سؤال الأخلاق في الحداثة

لم يعد الحديث اليوم عن حداثة سائلة، وعولمة ضارية، تمارس نوعا من الضغط الرأسمالي المتوحش على العالم بأسره، ضربا من الأوهام أو اليوتوبيات؛ ومن ثم أصبحت مسألة الهوية الثقافية مثار جدل وتساؤل كبيرين، بين من يتحصّن بالماضي، خوفا من الطارئ والجديد، فتغدو بذلك ثقافة الآخر (في نظره) غازية ولا تقر بشرعية الاختلاف، وعليه وجب التعامل معها باحتراز وحذر، وبمقدار وريبة، ومن يدعو للانفتاح الكلي على مكتسبات الحاضر والمُتاح عالميا، الذي لا يمكن القفز عليه أو غض الطرف عنه مهما حاولنا. وبين هذا وذاك، هناك من يؤسس لرؤية مواربة ترى في الانفتاح على العالمية حتمية تاريخية، لكن بنوع من المساءلة والحوار المتكافئ، أي الحوار المسجور بالعفوية كما يقول محمد عابد الجابري: «الحوار بين الحضارات أو الثقافات، إما أن يكون عفويا تلقائيا نتيجة الاحتكاك الطبيعي فيكون عبارة عن تبادل التأثير، عن أخذ وعطاء، بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات أو تداخلها لا يحتاج إلى دعوى، ولا يكون شعارا، بل هو عملية تاريخية تلقائية، عملية يحكمها طلب الأفضل، على غرار ما حدث مثلا في الحضارات العربية الإسلامية، حيث تلاقحت حضارات متعددة ، فارسية ويونانية وهندية» ( مواقف- إضاءات وشهادات، ع 58).
وفي مثل ظروفنا الراهنة، والمجتمع العربي يعيش حاضرا مضطربا في ظل مصير مجهول، حيث يواجه المسلم كما المسيحي والعلماني واليساري واليميني مصيرا واحدا، بات – الوضع هذا – من اللازم علينا كعرب أن نعيد طرح سؤال الهوية العربية الإسلامية من جديد. هوية لا يمكن إلا أن نراها متجددة، ومتعددة، ومتخلقة، وآمنة. إن التخلق في عصب هذا المنعطف التاريخي العربي، سيكون هو الضامن الحقيقي للذهاب بالأمة العربية الإسلامية، نحو مستقبل عربي أكثر أمنا وخصوصية. فما هي حدود الثابت والمتحول في هويتنا الثقافية العربية الإسلامية؟

أولا: في مفهوم الهوية الثقافية

يعرّف أندري ثيفنان الهوية الثقافية بعد أن طابقها مع معنى الحضارة بكونها «مجموع سمات خاصة في مجتمع معين، ويميز بالتالي هذا المجتمع في حالة ومكان محددين وهي بهذا المعنى نصف نتيجة أو حالة على الأقل» ( تدريس الاختلاف – ت .لحسن بوتكالي) وبذلك فإن الهوية الثقافية تعني «مجموع طرق حياة المجتمعات الإنسانية» (نفسه). وفي ظل هذا المد الثقافي- الحضاري الأمريكي الكلياني، الذي يروم تبسيط وتبضيع الأشياء في الكثير من جوانبه، وبالتالي إفراغها من معانيها، تأتي مشروعية التساؤل حول مدى تأثير العولمة على هويتنا الثقافية. فقد نجانب الصواب، إن قلنا إنه لا خوف على هويتنا الثقافية، في ظل هذا الوضع الملتبس والمعقد. لكنني، مع ذلك، أتصور أن الاختلاف الذي يميز الهوية العربية الإسلامية، من حيث طبيعتها الثقافية والعرقية ومكوناتها اللغوية… هو ما يكسبها الغنى والخصوصية. الخصوصية هنا، لن تكون – في نظري- إلا بالتخلُّق الذي يضمن للأشياء معانيها. والمعاني هي وحدها القادرة على مقاومة هذا المد الثقافي المهيمن، المريد للاستهلاك والقهر والتنميط. فلا محيد إذن، عن أن النظر إلى الهوية باعتبارها انكماشا وتقوقعا حول الذات، سيورط العرب في الجمود والانشداد إلى بوتقة الماضي؛ والحال إن الهوية الحقة، في ظل هذه التحديات الجديدة، هي المشاركة الفعلية في التحديث وفي مستلزماته. إنها هوية متجددة على الدوام، دون أن يفقدها ذلك خصوصيتها وفرادتها، ما دامت متخلفة وآمنة روحيا.

إن الإنسان هويةٌ أخلاقيةٌ قبل وبعد أن كانت عقلانية، على اعتبار أن الفعل العقلي ليس وحده الكفيل بخلق التمايز بين الإنسية والبهيمة؛ بله، وإن كان مدخلا آمنا للفعل الخلقي، يُنزل الإنسان إلى مرتبة البهيمة متى صار ضارا.

ثانيا: الإنسان هوية أخلاقية في الأساس

ليس من شك في أن الإنسان في أصله، كائن مجبول على التخلق، انماز وتفرّد بهذه الخاصية عن سائر المخلوقات الحيوانية، عكس ما كان يُعتقد منذ الفلسفة اليونانية، إلى يومنا هذا، بأن العقل هو المقوم الرئيس والفيصل بين الإنسية والبهيمة. فقد يشترك الحيوان مع الإنسان، بنسب تقل أو تكثر، في هذا التعقل. غير أن ما يسم هذا الكائن البشري بسمة الإنسية هو الفعل «الإيتوسي» (أي الفعل الخلقي) بما هو فعل بمكنته القدرة على نقلنا من عالم التجلي- بتعبير هيدغر- إلى «عالم المثال» الذي يقول عنه المفكر طه عبد الرحمن «هو بالذات محل القيم الذي بواسطة طلبه واتباعه يتوصل المرء إلى الأخلاقية، فالحيوان لا يكون أبدا كائنا أخلاقيا» (سؤال الأخلاق).
إن الإنسان هويةٌ أخلاقيةٌ قبل وبعد أن كانت عقلانية، على اعتبار أن الفعل العقلي ليس وحده الكفيل بخلق التمايز بين الإنسية والبهيمة؛ بله، وإن كان مدخلا آمنا للفعل الخلقي، يُنزل الإنسان إلى مرتبة البهيمة متى صار ضارا، يقول طه عبدالرحمن «الواقع أن الأخلاق هي عين الإنسانية في الإنسان بحيث يكون قدرها فيه على قدر تخلقه، وليس التراث الحي ولا الثقافة الصحيحة ولا الحضارة السلمية، إلا جملة أخلاق.. فالعقل خلق ما قام على الحق، والعلم خلق ما طلب النفع، والعمل خلق ما سعى إلى الصلاح، والحياة خلق ما أفادت حفظ النفس، فإذن حقيقة الأخلاق هي أنها كيفيات وجود الإنسان بما هو إنسان» (حوارات من أجل المستقبل).
لا ريب إذن، والحال هذا، أن طبيعة الهوية الإنسانية أخلاقية بامتياز، وأن الإنسان المتخلق، في سعيه إلى حقيقة الوجود، لما يزل يتشبث بحقيقة التخلق، دون أن يسرف في إلغاء وتغييب العقل المنحاز ـ للأسف ـ داخل المشروع الحضاري الجديد، في جوانب كثيرة منه إلى اللاأخلاقية.

ثالثا: اللاأخلاقية سبب التذويب الثقافي

لئن حاول المشروع الحداثي الغربي في هندامه اللامتخلق، أن يتنكر للوازع الأخلاقي الديني، كما سلف، وأن يتحدر قسرا، وبتكوثر مفرط، من الأدنى (المدنس) إلى الأعلى (المقدس) كمحل للخلق، فإن ظاهرة العولمة كامتداد طبيعي لهذا المشروع غير المتخلق، سوف تزج بالإنسانية، بكل الوقاحة، في تجاويف التيه، وعذابات الاغتراب، وفي الإيمان المطلق بثقافة التبضيع والتسليع. لقد أصبح عالمنا، في رحاب العولمة اللامتخلقة، يعرف وبشكل لا تخطئه كل عين فاحصة انهيارا فظيعا للمنظومات الأخلاقية، وتنكرا لكل الأشكال والأنسقة التراثية المتحررة والمتنورة، وكذا الدساتير السلوكية. أيضا وعطفا على ما سلف، تسييدا لثقافة واحدة ووحيدة تتبطن الفراغ، وتستوطن منطقا مغلقا وطهرانيا، أساسه التطابق والتماثل بأصلٍ يعتبر نفسه الأحق والأجدر، مع العلم أن التماهي، وكلَّ المحاولات الساعية للقضاء على إمكانات الاختلاف، لا يعني إلا الانخراط، في ما يسمى اليوم بتصادم الثقافات. وبهذا الإعلان عن موت الأخلاق في زمن الرداءة، يمكن التلويح بنهوض مشروع حضارة تنتفي فيه القيم، ويستبسل فيه خسف الكلام وإسفافه، حيث لا مجال إلا للهشاشة والرطانة والضحالة، في غياب المعنى والجدوى. حضارة تروم، عن سبق إصرار وترصد، العقل في نزوعه التقاني، وفي أبشع صور الإبادة الثقافية. إنها السكتة الروحية التي تتهدد الإنسان دونما انقطاع في هذا الزمن، التي تحول بموجبها الإنسان إلى كائن آلي ـ روبوتيكي، بالقدر الذي حول الحياة إلى كتلة إسمنتية، بطبقات جوفاء، يستوطنها مسخ ثقافي أحادي- وثوقي، ولا يؤمن سوى بالفردانية والذات المتماهية والمتماثلة مع أصلٍ غير متخلق، أصلٍ يَعْتَبِرُ أحقيتَه شرطا لا محيد عنها. والحال إن الذات لا وجود لها في غياب الآخر، بل إن غيريتها هي «ما يحقق وجودها الإثباتي، أما تماهيها فهو ما يرجعها إلى حالة الانمحاء والذوبان داخل قوة تحول دون انبثاقها كرغبة وإرادة» (عبد العزيز بومسهولي).
إن الذات الإنسانية الآن، هي أكثر تصدعا وتشققا من أي وقت مضى، وهي في حاجة ماسة إلى مصالحة مع نفسها. مصالحة لن تتم إلا عبر جداول الروح في علاقتها بالأنا، والأخلاق في علاقة الذات بالآخر. يقول محمد التهامي الحراق ـ في هذا الصدد – إن الإنسان، في حاجة ماسة للبحث «عن شكل من أشكال الميتافيزيقا الضرورية للحياة، تلك الوحدة العميقة التي تجعل الإنسان يحيا بنوع من المصالحة مع ذاته وتاريخه وذاكرته، ويأمل في أحلام مشتركة سعيدة، تؤهله لكي يقاوم مختلف نزعات إبادة الإنسان وتبديده، التي يفور ويمور بها عالمنا المعاصر المتصدع على أكثر من مستوى» (محمد التهامي الحراق : مجلة الإشارة، عدد مايو/أيار 2003).

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول قارئ:

    جميل، ويعكس واقع معاش

اشترك في قائمتنا البريدية