سؤال السوسيولوجيا في زمن الوباء

حجم الخط
2

لا تزخر خريطة السوسيولوجيا العالمية بتقاليد كثيرة عن العلاقة بين السوسيولوجيا والمرض، إلا في بعض دراسات قديمة، اهتمت بما أطلق عليه «مجتمع الطب»، حتى قبل تبلور السوسيولوجيا كعلم على المستوى الأبستمولوجي. وقد سلكت تلك الدراسات منحى الخوض في مسببات المرض على المستوى الاجتماعي.
ما عدا ذلك، وباستثناء دراسات فوكو عن المرض «الجنون وولادة العيادة»، التي طالما تتم العودة إليهما، فإن تفسير العلاقة بين الأسباب الاجتماعية للمرض والسلوك المرافق له، لم يجر التنظير له سوسيولوجيا، ولم يحظ بمكانته التي تستحق.
وربما ساهمت في ذلك أيضا تلك الاكتشافات العلمية، التي حصرت مسببات المرض اليومي، الذي بات في طي النسيان، وهو ما كان يتعلق بالتحكم بالأمراض الشائعة، التي كانت تصيب الجماعات مثل الحمى والملاريا وغيرها. وقد أسست تلك الاكتشافات إلى سلسلة مترابطة من سياسات حصار «الفيروسات والأوبئة» الجماعية، اعتمادا على الوقاية منها بفعل المعرفة بمسبباتها.
ومنذ بدايات القرن التاسع، ترافقا مع استقرار العالم «الصحي»، على مساهمات باستور، لم نر مساهمة جدية تنظيرية في ميدان السوسيولوجيا إلا مع ك. هيزلتش التي أسست لسوسيولوجيا الصحة، معتمدة في ذلك على تقاليد المدرسة الأمريكية في سوسيولوجيا العلاقة بين المريض والمجتمع.
لكن عمل هيزلتش اقتصر على دراسة المرض وكأنها دراسة أنثروبولوجية، إذ توجد هناك أشكال من الأمراض، ترى أنها اختفت وحلّت محلها أمراض أخرى، تم إيجاد علاج لها في المنظومة الصحية الغربية، فيما لا تزال تقبع دول العالم الثالث أسيرة الأمراض القديمة وكذلك صعوبة العلاج من الأمراض الجديدة.
مقاربة نطلق عليها سوسيولوجيا «التمثل المجتمعي للصحة»، الذي يعني ضمنا اختلافات بين ثقافة وأخرى، في التعامل مع الأمراض والصحة عموما. لكن مع فيروس كورونا (2019-nCoV)، فإن تفسير الظاهرة المرضية المتفشية في مجتمعات العالم كله، لا تبدو أنها تستطيع الاتكاء على كل ما سبق من التنظيرات السوسيولوجية في هذا الميدان. نحن اليوم أمام ظاهرة استطاعت أن تخلق عقلا جمعيا عالميا، كانت سمته الرئيسية هي الخوف بالدرجة الأولى، ثم الهروب من خطر الفيروس غير المرئي، والخلاص الفردي على حساب الآخرين «من يشاركوننا الحياة في تنظيم اجتماعي واحد، أو في الحياة على سطح هذا الكوكب». ثمة أمور يمكن ملاحظتها في سياق تفشي فيروس كورونا على المستوى السوسيولوجي:
أولهما، هو ذلك السلوك الغريزي للإنسان وقت الأزمات الكبرى، وهنا في هذه الحالة هي أزمة ألمّت بكل المجتمعات على اختلاف تصنيفاتها. فقد بات هدف الحفاظ على الحياة هو الهدف الأول للفرد، واتجاهه نحو ما نطلق عليه «الاصطفاء الصحي» على غرار الانتخاب الطبيعي، والبقاء هنا ليس للأقوى بالمعنى المجازي، بل المادي الصحي الواقعي.

يبدو أن النظرية السوسيولوجية سوف تهتم الآن بالعودة إلى الارتدادات الجماعية لمرحلة الحفاظ على البقاء، وتعيد من جديد تثبيت أو نفي مقولاتها حول السلوك «المتوقع وغير المتوقع» للفرد وقت الأزمات الكلية

قد يبدو سلوك الفرد في المنظومة الغربية تطبيقا دقيقا لما سماه هابرماس بسيادة العقل الوظيفي على مقدرات الحياة اليومية. استعادة هابرماس تعيدنا إلى مناخ النقد الذي وّجه لأنصار «ما بعد الحداثة» من قبل مفكرين وسوسيولوجيين، اعتبروا أن ما وصلت إليه مجتمعات ما بعد الحداثة من العقلانية، لم تتأت إلا من خلال هيمنة النسق الأداتي على الأنساق المكونة للتنظيم الاجتماعي ما بعد الحديث، وهو ما تكرّس في الهيمنة، عبر سياسة الاستبعاد، وليس من خلال نسق ديمقراطي، يعيد الاعتبار لفكرة «الأخلاق الكلية» أو النظام الأخلاقي. ثمة أيضا من يجادل بأن المنظومة الأخلاقية للمجتمعات الشرقية، أو «ما قبل الحديثة» من شأنها أن تعيد الشك بكل المقولات ما بعد الحداثية، وتثبت وجهة نظر الكثير من المنظّرين، بأننا لم نصل بعد إلى مرحلة «الحداثة»، شك يُعنى «في حده الأدنى» بالسؤال عن أفعال التواصل ودور الجوانب الروحية في علاقتنا مع الآخرين.

ثانيهما، التوازن الوظيفي بين الموارد البشرية والموارد الطبيعية. فقد جادل الكثير بأن هذا الفيروس، ما هو إلا تجسيد للنظرية المالتوسية، التي ترى أن الأوبئة والحروب هي «ضرورة» لإعادة التوازن للعالم، الذي نعيش فيه. فماذا لو لم تكن هناك أوبئة عبر التاريخ البشري؛ قضت على «الفائض» من السكان في كل مرحلة من تاريخ الإنسان؟ ورغم أن حال الوباء الحالي يختلف في بعده المعرفي والتواصلي عن الأوبئة السابقة «تدفق المعلومات حوله»، فإن السلوك الفردي والجمعي لم يتغير في ردة فعله تجاه أزمة وباء عامة، وهذا يعني أن «النسق المعلوماتي» فقد بعده الوظيفي هنا، لاسيما مع عودة «نسق الدين» إلى واجهة الأنساق الأخرى، زمن هذا الفيروس، وهو ما يعني إعادة النظر في جدوى «البعد الوظيفي» للأنساق التي يتشكل منها المجتمع، وإعادة الاعتبار للبعد الديني، الذي سار متوازيا مع محاولة اكتشاف عقار يقضي على الوباء «دعوات ترامب للصلاة الجماعية والمساجد والدعاء اليومي لرفع البلاء».
ثالثهما، هو جدوى النظرية السوسيولوجية في الزمن الافتراضي، الزمن الذي يغيب فيه التواصل البشري، وهي فكرة طرحت في عصر «سطوة التكنولوجيا» عن جواز النظر إلى العلاقات كأنساق اجتماعية متعينة؟
يبدو أن النظرية السوسيولوجية سوف تهتم الآن بالعودة إلى الارتدادات الجماعية لمرحلة الحفاظ على البقاء، وتعيد من جديد تثبيت أو نفي مقولاتها حول السلوك «المتوقع وغير المتوقع» للفرد وقت الأزمات الكلية، وعلاقة السلوك الفردي بالجانب النفسي من جهة والمعتقدي من جهة أخرى، ومن ثم عليها أن تبحث في دور التطور الصناعي والعلمي في تطور سلوك الفرد حيال أزمات مرّ بها أجداده في عصور وصفت بما قبل الحديثة.
قد ينتهي العلم إلى القضاء على الفيروس، لكن التفسيرات الاجتماعية والسيكولوجية والأخلاقية لن تنتهي، وستخلق لها مساحات من التحليل وإعادة النظر، ربما لعقود طويلة، وستعيد فهم السلوك الإنساني من جديد في حال جاء فيروس آخر. فكما أن التحليلات في العلوم ليست نهائية، فالسلوك الإنساني سيبقى عصيا على الفهم الكلي، وستبقى الفيروسات والأوبئة تصادف الإنسان في كل مرحلة يعتقد فيها أنه قد توصل إلى فهم العالم.

٭ أكاديمي فلسطيني ـ سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Sima:

    دكتورنا الرائع كل الشكر على هذا التنظير الذي يفتح الباب أمام تنظيرات لاحقة عن سلوكيات الإنسان وتعامله مع الأوبئة في المستقبل بحسب كيفية تطور الأحداث الراهنة. كل الاحترام والمحبة، شكراً جزيلاً.

  2. يقول مرزوق مولاي:

    بارك الله فيك دكتور على هذا الطرح

اشترك في قائمتنا البريدية