تحتم على المرأة التحمل والصبر وغض الطرف حتى تسير الحياة وتُصان الأسرة؛ فمن أين هي كائن عاطفي بلا منطق، ومن أين هي المستوجب عليها الصبر والتحمل و«التفويت» وعدم الاستسلام لعاطفة الغيرة حتى تستمر الحياة؟ كيف يتم التقنين «لجرائم الشرف» في الدول العربية والإسلامية تعاطفاً مع جموح الرجل «العقلاني المنطقي» وتجاهلاً لاندفاع المرأة «العاطفية الهستيرية» حتى إن قاتل زوجته يسجن سنة أو سنتين، في حين تصل عقوبة قاتلة زوجها إلى الإعدام؟
أتت كذلك تغريدات أخرى تحمل حمداً وشكراً للقانون الذي يمكّن المرأة من خلع نفسها ومن اشتراط العصمة بيدها قبل الزواج دون أدنى التفات لاستشكالية هكذا «مزايا عظيمة» معطاة للمرأة. أولاً، التفويض بالعصمة، وهو تفويض مختلف عليه في المدارس الإسلامية من حيث إباحته من عدمه، يمثل تنازلاً عن حق، فالرجل هنا يتنازل عن حقه متكرماً به على الزوجة التي «ستدخل في عصمته». كيف يتشكل عقد متزن عادل يُفترض أن يدخل فيه الطرفان بإرادتهما، وإن كان هذا غير متحقق للمرأة في كل المدارس الإسلامية، دون أن يضمن حق الخروج المتساوي منه للطرفين كذلك؟ وثانياً، يرتكز «حق» الخلع على فكرة «شراء» المرأة لحريتها. والخلع كذلك، مثله مثل كل التشريعات الإسلامية، تختلف صياغته من طائفة لأخرى وفي تقنينه من بلد لآخر، إلا أن الاستشكالية الإنسانية والاجتماعية والمنطقية في كل الحالات تتمحور في حقيقة أنه يتم التعامل مع المرأة على أنها «ملك يمين» يفترض أن تشتري نفسها وحريتها من الرجل إذا ما أرادت الخروج من فكرة الشراكة الزوجية معه، وأي شراكة غريبة مريبة في ميلها لطرف دون طرف هي تلك.
لربما سيدور الدفاع عن فكرة الخلع حول قاعدة المسؤولية المالية المنوطة تماماً بالرجل في التشريعات الإسلامية، وهو دفاع يستحق النظر في واقعيته وتعقيداته. فمن ضمن الأسباب التي وردت في الردود المؤمنة بأحقية الرجل في الطلاق كانت تلك التي تذكر بتكفل الرجل بالمسؤولية المالية بداية من المهر، مروراً بكل مستلزمات الحياة، وانتهاء بالمؤخر والنفقة حال انتهاء الحياة الزوجية. لهذا الموضوع تشعبات وتعقيدات، ذلك أن هذه المسؤولية المالية بُنيت قبل ألف وخمسمائة سنة على حقيقة تمركز كل قوى العمل والمال في أيادي الرجال، وندرة استطاعة النساء في ذلك الزمان، وهي حقيقة لا تزال فاعلة إلى حد كبير، ذلك أن سوق العمل والمال لا يزال في معظمه في أيادي الرجال لا النساء. كما أن التشريعات الدينية، مثل تشريع الإرث، تكفل للرجل ضعف ما يكفله للمرأة. وعليه، فإن وضع المسؤولية المالية على الرجل يتأتى من حقيقة أن الحظوظ المالية والعملية هي من نصيبه أولاً وغالباً.
لكن ذلك لا يمنع أن ميزان القوى بين الجنسين، إذا ما أردناه أن يعتدل، سيتطلب تعديلاً «على الميلتين». فحين نطالب بإعطاء المرأة ذات السلطة الحياتية القانونية على مسار حياتها، فتصبح لها ذات حقوق الزواج والطلاق والحضانة والإرث وغيرها، فلا بد أن نستوعب أن ذلك يتطلب تحملها تلك المسؤوليات المادية والحياتية ذاتها، متخلية عن موقع المعيلة والرعية، مرتفعة إلى موقع الوصاية على النفس مهما كان صعباً أو متطلِّباً. هذا الارتفاع إلى موقع المسؤولية يتطلب كذلك عدالة اجتماعية في حظوظ العمل والمدخول وفرص الاستثمار للمرأة ورفع درجة الثقة المجتمعية والاقتصادية بها حتى تكون لها ذات القدرات المالية والحظوظ العملية والفرص الاجتماعية، وبالتالي تستطيع تحمل المسؤولية ذاتها. هي قصة البيضة والدجاجة التي لا نعرف من أين بدأت ولا كيف ننهيها.
بقي أن إحداهن علقت على منصة «إكس» تعليقاً نمطياً يستصغر مصائب النساء ويعطيها دائماً كرسياً خلفياً من أحداث العالم، قائلة: «في ظل كل ما تعيشه النساء محلياً ودولياً… تغريدة فاشلة». وفي حين أن معاناة المرأة تحت الحرب وتبعاتها، تحديداً في الوقت الراهن المرأة الفلسطينية والسودانية والسورية والأوكرانية، يفترض أن تكون هي الهم النسوي الأول، فلا يجب أن تكون تحت أي ظرف وفي أي زمن هي الهم النسوي الوحيد. لا يفترض مقارنة الهم بالهم ولا تأجيل وجع لحساب وجع، والحديث عن هم نسوي لا يعني استصغار غيره ولا إهماله، لكنها تلك العقلية التي ترتب الهموم طبقاً للموقع الحياتي الشخصي، والتي ترى أن هموم المرأة درجات، وأن جل همومها بكل درجاته يرتكز على سلّمة دنيا من الأهمية أمام الهم العالمي. وجع المرأة الفلسطينية لا يفترض أن يسكتنا عن أوجاع غيرها من النساء، والحديث عن أوجاع الأخريات من النساء لا يعني التقليل أو الإهمال لوجع المرأة الفلسطينية، رمز الصمود والمعاناة النسويين في العالم اليوم. حق المرأة في التحرر اجتماعياً وقانونياً وفي الاكتمال إنسانياً ومواطنياً، هو حق يشمل كل نساء العالم وتحت كل الظروف، ولا يجب أن نتوقف في الحديث عنه والنضال في حقله إلى آخر يوم من حيواتنا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نزار حسين راشد شاعر وكاتب أردني.:

    يسألني أليس من الاستخفاف بمصير الإنسان أن يكون الطلاق في الإسلام كلمة؟ جواب:” كن” كلمة خلق الله بها العالم كله.الموقف كلمة تحاكم وتسجن لأجلها او تكافأ وترفع.
    الحق كلمة والباطل كلمةوالزواج كلمة

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية