إن مجرد الحديث عن الذكورية والأنثوية في الأدب، يتبادر إلى الذهن مباشرة، إشكال الجنوسة، أو الجندرية بصيغة أخرى. لقد أقرت مجموعة من البحوث الأنثروبولوجية والسوسيولوجية ذات اعتبار (مارجريت ميد تمثيلا لا حصرا)، بأن الجنوسة هي بنية ثقافية في الأساس، وليست مجرد ميول أيديولوجية أو فنية حتى. والحق أن ميلاد الثقافة العربية، ومنها الأدب العربي، استحكم فيه الوعي الذكوري بشكل لا يمكن لكل عين فاحصة أن تخطئه، على أساس أن العقول المسؤولة عن صناعة الثقافة كمؤسسة اجتماعية، كانت عقولا ذكورية صرفة، ما دام أن سلطة القرار كانت دائما في يد الرجل. هذا الأمر سيجعل الوعي الذكوري، ينعكس على هذه المؤسسة بكل تأكيد. إلا أنه، وبعد هبوب رياح الحداثة الغربية على ثقافتنا العربية، وما أثارته من جلبة في العلاقة بين المرأة وماضيها، ستسعى الكاتبات العربيات إلى إعادة النظر في بنى الثقافة العربية، باعتبارها أنساقا ينبغي لها أن تعكس تصورات المرأة للكتابة وللرجل وللوجود، حتى تصبح الأنساق مكتملة.
فهل استطاعت الكاتبات العربيات تجاوز وتخطي النسق الذكوري للأدب العربي؟ وما هي الأوراش التي فتحتها الشاعرات المغربيات، في القصيدة المغربية المعاصرة، كمدخل من أجل صوغ جديد لأدب نسائي لا يشتغل بالضرورة بمعطيات الخطابات الأدبية الذكورية؟
أولا: النسائية وتعثر الحضور
إن الخوض في أي قضية، كيفما كانت طبيعتها، يقتضي بالضرورة الانتقال بها من مجرد موضوع إلى تمثلها كخطاب معرفي أولا، ثم الوعي بها ثانيا. بهذه الكيفية فقط، تتحول القضية إلى وسيط معرفي ينتج المعرفة ويغذيها، مثلما ترى زهور كرام. وحري بالذكر أن الكتابة النسائية، شكلت في الآونة الأخيرة، مادة خصبة للنقاش الفكري في الوطن العربي، من محيطه إلى خليجه، علما بأن الخلفية وراء هذا الجدال، كانت تضمر غاية الدفاع عن المرأة كفاعل أساس في الإبداع العربي. ولعل الكثافة الموضوعية تقتضي من الدارس اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن يجانب نظرة المجتمع للمرأة، وأن يغيب تمثلاتها في الثقافة العربية التقليدية، وأن ينظر إليها بالمقابل كشريك أساس في إنتاج المعنى، وكذا صياغة التصورات المناسبة.
ولبلوغ هذا المبتغى، تقترح الكاتبة المغربية زهور كرام، أداة إجرائية تتمثل في وجوب النظر إلى المرأة كذات في عملها الإبداعي، لأن وضعية الذات في الكتابة، هي تحول من «ذات منتجة للتعبير الرمزي، إلى موضوع للتخييل الرمزي». وبذلك يمكن لمفهوم الكتابة النسائية، «باعتباره إجراء نقديا، أن ينتقل من موضوع يعين كتابة المرأة، إلى وسيط معرفي ـ نقدي، بموجبه نستطيع أن نقترب من وضعية الذات في السرد العربي الراهن، بعيدا عن مفهوم التوثيق، قريبا من مفهوم القراءة» (لوسي يعقوب). ولا مراء في أن دور المرأة، في الحياة والأدب، لم يعد تكميليا أو إضافة تكميلية للتاريخ، بقدر ما أصبح عاملا أساسيا لنهضة الفكر والإبداع.. ومسيرة حقيقية للتاريخ. فقد تميز عدد وفير من النساء في الوطن العربي عبر التاريخ، ونبغت في مجال الأدب، منذ القدم، ما لا يعد ولا يحصى من الأسماء النسوية. أستحضر هنا، تمثيلا لا حصرا، الخنساء أميرة شاعرات العربية، والشاعرتين الأندلسيتين ولادة بنت المستكفي واعتماد الرميكية، وفي العصر الحديث أعرج على عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وسهير القلماوي، والشاعرة الفلسطينية طلعت الرفاعي، وليلى بعلبكي، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان، ومي زيادة، وغادة السمان، وسحر خليفة، وخناثة بنونة، وأحلام مستغانمي، وأسماء أخرى عديدة، خصوصا في وقتنا الراهن، يصعب ذكرها جميعا.
إن ما يميز هذه الكوكبة من الأديبات والشاعرات، كون اللغة، عند كل واحدة منهن، تكتنز «كل المشاعر الحلوة، المشاعر المشتعلة، والشاعرة، والمناضلة، والثائرة، والمكافحة، والرائدة، والمفكرة، والكاتبة، والفنانة، والإنسانة، من كل بلد عربي، ومن كل إنتاج.. ترك بصماته في دنيا الفن.. والأدب» (لوسي يعقوب). وقمين بالإشارة إلى أن الكاتبة العربية المعاصرة، بدأت تنافس الرجل في مجال الأدب، بشكل قوي، في السنوات الأخيرة، انتصارا لذات مغبونة، لن يستطيع الرجل أن يعبر عنها بالنيابة، مهما حاول. تقول لوسي يعقوب «ولكن عندما تعبر عن هذه المشاعر نفسها.. المرأة بنفسها.. تكون أقدر على التعبير عن نفسها.. وعن أحاسيسها.. أكثر من الرجل. لذا فمن هنا جاء تعبير (الأدب النسائي)». ومع ذلك، فإن هناك مجموعة من الاتهامات، تحولت عند بعضهم إلى كليشيهات ظلت يقظة، مفادها أن حضور المرأة العربية من داخل فعل الكتابة، ظل مرتهنا باشتراطات الكتابة الذكورية، وآلياتها، إلى حدود نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، إذ ستخوض الكتابة النسائية العربية في مواضيع، ظلت قرونا عديدة، مجرد تابوهات أو بالأحرى حكرا على الرجل، الشيء الذي جعلها (الكتابة) تنفض غبار الظلم والتهميش والدونية، عن ذات مغبونة، لا تقل ندّية عن الرجل. لقد تم ذاك بكثير من الاحترام عند بعض الكاتبات، كما لوحت بذلك أحلام مستغانمي حينما قالت: «لا تبحث كثيرا.. لا يوجد شيء تحت الكلمات. إن امرأة تكتب هي امرأة فوق كل الشبهات.. لأنها شفافة بطبعها. إن الكتابة تطهر مما يعلق بنا منذ لحظة الولادة».
ثانيا: الشعر النسوي في المغرب: من السير ذاتية إلى الجسدانية
لم يكن حضور المرأة، في بلاد المغرب، خصوصا في مجال الأدب، أحسن حالا من نظيرتها العربية. ففي الشعر، وهذا ما يهمنا في هذا المقام، لم تستطع المرأة/ الشاعرة المغربية، أن تصدر أول مجموعة شعرية إلا في حدود عام 1975، من خلال أضمومة الشاعرة فاطمة الزهراء بن عدو الإدريسي، إلا أن ظهور قصيدة النثر في ثمانينيات القرن المنصرم، سيكون له الأثر البليغ في ذيوع وانتشار مجموعة من الدواوين لشاعرات ارتبط ظهورهن بظهور هذا الأفق الشعري الجديد. وليس من شك أن هذا الذيوع الذي حققه هذا المقترح الشعري المغاير، سيساهم في صبغ الكتابة الشعرية النسائية في المغرب، بطلاء الخصوصية والاختلاف والتمايز عن الكتابة الذكورية/الفحولية ما أمكن. يقول الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري في هذا الشأن: «ومع شيوع قصيدة النثر، انعطفت الشاعرات بتجاربهن إلى مرحلة شعرية جديدة لعل أهم سماتها تجذير البعد الأنثوي للقصيدة بخصائصها اللغوية ومقوماتها البلاغية والفنية، بما في ذلك النزوع نحو الذاتية والانهمام بالجسد بتفصيلاته وإيحاءاته المتنوعة». وعلى الرُّغم من الحضور القوي لعقدة «الجسدانية»، بما هي محاولة ماكرة، ورغبة ملحة في إثبات ذات مغبونة ومضطهدة من طرف طهرانية فحولة مريضة، فإن الكتابة الشعرية النسائية في المغرب غايرت قدر الإمكان الشعرية الذكورية، تلك التي تقوم على الجملة الشعرية الطويلة، والنفس الشعري الطويل، والقوة في القول الشعري، والمتانة في الأسلوب، مستعيضة عنها بالبوح الشعري، والقاموس الشعري الهامس، والخوض في جراح الذات، مع إعادة الاعتبار للجسد الذي ظل قرونا طويلة يُنظر إليه كموضوع جنسي ليس إلا.
إن أهم ما يلفت في الشعر النسائي في المغرب، في وقتنا الراهن، كونه يتشكل من تجارب «تجعل من الذات موطنا لكينونات، ومن اللغة كائنا يغرس وجوده بطاقة الرؤى وأحلام اليقظة والأشواق الدفينة وغيرها، مما يدخل في صميم الكينونة الأنثوية وماهية النوع (الجندر)» كما يذكر الوراري. صفوة القول إن الكتابة الشعرية النسائية في المغرب، تراوحت، في عمومها، بين الكتابة الثورية (ثريا السقاط)، والكتابة الصوفية (أمينة المريني)، والكتابة الجسدانية بشواغلها المتحررة (وفاء العمراني)، وكتابة الذاكرة (إيمان الخطابي)، مع العلم أن أنا الشاعرة، في كل هذه المحاولات، لم تدخر «جهدا إبداعيا لتوطين متخيلات كتابية مشبعة أنوثة في رؤيتها إلى العالم، عابرة لأكثر من بناء نصي: غنائي ودرامي وهجين؛ ووعي شعري: صوفي وجسداني وسريالي» (عبد اللطيف الوراري).
كاتب مغربي
لا أرى في الثقافة العربية، والأدب منها، تمييزا ضد المرأة، تمييزا يدعوها لطلب حق لها هضم، أو حاجة ما للندية ومنافسة أخيها الرجل. لم يك الطريق أمامها مقفلا، أو أن الذكورية كانت تمنعها. هذا وهم، وآيته أن من ذكرهن الكاتب من أسماء قد وجدن الفضاء للكتابة متاحا فكتبن شيئا أردنه.
هكذا هي النسوية تستدعي مظلومية وتخلق جوا ليس بالضرورة أن يكون واقعيا. ولعلي لا أكون متشائما جدا إذا قام غير المرأة والرجل يوما بادعاء حق مسلوب ومارس في الأدب لونا من الندية!